تناقضات الانتصارات والإخفاقات القضائيّة: "بين لاهاي وقبلة سناء لوليد وقاتل وجدان"

أثار القرار الأولي لمحكمة العدل الدوليّة في لاهاي[1] في قضية دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، لاشتباهها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة في غزة، ردود فعل متباينة. فبينما رحّب أغلب الحقوقيّين بالقرار معلنين عنه انتصارًا قانونيًا وتاريخيًا، عبّر آخرون عن خيبة أملهم منه لأنه لم يأت بأوامر احترازيّة تأمر بإيقاف الحرب. همّ من خابت أمالهم كهمّنا جميعًا وهو إيقاف الدمار وليس التغنيّ بقرارات قضائيّة لا نفاذ لها ولا أثر فعلي لها على أرض الواقع.

لا نقاش أخلاقي لي مع كل من خاب أمله من قرار محكمة العدل الدوليّة حتى وإن حاولت إقناعه بأنه قانونيًا هناك أصلًا نقاش فيما إذا كان لمحكمة العدل الدوليّة اختصاصًا باستصدار أمر لوقف الحرب. لا أكتب هذه السطور كي أحاول أن أحاجج بالإدعاء بأنه حتى لو تم استصدار قرار منع استمرار الحرب، هل فعلًا تؤمنون بأن إسرائيل ستنصاع له تلقائيًا دون إيجاد ألف طريقة لتعليقه؟ فكما انتصاراتنا القانونيّة (النادرة) بالمحكمة العليا الإسرائيليّة بقضايا الفلسطينيين لم تنهِ الاحتلال وتمنع التمييز ونظام الفصل العنصري وإذلال الأسرى والاعتقالات التعسفية والأحكام الجائرة، فلا من سبب مقنع يجعلنا نؤمن بأن قرار أي محكمة، يشمل العدل الدولية، سيوقف الدمار ويوقف استمرار جرائم الحرب في غزة. على الرغم من كل ذلك خرجنا كحقوقيين وأعربنا عن ارتياحنا لقرار محكمة العدل الدوليّة وتصويره بانتصار وإنجاز تاريخي حتى إن لم يستطع أن يحقق لنا المنشود العينيّ الذي توخيناه.

بدأ انفعالي، الذي وصل حدّ الدموع والرعشة الراجفة بالجسد حرفيًا، منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها فريق جنوب أفريقيا عرض طعوناته أمام محكمة العدل الدوليّة. إنفعال ممزوج بالغيرة من حقوقيين أجانب سرقوا منّا، الحقوقيين الفلسطينيين، حلم النجاح بمحاسبة ومسائلة إسرائيل على جرائم ارتكبت بحق الفلسطينيين. فبعد أن حاولنا على مر عقود استنفاد الوسائل القانونيّة المتاحة داخليًا لمحاكمة الجنود على جرائمهم ولم نفلح بسبب سياسات التحقيق المنحازة في إسرائيل، وبعد أن تمت ملاحقة واستهداف كل من يجرؤ على استنفاد الوسائل القانونيّة المتاحة دوليًا ووصمه "بالطابور الخامس"، وبعد نجاح إسرائيل بعدم امتثالها أمام أي هيئة قانونيّة قضائيّة مستغلة كل حنكة قانونيّة ممكنة للتنصّل من المسائلة، تأتي دولة بطاقم قانوني فذ ومهنيّ وتكتشف ثغرة قانونيّة لن تستطيع إسرائيل التغلّب عليها هذا المرة. الشعور بالانتصار لم يكن فقط لاضطرار إسرائيل أن تأتي هذه المرة وتضطر للتعاطي قانونيًا مع اتهامات موجهة ضدها بل أبعد من ذلك. لقد وفرت جلسات المحكمة العلنيّة والمصورة لكل شخص حاول تجاهل الكارثة الإنسانيّة في غزة فرصة الخروج من حالة الإنكار التي يعيشها مفضلًا إسناد موقفه الأخلاقيّ قبل القاتونيّ على المواقف والمشاهد والمعطيات التي تختار إسرائيل أن تعرضها. فبعدما يئست من محاولة إقناع زملاء إسرائيليين لي بمحاولة الاطّلاع البصري من خلال الإعلام العربي وفضائيّاته عمّا يجري في غزة، يأتي فريق جنوب أفريقيا ويلزمهم الجلوس ومواجهة الحقائق التي حاولوا أن يصموا آذانهم عنها ويعموا بصيرتهم من مواجهتها.

