شبكات التواصل الاجتماعي - بين التشكيل والتوجيه

مع بداية عام 2024، نجد أن ثلثي سكان الأرض تقريبًا موجودون في الشبكات الاجتماعية، تتصدرها شبكة فيسبوك، تليها واتساب، يوتيوب، انستغرام وتأتي من بعدها شبكات أخرى مثل التكتوك، التلغرام وشبكة اكس (تويتر سابقا). العالم في عصر الشبكات الاجتماعية مختلف كليًا عن العالم ما قبل هذا العصر، فنحن في عصر مليء بالتناقضات، اختلاط الحقيقة بالشائعات، علاقات وروابط مركبة ومعقدة بين التكنولوجيا، السياسة، الاقتصاد والحياة اليومية للناس. فمن جهة يستخدم الناس الشبكات التي تمت برمجتها لهم من قبل شركات محددة، وبقوانين محددة لتلك الشركات التي تؤثر وتشكّل الكثير من أفكار ومواقف الناس، ومن جهة أخرى فإن المستخدمين بمحتوياتهم الأصلانية الفردية تؤثر أيضًا على هذه الشبكات وتشكل فيها من جديد، حراكًا وتوجيها للآراء والمواقف.

 فهم مدى وكيفية انتشار الشبكات الاجتماعية، وفهم كيفية عمل الخوارزميات (أو الألغوريثمات) فيها وأجندة من يبرمجها ويديرها، يعني أيضا فهم ما يشاهده الناس والمواقف التي يشكلونها تجاه الأحداث. فمثلا شبكة لينكد-إن، تستخدمها غالبية مهنية، رائدات ورواد الأعمال والتكنولوجيا وخاصة الأجيال بين 25-34، بينما الجيل الشاب حتى جيل 24، نجد أن غالبيتهم العظمى في التكتوك، والتي تعتبر من أكثر الشبكات انتشارًا بين الفلسطينيين، في الدول العربية وفي إسرائيل. أما الإنستغرام فيغلب فيها وجود النساء على الرجال، وهي محظورة في الصين، حيث تتصدر هناك شبكة وي-تشات وشبكة ويبو، وتحظر حكومتهم استخدام شبكات فيسبوك، إنستغرام وتويتر. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فهناك شعبية كبيرة لاستخدام شبكة فيسبوك، انستغرام، تكتوك وإكس، كما هو الحال أيضا لدى الفلسطينيين، في إسرائيل والدول العربية. معرفة صفات "المواطنين" في الشبكات الاجتماعية المختلفة من أعمار، من دول وشعوب، من مستويات اجتماعية اقتصادية تلعب دورا كبيرا في فهم وتوظيف الشبكات للرواية والتوجه، فكما قال الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان (McLuhan) معبرًا عن أهمية الوسيلة الإعلامية والتي تفوق أحيانا أهمية المحتوى الذي ينتشر فيها، في مقولته المشهورة “The Medium Is the Massage" - الوسيلة هي الرسالة - وبأن الوسيلة الإعلامية هذه، تلعب دورًا مركزيًّا في تشكيل آراء ومواقف الناس.

في الحرب على غزة رأينا مدى الرقابة وحظر المحتويات الفلسطينية في الفيسبوك بشكل خاص، وذلك لأن خوارزميات الذكاء الاصطناعي المعتمدة على النصّ أصبحت متطورة وتمكن ذوي النفوذ فيها التأثير على ما يُراد حذفه، أو توسيع نشره وفق أجندتهم السياسية. كذلك الأمر في الانستغرام، لكن بسبب كون الإنستغرام تعتمد على الصور والفيديوهات بشكل أساسي، والتي لا تزال الخوارزميات الأوتوماتيكية فيها في بداية طريقها، فلا يزال من الصعب التحكم في المحتويات بشكل أوتوماتيكي لحذف أو حجب المنشورات غير المرغوب فيها وفق سياسة القائمين على هذه الشبكة، فلا يزال الحجب معتمدًا بشكل كبير على التوجيهات البشرية البطيئة نسبة للتكنولوجيا. أما شبكة إكس وتليغرام، فإن أجندة من يقف وراءها حاليا تعتمد موقف عدم التدخل بالمحتوى الذي ينشره المستخدمون إلى درجة معينة، وبهذا تتحول هذه القنوات الى ساحةٍ مفتوحة أكثر من غيرها للمحتويات، لتعكس أحداث الشارع مع أقل توجيه من غيرها. مع الإشارة إلى أنّ التكنولوجيا بعيدة كل البعد، بلا شكٍّ، عن الحيادية فهي متحيزة بتحيز من يديرها بشكل عام.

