شبكات الاعتقال الجماعي

ليست قصة شخصية

باغتني خبر اعتقال الطبيب من الخليل رغم تزاحم الأخبار الصعبة على مسامعنا واعتقال اسرائيل آلاف النشطاء من الضفة الغربية والداخل الفلسطيني منذ بداية الحرب ومنذ بدايتها كإسرائيل، لكنّ الذي لفتني في قضية اعتقال الطبيب، اعتقاله بشبهة تهديد جنديّ من مدينة شفاعمرو، وأُحضِرَ من الخليل الى شفاعمرو ( ما يقارب 300 كم) بغية التحقيق معه، وهذا ما ذكّرني بما حدث معي صباح الأول من آذار عام 2021، كنت أعمل كباحثة ميدانية في إحدى المؤسسات الحقوقية حين رافقت مزارعًا الى أرضه في قرية بديا قضاء سلفيت، وهاجمنا مستوطنان مسلحان وصوّبا السلاح إلى رؤوسنا، حاولت رفع الهاتف كي أطلب النجدة ولكنهما صرخا  بإخفاء الهاتف، استجمعتُ قواي وقلتُ لهما إنني لا أعلم لمن  الأرض، وإنني أعمل في مؤسسة وإني موجودة في المكان ضمن عملي، سمحا لنا بالذهاب بعد تهديد مستمر بالقتل إذا عُدنا. ونحن بصدد الهروب من هناك، صوّرت المستوطن الذي هددني بالسلاح وحاول قتلي صورة استعنتُ فيها بالشكوى التي قدمتها في مركز شرطة "أريئيل" بعد تقديم شكوى عبر موقع الشرطة، حيث طالبوني بالحٌضور الى "أريئيل" والإدلاء بالإفادة هناك بالقرب من المستوطنين الذين حاولوا قتلي أنا الضحية، "يُذكر أني لم أتلقَّ أيَّ رد حول الشكوى حتى كتابة هذه السطور" وبعد إرسال أكثر من عشرة توجهات لاستيضاح سيرورة الملف الذي على ما يبدو سقط بين آلاف شكاوى الفلسطينيين. 

استنتاج 

ولكن لحظة أعزائي القراء، هذه قصتنا جميعًا وليست قصتي الشخصية!

القصة لم تبدأ منذ هذه الحرب وربما لا تنتهي عندها.

شبكات اعتقال ليست شبكات تواصل 

تجند المجتمع الاسرائيلي ممن لم ينخرط في قوات الجيش للقتال، في كتائب رصد في شبكات التواصل الاجتماعي، ترصد أي منشور تعاطفي مع غزة، واتخذ هذا الجُند الاسرائيلي على عاتقه التحريض ضد الفلسطينيات والفلسطينيين عبر صفحات عامة ومجموعات في منصات التواصل،  تقسم المترصدون كلٌ حسب تخصصه، بدأ  المحامون بجرد منشورات وصور زملائهم (محاميات ومحامون فلسطينيون) في محاولة لاصطياد أي شبهة تُشير إلى هويتهم الفلسطينية ليلصقوها كتهمة في أروقة المحاكم أو نقابة المحامين الإسرائيلية التي لم تتوانَ عن  سحب رخص مزاولة المهنة (على الأقل في حالة واحدة مؤكدة)، أمّا الكتيبة الثانية فهي كتيبة طلاب الجامعات والمعاهد الأكاديمية الإسرائيلية، ولم تقتصر هذه الكتيبة على تعقّب المنشورات فحسب، بل قامت بجرد الصور والتعريف الذي يُكتب في خانة "السيرة الذاتية" في حسابات ميتا وغيرها، وباشرت الكتيبة في التحريض ضد كل حرف ورمز "كملصق علم  فلسطين" على سبيل المثال، وأرسلت برقيّات ورسائل الى إداراتِ الجامعات والمعاهد في مطالبة لإبعاد الطلاب الذين وُصفوا "بالإرهابيات والإرهابيين" على حد تعبير المحرضين الذين دعوا متابعاتهم ومتابعيهم إلى المشاركة في حفلات تحريضية رقميّة، سرعان ما لاقت استجابة سريعة من الجامعات التي قامت بدورها بإبعاد الطلاب الفلسطينيين ودعوتهم إلى لجان الطاعة والاستماع، ولاحقًا أنشأ اتحاد الطلاب الإسرائيلي استمارة رقمية لملء تفاصيل أي طالبة أو طالب يُظهر تعاطفه أو حزنه، أو كلمة تتهمه بهويته. وصلت هذه الملاحقات محاضرات ومحاضرين عرب في الجامعات الإسرائيلية وأقيل بعضهم. وكانت آخر هذه الملاحقات، تهديدات من مجموعة "واتساب" لطلاب في معهد "التخنيون" اعترضوا على وجود ملصقات تُشير الى هوية زملائهم الفلسطينيين، وأكد طالب منهم وجود عشرات الطُلاب الذين ينتمون الى هذه الأفكار واصفًا إياها بالأفكار الإرهابية.