ولا تكمن الحقائق فقط بتوصيف الدّمار والكارثة الإنسانيّة بغزة اليوم بل الأهم بالموضوع كان وضع الأمور بسياقها التاريخيّ والحقوقي الصحيح. فبعد أن تم اعتقال كل من تجرّأ أن يقول إن ما حدث من جرائم بشعة يوم السابع من أكتوبر في غلاف غزة ضد المدنيين الإسرائيليين له سياق وتعريف ومسببات سياسيّة تصب جميعها بمسألة استمرار الاحتلال والحصار على غزة ومواجتها حتى القضائيّة وجب أن تكون ضمن هذا السّياق، جاءت جنوب أفريقيا لتذكّر الجميع أن لا شيء ولد من فراغ وأن المحاسبة على كل عمل، يشمل ذلك الذي يعرّف جريمة، يجب أن تكون ضمن سياق الاحتلال وقوانينه وحق تقرير المصير. لأول مرة نشعر كحقوقيين أن النكبة حاضرة والاحتلال حاضر في قاعات المحاكم وإسرائيل ملزمة بالرد والتعاطي مع الطعونات. فللنكبة والاحتلال سياق قانوني وليس فقط سياسي ولا حديث عن جرائم بدون سياق. هذا السياق لم يعد يزيّن فقط تقارير حقوق الإنسان التي سئمنا من إعدادها وتعميمها بل سيؤرشف تاريخيًا أيضًا في سجلات أهم محكمة بالعالم.

شعور الفرحة والابتسامة من قرار محكمة على الرغم من أنه لم يأتنا بالمرجو منها من حيث النتيجة الفعلية على أرض الواقع، ذكّرني بمرافعاتي بقضايا الأسرى الفلسطينيين بالمحاكم. ففي حالات عديدة كنت أخرج من قاعة المحكمة عابسة وغاضبة من قرارها غير المنصف تجاه الأسير أو الأسيرة وأنظر للأسير لأراه باسمًا كأنما النصر كان حليفنا. اتضح لي أن مجرد سماعه لمحاميته تعرض أمام المحكمة معطيات عنه ووصف لظروف اعتقاله بشكل يلزم الجميع الصمت والإنصات ويلزم توثيق الأمر خطيًا بمحضر المحكمة، كان بمثابة انتصار له ومدعاة للخروج من قاعة المحكمة مبتسمًا وممنونًا. وعلى الرغم من نتيجة القضية الخاسرة وعدم قبول المطلب الذي أتينا من أجله فمجرد توثيق معاناته بالسجن وتصويره بشكل يتجاوز توصيفه الذي اعتاد عليه كمجرم خطير مجرّد من أي احتياجات انسانيّة، كان كافيًا لإدخال المسرة الى قلبه وإيمانه وجعله يؤمن بأنه انتصر.