الحرب على غزة ومن قبلها أزمة كورونا، جسدت لمن لم يكن قد تنبه سابقًا، الى أي درجة يتشابك العالم بعلاقات مركبة، ففيها كل شئ يؤثر على كل شئ، تماما كما تصفه لنا نظرية “تأثير الفراشة" - Butterfly Effect هذا المصطلح الذي عرّفه العالم لورنتس منذ أكثر من ستين عاما، يفسر الكثير من التشابك والتأثير المتبادل بين أحداث صغيرة كانت أم كبيرة. فالجميع يرى بل ويعيش انعكاس ذلك في الحياة اليومية، مما يحدث في باب المندب الى ما يصرّحه السيسي الى ما ينعكس على الأسهم في البورصة الى الرغيف الذي ينتظر المصادقة الإسرائيلية للدخول الى غزة وصولًا الى مساءلة الفنانة دلال أبو آمنة على منشورها "لا غالب الا الله"، فكلُّ شيء يؤثر على كل شيء.

 كيف تتشابك الأمور الى هذا الحد؟ فالعالم مركب أكثر بكثير مما نتصور أو مما يكون بمقدورنا أن نصف ببضع كلمات مكتوبة.

طبعا هذا التشابك المركب، ليس بجديد، فالعالم دائما وأبدًا كان على هذا النحو، لكنَّ وجود الإنترنت والشبكات الاجتماعية له تأثيرات كبرى جديدة أُلخصها بأربعة مركبات: التسريع، التضخيم، الاستمرارية والتوجيه، اليكم باختصار توضيحا لها:

التسريع:   

الإنترنت بمبناها الشبكي تسرّع من انتشار الأحداث، فبلحظة ينتشر خبر ويُشاهد فيديو مباشرة من طفل يتحول الى صحفي يبث صور البيوت المهدمة في حارته، أو يُوثق مسيرة التهجير من شمال القطاع الى جنوبها، ليراها العالم ويتفاعل معها. فالشبكات تعكس ما يجري من أحداث بسرعة رهيبة، بل ويدير فيها المستخدمون حربا موازية بمنشوراتٍ وتفاعلات بالكلمات والصور والفيديوهات والمشاركات، وتشكل بذلك أيضا الرأي العام العالمي، تاركة وراءها القنوات الرسمية بروايتها التقليدية التي فقدت مصداقيتها لدى الكثير من مستخدمي الشبكات الاجتماعية لانكشافهم على أناس وروايات تجعلهم يتساءلون ويشككون بما يُختار لهم أن يسمعوا ويُشاهدوا. فالناس اليوم يفضّلون الاستماع الى الشارع، من المصدر الأول دون "فلاتر". فوسيلة الشبكات الاجتماعية تهدّد بشكل كبير كيان القنوات الإعلامية الرسمية.