أمّا الشرطة الإسرائيلية التي لطالما افتقدناها في آفة الجريمة، فاستجابت بسرعة لم نعتد عليها لنداءات الملاحقة والاعتقال، التي وصلت حدّ الجنون، حيث وصل الحال إلى اعتقال من يتابع أيّ صفحة إخبارية تغطّي أحداث الحرب أو تروي الرواية الفلسطينية، ومن نجا من الاعتقال أُبعد عن التعليم أو فُصل من عمله.

تحريض رقمي يحيك الممارسات الجسيمة

ازدادت القنوات والمجموعات التحريضية في هذه الحرب، وكان أبرزها في تطبيق تلغرام، الذي يفتقد كليًا لسياسات تقييد المحتوى العنيف وخطاب الكراهية والتحريض، ولا يستجيب أبدًا لطلبات تقييد القنوات ذات المحتوى العنيف، ومن أبرز القنوات التي أُنشأت في هذه الحرب،  قناة سُميّت بـ" صيادي النازيين" وهي قناة يُديرها إسرائيليون متطرفون يتربصون للنشطاء الفلسطينيين والصحافيين  والسياسيين في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية، يحرضون ضدهم بشكل خطير جدًا، حيث يضيفون صورتهم وحسابهم في منصة تواصل اجتماعي يشمل رابط الحساب وصورة شخصية واضحة والعنوان الكامل للضحية، وفي كثير من الأحيان إحداثيات الوصول الى موقع البيت، وهناك قناة تُدعى "إرهابيين من زاوية أخرى" تنشر صور أي فلسطينية أو فلسطيني وتعرّفها أو تعرفه بالإرهابيّ، لم تتوانَ أبدًا عن نشر صور الجثامين والأسرى، وحتى العمال، هم كذلك لم يسلموا من هذا العنف الرقمي والتنكيل بأبشع الصور، كنشر صورهم بعد تجريدهم من ملابسهم وإلقاءهم على الأرض وسط توثيق هذه الخطوات ونشرها عبر هذه القتوات والمجموعات، التي لاقت ترحيبا واسعًا لدى الجمهور الإسرائيلي رقميًا، فلم تكن سوى تغذية للمزيد من التنكيلات التي يمارسها جنود الجيش الإسرائيلي وأذرعه كالمستوطنين والقوات الشُرطية والأمنية المختلفة.

شخصيات بارزة 

لاقت عدة شخصيات بارزة في المجتمع الفلسطيني في الداخل تحريضًا ممنهجًا وملاحقات مستمرة، كالفنانة دلال أبو آمنة التي اعتقلت بسبب منشور عبر منصة "فيسبوك" وبعد الإفراج عنها طاولتها مطالبات إسرائيلية في إبعادها إلى غزة وتهجيرها من منزلها، سرعان ما تحولت الحملات الرقمية ضدّها إلى مظاهرات أمام بيتها الذي تقطن به مع عائلتها، كما طالبت هذه الأصوات بإقالة زوجها من عمله. اعتقلت كذلك الممثلة ميساء عبد الهادي، واستمرت حملات تحريضية واسعة ضدّها بعد الإفراج عنها، وطالبت هذه الأصوات بسحب جنسيّتها (مواطنتها)، وحسْب محاضر الجلسات، فقد تمت فعلَا مناقشة هذا الاقتراح في أروقة المحاكم!

إذًا، فصوت التحريض الرقمي مسموع جدًا وسط أصحاب اتخاذ القرار والقضاء الإسرائيلي.

معطيات مرعبة تحرك القانون

وثقت "منظمة القانون من أجل فلسطين" مجموعة قوية من الأدلة التي تكشف انتشار التحريض على العنف وعلى الإبادة الجماعية ونية الإبادة الجماعية والتهجير القسري، والتي تظهر عبر أشكال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي ومقابلات تلفزيونية وتصريحات رسمية من السياسيين الإسرائيليين وأفراد الجيش والصحفيين، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة. ووثق مركز "حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" أكثر من 3 ملايين ونصف المليون خطاب كراهية وتحريض موجهة ضد الفلسطينيين/ات والمناصرين/ات للحقوق الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي باللغة العبرية منذ بدء الحرب، ومما يزيد الأمر سوءًا أن هذا التحريض الرقمي يُترجم سريعًا الى الشارع وأروقة المحاكم ومقاعدنا في الدراسة والعمل، ويهددنا في حياتنا وهو ليس مجرد كلمات عبر منصات!


الصورة: من موقع "حملة".

نجمة حجازي

صحفية مستقلة، مراسلة سكايز ميديا والجرمق الاخباري

شاركونا رأيكن.م