قلنديا لإيريز: رحلة العُمر!
هذه من أصعب المقالات التي كتبتها، وأنا بالعادةِ لا أستصعبُ صياغة الكلمات... ولكنها ثقيلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.
تستعمل الدول السياحية وشركات السياحة والسفر مصطلح "رحلة العمر" مصحوبةً ببعض الصور الجميلة للشواطئ والمنتجعات الفخمة، والطبيعة التي تتمتع بها تلك الوجهة، وذلك لتشجيع الناس لزيارة بلد أو مدينةٍ ما.... فمن منّا لا يرغب بقضاء وقتٍ جميلٍ في جزر المالديف؟ أو الاستمتاع بالشواطئ المميزة في جزر هاواي؟ أو حتى الذهاب إلى الطبيعة لقضاء وقتٍ قصير؟ هذه الرحلة، رحلتي أنا، لن تجدوا لها إعلانًا رسميًا، ولا تجاريًا، وليست وجهةً معتادةً للزيارة. ولكن قبل أن آخذكم في تفاصيل هذه الرحلة، دعوني أخبركم بمتطلبات رحلتي، فهي لا تقتصر على حجز طيران وفندقٍ وتأشيرةٍ إن لزم الأمر، فمتطلباتها كثيرةٌ جدًا، سأسردها لكم على شكل نقاطٍ كي تتذكروها، في حال قررتم الذهاب هناك:
الحصول على تصاريح وموافقات أمنية وعسكرية، تقول بمجملها إنك لا تُشكّل أي خطرٍ على هذه المنطقة أو تلك.
معرفة جيدة بالحواجز والتعقيدات والأوراق المطلوبة لكل حاجز.
تحليل دقيق جدًا للوضع السياسي كل تتمكن من العودة... فرحلة العُمر هذه قد تكون "تذكرة طائرة دون عودة"!
وأخيراً، عليك التخلص من كل أفكارك النمطية المسبقة حول ما يمكن أن تراهُ قبل وخلال وبعد هذه الرحلة!
حسناً... حسناً... إنني أكتب عن رحلة العمر الخاصة بي... عن أجمل الوجهات التي زرتها... عن قطاع غزة الحبيب... وإليكم الآن تفاصيل هذه الرحلة:
عام 2021 وتحديدًا خلال النصف الثاني منها، دُعيت من قبل مؤسسة تابعة لهيئة الأمم المتحدة للمشاركة في مؤتمر يسلط الضوء على الشباب والنساء، وعند قراءتي للدعوة، وجدت أن مكان انعقاد المؤتمر هو مدينة غزة! قلت لنفسي: إما أن يكون هناك خطأ مطبعي، وإما أن يكون من وجّه لي الدعوة قد جُنّ جنونه، معتقدًا أنني أستطيع الحضور وجاهيًا للمشاركة بالمؤتمر في مدينة غزة، وأنا أسكن مدينة رام الله. بعد لحظات قليلةٍ تلقَيت اتصالًا من نفس الجهة الداعية، تؤكد لي أن مكان المؤتمر فعلًا مدينة غزة، وأنهم بتواصل مستمر مع مختلف الجهات لتأمين موافقات وتصاريح للمشاركين من الضفة الغربية في المؤتمر. حينها، لم أكترث كثيرًا للمؤتمر ولا مساهمتي فيه، ولا ماهية المواضيع التي ستطرح، وتركّزَ جلّ اهتمامي على أنني سأزور غزة.... لمدة 5 أيام!
بمشاعر مختلطةٍ ما بين التوتر، والسعادة، والرهبة، وانتظار المجهول، وغيرها توجهنا إلى حاجز قلنديا العكسري الذي يفصل مدينة رام الله عن مدينة القدس، وبالرغم من أنني أمر من هذا الحاجز بشكل شبه مستمر، إلّا أن هذه المرة، لم تكن كسابقاتها، فأنا لستُ ذاهبًا إلى القدس أو أي مدينةٍ أخرى، إنها غزة!... أنهيت مراحل التفتيش المضنية وخرجت أخيرًا إلى الطرف الآخر من الحاجز، وكانت بانتظاري حافلة لتقلني إلى حاجز إيريز. وحاجز إيريز الذي نسمع عنه في الأخبار كثيراً هذه الأيام، أي أيام حرب السابع من أكتوبر، يختلف بعمرانه وشكله وتفاصيله عن كل الحواجز التي مررت بها، أو عرفتها، أو سمعت عنها، فهو عبارة عن مبنىً ضخم! وبعد استفسارٍ وبحثٍ قصير اكتشفت أن ما يسمى حاجز ايريز اليوم، بُني وصُمّم بالأساس ليكون محطة قطار، لا أعلم أين كانت وجهة هذه المحطة المخططة، ولكن على ما يبدو كان مخططًا لها أن تربط مستوطنات غلاف غزة بالمستوطنات التي كانت موجودة داخل قطاع غزة قبل عام 2005.