التضخيم:

تساهم الشبكات أيضًا بتضخيم الرسالة، حتى ولو كانت عادية، لكن مجرد انتشارها والتفاعل معها بشكل واسع يضخم الرسالة او الموقف الأصلي الذي ربما لو نشر بجريدة مطبوعة قبل عصر الشبكات، لمر عليه القراء مرورا عابرا، لكنَّ تفاعل المستخدمين يشكل الأمور من جديد، فمثلا بسبب التحريضات المتزايدة تحت أجواء الحرب التي يقوم بها مستخدمو الشبكات من اليمين جعلت وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي الحالي يطالب بسحب مواطنَةِ لاعب كرة قدم لمشاركته باللعب مع فريق يمثل الفلسطينيين.

 الاستمرارية:

 ما ينشر في الإنترنت لا يمكن حذفه، نعم، يمكن الحد من انتشاره لكنه يبقى ويمكن أن يعود وينتشر بعد فترة أو يُبث من جديد بتحايل على الخوارزميات. فمحتويات "النت" تعتبر بشكل أساسي الموارد والممتلكات الأهم لشركات الشبكات، فمن مليارات المحتويات والرسائل على "النت" تتطور أدوات الذكاء الاصطناعي، والتي تتحول الى برامج تباع وتشترى، وتحلل بيانات المستخدمين وتقدم نتائج مبهرة لشركات التسويق والتجارة، إضافة الى الحكومات وذوي النفوذ للتأثير على الناس لشراء منتج معين أو تشكيل مواقف متحيزة، بسيرورة مخططة ومستمرة.

التوجيه:

كل ما ذكرناه سابقا يمكن توجيهه، فالتكنولوجيا تطورت على يد أناس، تبدأ بفكرة فذة من شخص ما، وكأي انسان بطبيعة الحال لديه توجه في مفهوم الحياة، ميول سياسية، طموحات مادية، وبهذا تنعكس توجهات من يدير الشبكات في الرواية المسيطرة في هذه الشبكات.

فالأدوات المحوسبة ليست موضوعية أو علمية، بل متحيزة بتحيز مطوّريها، فكما أن الشبكة تسرع من النشر فمن يقوم عليها يمكنه أيضا الحد وحذف ما لا يتناغم مع توجهه أو توجه ذوي النفوذ والضغوطات عليه. فمثلا قطع خط الإنترنت والكهرباء عن غزة بطبيعة الحال يؤثر على الرواية وعلى مشاهدة ما يحدث على أرض الواقع.  الخوارزميات الأوتوماتيكية أيضا تبرمج بطريقة ترفع من انتشار منشورات من جهات معينة أو بمحتويات معينة، وتحجب أو تحد من انتشار غيرها.

العالم مع وجود الإنترنت والشبكات الاجتماعية هو عالم مختلف ومركب، فنحن نشهد من جهة ثورة قوة رواية المستخدم العادي والبسيط، ومن جهة أخرى نشهد النوع الجديد من الدكتاتورية المركبة والمتشابكة من مصالح تكنولوجيّة سياسية اقتصادية، تؤثر بشكل مباشر أو خفيّ على المحتويات التي نستهلكها والمواقف التي نتخذها. إلى جانب كل هذا التطور والتخطيط المعقد للتحكم بالعوامل والمؤثرات على الناس، نجِدُ أيضًا عوامل مؤثرة لم تُؤْخذ بالحسبان لدى المخططين والمُطورين والمنفذين، ما قد يؤدي أحيانا الى نتائج غير محسوبة أو غير متوقعة تغيّر من مجرى الأمور.

كمستخدمين لعوالم الإنترنت والتكنولوجيا علينا أن ندرك أننا في عصر لا بدّ وأن نطور به من تفكيرنا الناقد والإبداعي ومهاراتنا الرقمية، لكي ندير أنفسنا ومواقفنا بحكمة في هذا الحيّز المليء بالفرص من جهة والمُلغّم بالمخاطر والتحدّيات من جهة أخرى.

د. أسماء نادر غنايم

محاضرة وباحثة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومؤسسة ومديرة في مركز InnDigital - للتطوير التكنولوجي في المجتمع والتربية. [email protected]

 

 

شاركونا رأيكن.م