قال لابنتيّ جملةً بالهولندية لم أفهمها… "كيف بدّي أردحله؟"
أكتب هذا النصّ وقد ازدادت خلال الأسبوع الماضي الساعات التي ستقضيها ابنتاي، سلمى وشهرزاد، في إطار إضافي يتحدث اللغة الهولندية؛ فإلى جانب "الحضانة"، بدأتا بما يُسمى مرحلة "ما قبل المدرسة"، وهي مرحلة مخصّصة للأطفال ما بين سنتين إلى أربع سنوات.
طبيعي أن تصبح لهما أطر تتحدث الهولندية أكثر، وذلك لأنهما تعيشان في مدينة هولندية! أدرك ذلك، وقد هيّأت نفسيتي بالمطلق لهذه المرحلة التي "ستحتل" فيها الهولندية حيّزاً أكبر على حساب العربية، لغتي الأمّ، أو أنهما ستعودان إلى البيت بمخزون كلمات هولندية أكثر، فمؤخراً راحتا تقولان لي: "ياااا" بدلاً من "الآه" العكّاوية التي تبنّتاها في زيارتنا الماضية لمدينتي، و"كايك إس" بدلاً من "شوفي"... إلخ.
لكن هذا الإدراك لا يمحو "شعور الأمّ" بأن طريقهما في الابتعاد عني، أي عن لغتي، أي عن لهجتي "الراماوية" (نسبة إلى الرامة) و"العكّاوية"، قد بدأت. شعور مربوط بالضرورة بعدم معرفتي بلغة ستشكّل المساحة الأوسع من حياتيهما، تفكيرهما، أحزانهما، خيباتهما، أحلامهما وشتائمهما أيضاً. وأنا أريد أن أكون جزءاً من تلك المساحة.
أنا لا أتحدث الهولندية بعد، لكني بدأت بالتعلّم منذ فترة قصيرة. فإلى جانب الأسباب الموضوعية التي حفّزتني على بدء هذا المسار، بالرغم من أني لا أملك أي وقت إضافي في حياتي لهذا الاستثمار، إلا أن هنالك سبباً واحداً كلما فكرت فيه تذكرت أني كدت أن أفرغ حياتي من كل شيء في سبيل الهولندية! ففي بداية الصيف الماضي، وفي أثناء جلوسنا أنا وسلمى وشهرزاد في حديقة عامّة صغيرة في أمستردام، مرّ فتى صغير وقال لهما جملةً بالهولندية لم أفهمها. هذا المشهد استفز ما تبقّى عندي من "شرش عكّاوي" لم تقمعه الغربة، وقلت في سرّي: "وإذا سمّعهن حدا كلمة بكرا؟ كيف بدي أرد عليه؟!"، أو برواية أخرى: "كيف بدي أردحله؟". وهكذا تسجّلت في المرحلة الأولى من كورسات الهولندية وأنهيتها بنجاح قبل فترة وجيزة، وها أنا أنتظر التفرغ للمرحلة الثانية.
هل أفعل هذا من أجلي؟ في جزء منه نعم. أحاول مذ تعرّفت على الأمومة أن أكسر ما رأيته من صور عن أمهات أهملن أنفسهن في سبيل كل ما هو خارجهن. أحاول، وأنا أتعلّم مهارات جديدةً، أن "أتحرر من أشياء أعرفها/ تعلمتها"، أو بكلمة أخرى أدقّ، أن أقوم بما يُسمى unlearning. أذكّر نفسي بهذا كل يوم، خاصةً عندما تعود أجزاء من هذه الصّور التي كسرتها إلى بيتي كل صباح، وتدخل إلى جسمي لتعيد إلصاق نفسها بي، وأحياناً تستحوذ على حنجرتي وتخرج بهيئة أصوات لأمهات تركتهنّ خلفي غضباً مما فعلنه بأنفسهن، فتعود كأني لم أفعل أي شيء في سبيل التحرر منها. يحدث هذا بينما أبتعد مسافات كبيرةً كي أعيش كما أريد.