في إيريز، أخرجت بطاقتي الممغنطة.... ولمن لا يعرف ما هذه البطاقة، إنها بطاقةٌ تصدرها الإدارة المدنية الإسرائيلية، وهي بمثابة شهادةِ خلوٍ من المشاكل الأمنيّة! وكأنّ لا وجودَ لفلسطينيٍّ بنظرهم لا يُشكل خطرًا أمنيًا. لقد اعتدت استعمال هذه البطاقة عند المرور من الحواجز، فالحواجز صممت بطريقةٍ ذكيةٍ لقراءة هذه البطاقة، وتفتح لك الأبواب كلها إذا كان مسموحاً لك المرور، باستعمالها فقط... وفيها دلالةٌ بالاستغناء عن الهوية الخضراء.
في إيريز الوضع مختلف... لا بوابات ذكية، ولا آلات قراءة للبطاقات الممغنطة، وبمجرد أن رأى الجندي البطاقة، قال بلهجته العربية القبيحة: "هوية، هوية".... يا إلهي، لا أحمل هويتي! لم أعتد حملها! لا يطلبها مني الجنود على أيٍ من الحواجز.... واضحٌ أنني أخفقت في معرفة متطلبات هذه الرحلة، فكيف لا أُخفق، وقوانينهم تتغير كل ساعة، ولا يوجد أي مصدرٍ للمعرفة. نظرت للجندي وقلت: أنا أستعمل هذه البطاقة للمرور من الحواجز، ومن الغريب أن تطلب مني الهوية، فمعلوماتي بما فيها رقم هويتي على هذه البطاقة. رد قائلاً، وأكتب لكم تحديداً كيف لفظ الكلمات: "خبيبي، من هون بس هوية أو جواز"....... صمت الزمان لحظة، بل لحظات! تجمّدت حواسي، عجزت عن النُطق، ودارت في ذهني ملايين الاسئلة! استجمعت ما تبقى لي من قوة وقلت: جواز؟ أمسافرٌ أنا من دولةٍ إلى أخرى!! وبعد نقاشٍ عقيم، واستشارات من الجندي مع ضباطه، سمح لي بالدخول.... يا للفرحة... فخياري الثاني كان رجوعي إلى رام الله بطريقٍ لمدة 4 ساعات كي آخذ هويتي وأعود مرةً أخرى لإيريز!
خرجنا من الطرف الآخر، ومشينا مسافةً قصيرةً، لنأخذ حافلةً أخرى لتنقلنا لحاجز 444، وهذا الحاجز تابعٌ للسلطة الوطنية الفلسطينية، وهناك إجراءات تسجيل فيه أيضاً، تأخذ السلطات معلوماتك، وتسجل عدد الحقائب التي معك، وتتساءَل لماذا؟ الصراحة أنني ذهبت إلى الشباك، ثم قال أحد عناصر الأمن لزميله: "شكله أجنبي خلص اتركوه"! بالتأكيد سيعتقد أنني أجنبي، فكم عدد الفلسطينيين الذين يدخلون إلى القطاع!
أخذت حافلةً أخرى لتنقلنا إلى حاجز 555، وهو حاجزٌ تابعٌ لحركة حماس! لا تسألوني عن الأرقام ولا أسباب الحواجز، ولكن هذا هو الحال. في الحاجز هناك يجلس رجلٌ ملتحٍ، مبتسم، أمامه دفترٌ ضخم جداً، فتحه وقال: ما اسمك؟ ما سبب زيارتك إلى غزة؟ أين تسكن؟ ما هو أقرب مسجد في منطقة سكنك؟ من تعرف في غزة؟.... الحقيقة الأسئلة غريبة ولكن تعاملهم كان لطيفًا جدًا.