ومن أكثر اللّحظات الطريفة التي أذكرها بعملي أمام المحاكم الإسرائيليّة كانت لحظة خروجي من قاعة المحكمة بعد المرافعة بالتماس تقدمت به قبل سنوات باسم الأسير وليد دقة بقضايا حقوقيّة داخل السجن. عقدت الجلسة داخل سجن تسالمون بجانب قرية المغار الجليليّة وسمح لسناء دقة زوجته وأختها ريما دخول السجون لحضور الجلسة. كانت المرافعة صعبة وبدا جليًا لي بأن الالتماس سيرفض. خرجنا من قاعة السجن أنا وسناء وريما وبدت الفرحة والابتسامة على وجهيهما عكس وجهي المكفهر الذي لم ير أمامه سوى الخذلان من النتيجة المتوقعة من المحكمة. اتضح لي لاحقًا أن قاعة المحكمة الضيّقة بالسجن وفّرت لسناء فرصة الاقتراب من وليد ومعانقته وتقبيله، وهو الأمر الذي حرمت منه مدى عقود. فزيارات السجون للأسرى عامة مغلقة ولا تسمح بالمعانقة ولا حتى بسلام اليد. أما لريما فكانت جلسة المحكمة الفرصة الوحيدة للقاء وليد وبمعانقته لأن السجون تمنع دخول أقرباء من الدرجة الثانية لزيارات الأسرى. خسارة القضية أمام المحكمة آنذاك كانت مقرونة بانتصار إنساني أكبر لوليد ولسناء ولريما وهو مثال بسيط يجسد أحيانًا معاني انتصارات مبطنة وغير مرئيّة لإجراءات قضائيّة كانت نتيجتها الفعليّة الخسارة وعدم تحقيق المطلب الذي جئنا المحكمة من أجله.

وبينما تحمل الخسارة القضائيّة أحيانًا معانيَ لانتصارات أخرى غير مكتوبة ومرئيّة بقرارات المحاكم، هنالك قرارات محاكم قد تتوّج قضائيًا كانتصار على الطرف الآخر لكننا مع ذلك لا نخرج من القاعة راقصين فرحًا لها. فإنزال الحكم على قاتل الفتاة وجدان أبو حميد بما يتلائم نسبيًا مع مطلب عائلة المغدورة لا ولن يرسم أي ابتسامة على وجه العائلة الثاكل التي تعلم أن هذا الانتصار مهما كان لن يعيد ابنتها إلى الحياة. هو نجاح قانوني يذكّر بحرقة ألم الفقدان ويوثق طريقة قتلها المتعمد بدم بارد. كذلك صدور قرار محكمة بتعليق الاعتقال الإداري لأسير مضرب عن الطعام والذي لو ما وصل درجة الاحتضار وولوج الموت منه، لما اقتنعت المحكمة أصلًا بضرورة تعليق اعتقاله. هل حقًا نستطيع الفرح والإعلان عن انتصار ونجاح مهني وكأنه سابقة قضائيّة بتعليق اعتقال إداري حينما نعلم أن ما وراء هذا "الإنجاز" هو أسير اضطر أن يصارع الموت ولو ما ذلك لما كنا سنصل إلى هذه السابقة القانونيّة؟

في نظام قضائي مجيّر لديمومة واقع سياسيّ ونظام حكم مبنيّ على الفوقية العرقيّة من الصعب حقًا أن نحظى كحقوقيين بمتعة الانتصارات القانونيّة وإن أحرزناها بشكل فعلي وفقًا للغة القانونيّة الرسميّة الجافّة والمعتمدة. فمعاني الانتصارات والخسارة معنويًا لكل مقموع تتعدى ما تكتبه المحكمة ونتيجته الفعليّة على أرض الواقع. قد يكون الانتصار الأكبر على المنظومة هو قبلة أسير محروم من مصافحة زوجته مدى سنوات في إجراء توّج رسميًا بالفشل. وقد يكون قرار محكمة ننجح فيه بتعليق اعتقال إداري لأسير ليس إلا انتصارًا وتوكيدًا لمنظومة قامعة تشترط اعترافها بحريّات الفلسطينيين فقط حينما يكون الموت منهم قاب قوسين أو أدنى.


[1] صدر القرار يوم 26 يناير 2024.

الصورة: لمحكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة من موقعها: https://www.icj-cij.org/home.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م