قبل أيام، وفي مساء يوم جمعة، عُدت من عرض سينمائي نظّمته مع تجمّع ثقافي- فني جديد أسّسناه أنا وصديق مخرج سوري في أمستردام، يحمل اسم "سُكُون". يهدف التجمّع إلى "جعل الغربة التي نعيشها أكثر ألفةً"، وذلك من خلال تنظيم نشاطات فنية وثقافية لصنّاع وصانعات، فاعلين وفاعلات من المنطقة العربية بكل تنوّعها الإثني، الديني والجندري، يعيشون في هولندا. وعندما عُدت من العرض الذي حضره نحو خمسين شخصاً في قاعة سينما تتسع لأربعين شخصاً، وجدت زوجي جالساً يشاهد التلفاز. كان أوّل ما أخبرته به عن النشاط كلّه، أني على الرغم من أن تنظيم النشاطات الثقافية يصبّ في ما أحبّ أن أفعله عادة، وهو جزء من سيرورة تنظيم نشاطات ثقافية بدأتها مع آخرين وأخريات في فلسطين قبل أن أتركها، إلا أني، وللمرة الأولى في حياتي، أشعر بأني أقوم بما أقوم به اليوم ليس من أجلي، بل من أجل ابنتيّ.
"لماذا؟"، سألني سهند بالإنكليزية، وهي لغتنا المشتركة، أنا وهو، في البيت، فهو إيراني يتحدث بالفارسية مع ابنتينا، بينما أتحدث معهما بالعربية.
"لأني لا أريدهما، عندما تكبران، أن تشعرا بأن أمهما لا تنتمي إلى بيتهما الأوّل".
وُلدتُ في عكّا لأمّ تنحدر من عائلة لاجئة من قرية إقرث، نزحت إلى قرية الرامة حيث وُلدت أمي. عرفت قبل عام، وأنا في السيارة مع أمي صباح يوم ربيعي من نيسان، وسلمى وشهرزاد معنا في مقاعد الأطفال، عرفت أن المكان الوحيد الذي تشعر فيه بأنها في البيت هو مسقط رأسها، الرامة، على الرغم من أنها تعيش في عكّا منذ ما يقارب الأربعين عاماً.
أحتاج إلى وقت طويل كي أفهم الأسباب التي تُشعر أمي بالغربة في مدينة تعيشها كل هذه السنوات؛ هل كانت تشعر بهذا قبل وفاة والدي؟ هل السبب هو أنها تعمل ممرضةً في عيادة طبية خارج عكّا وتقضي ساعتين على الأقل في الطريق يومياً؟ هل حاولت أن تشعر "بالبيت" في المدينة خارج جدران بيتها؟ هل لأن المدينة بلا ذكريات طفولة ولا شباب؟ هل لأنها سكنت بعيدة عن أمّها؟ هل لأنها لاجئة؟ أو هل لأن المدينة لم تعد ترحّب "بالغريبات"؟
خلال الدراسة في عكّا، وخاصةً المرحلة الابتدائية منها، تعرّضت لفترة طويلة لما يُسمى اليوم "تنمّراً" لأني ألفظ كلمة "الأربعاء" مع كسرة على الهمزة، فكنت أقول "الإِربعاء" كما في لهجة أمّي بدلاً من "الأربعاء" كما يلفظها زملائي في الصفّ. مع الوقت، تعلّمت أن أقولها مثلهم طبعاً؛ فكلما كان عليّ أن أقول الكلمة في الصفّ أمام الطلاب والطالبات، المعلمين والمعلمات، كنت أفكر للحظة ومن ثم أقولها. اليوم أعرف أن اختفاء العفوية هذا كان من الدروس الأولى عن كيفية الشعور بالغربة في بيتك.
مع رغبة في أن أغرس جذوراً في مدينتي الجديدة، أمستردام، لأبني بيتاً، أعرف أن ليس هنالك متّسعًا من الوقت اليوم لأفعل ذلك، الوقت الذي كان كثيراً ومتاحاً قبل الأمومة. مع الحسرة هذه، تعزّيني فكرة أني أيضاً لم أشعر بالبيت بشكل مطلق في أي مكان عشت فيه، حتى خلال الوقت اللانهائي الذي اعتقدت بأني أملكه. فكلما فكرت في البيت اليوم، وجدته مع سلمى وشهرزاد.
ستحكيان الهولندية بطلاقة قريباً، ولذلك سأتعلمها من أجلهما. على الأقل، إن "تنمّر" عليهما فتى مزعج في المدرسة يوماً ما، لأن أمهما لفظت كلمةً خطأ بالهولندية وهي تتحدث مع المعلمة، فتعودان إلى البيت حزينتين وغاضبتين لتصرخا في وجهي بعربية مكسّرة فيها خليط من "الراماوي" و"العكاوي"، سأجيبهما "برواق" سأتعلّمه أيضاً مع السنين، وأنا أقف في المطبخ، أضع السمك مع الثوم والليمون والزيت والكزبرة في الفرن، بأني "والله يا ماما حاولت".