أخيرًا.... أخيرًا سأبدأ رحلتي لرؤية غزة... كنت أتوقع رؤية بيوتٍ مدمرة، بنيةٍ تحتيةٍ فقيرة... شوارع رملية، ولكنني انبهرت بحجم الجمال، وطريقة العيش، وطيبة الناس، وتعجبتُ أكثر من تصميمهم على تنظيف كل آثار الدمار بعد كل حرب! والحقيقة، أن أغلب الناس هناك مبتسمون! لقد فاجأني حجم تفائلهم! يا إلهي ما هذه الفئة؟ أنا فلسطينيٌ، ولكنهم فلسطينيون من جيناتٍ أخرى، من عالمٍ آخر!
وصلت مدينة غزة، إلى أحد الفنادق المحاذية للشاطئ! كنت مرهقًا متعبًا، ولكنني قررت أن أرى بعض الأصدقاء، وأحتسي القهوة على شاطئ البحر...... بحرٌ ترفرف فيه أعلام فلسطين على القوارب! يتحدثُ أصدقائي معي وأنا في عالمٍ آخر.. أفكر متى رأيت علم فلسطين يرفرف في البحر!! متى كنت على شاطئٍ يتحدث فيه الجميع العربية! لا صراخ منقذٍ بالعبرية ولا الإنجليزية! لا مظاهر غريبة عن المجتمع، ولا أشخاصًا زرق العينين، شقر الرؤوس يتمشون على الشاطئ!
صرخ صديقي ونادى علي... استيقظت من الحلم، وقال: لنذهب لنأكل الكنافة العربية! كنافة عربية؟ ما هذا؟ قال إنها كنافة مميزة نصنعها في غزة.... دخلنا إلى محل "أبو السعود" المشهور للحلويات....مكانٌ جميل، فيه كل أنواع الحلويات التي أعرفها، والكنافة العربية، أو الغزاوية، التي لم أرها من قبل. أتحدث مع صديقي، فقال البائع..... آآآآه ضفاوي صحيح؟ قلت نعم، من رام الله، وبشكلٍ مباشرٍ قال: هذه الحلويات ضيافةٌ منّا لك! ماذا؟ لماذا؟ وكان البائع مبتسماً جداً!
رجعت للفندق في وقتٍ متأخرٍ من الليل، نمتُ ولا زال عقلي غير مستوعبٍ ما يحصل، وأين أنا.... استيقظت صباحاً، وهممت بالنزول من الغرفة للذهاب لتناول الإفطار في الفندق. عقلي يتخبط، يعلم أنني في غزة، ولكنه يصّر أن كل ما سيراه هو دمار الحرب. بمجرد دخولي للمطعم، طغى لون البحر الأزرق مع أشعة الشمس المتسللة من نافذات المطعم الزجاجية على المشهد! صُدمت بصدق! أخذني الموقف دقيقةً، تسلل الدمع لي، وجلست على طاولةٍ محاذيةٍ للشباك! أحضروا لي فنجاناً من القهوة، ومازلت في حالةِ صمتٍ وذهولٍ من الموقف. بعد بضع دقائق، نظرت حولي في المطعم، فلم أجد أحداً… لم يكن كتلك المطاعم المُطلة على البحر التي زرتها سابقاً في حيفا، أو عكا، والتي تكون ممتلئةً حتى الغثيان! كان المطعم هادئاً، لا صوت غير صوت صمتي، تكسره أصوات الأمواج حيناً، وصوتُ النادل يسألني إن كان الطعام لذيذاً، حيناً آخر!
غزة جميلة، غزة سعيدة، وغزة قوية، لكنها ليست بطلة، وليست دافعةً للثمن. غزة فيها شعبٌ الجبارين، ولكنهم بالنهاية بشر. غزة البشر والحجر والمسجد العمري، والكنائس، والآثار المختلفة، والبيوت القديمة المبنية على الطريقة الشامية. غزة كانت رحلة العُمر وستبقى كذلك... غزة كانت من أجمل الوجهات التي زرتها.... غزة راسخةٌ في عقلي، غزة المبدعة، الصامدة، غزة البحر والبر والطعام والحلويات والابتسامة!
فكيف لا أقول عنها رحلة العُمر؟؟
أحمد ياسين
ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.