الدين لله والوطن ليس للجميع
لم تشغلني هويتي الدينية على مدار 40 سنة من حياتي ولم أتعامل معها بشكل يومي كما أفعل في الفترة الأخيرة - وتحديدا منذ بداية الحرب على غزة.
شعوري بالانتماء كان دومًا للمجتمع البشري ولشعبي الفلسطيني، مهمشة بهذا دوائر الانتماءات الأخرى ومن ضمنها الانتماء الديني، الطائفي، الحمائلي والعائلي، وكم كانت هشة فقاعتي حين اعتقدت أن أغلب مجتمعنا الفلسطيني يشعر بالمثل، حتى فاجأني السابع من أكتوبر.
لسنوات اعتقدت أن أبناء شعبنا الفلسطيني، يعلمون يقينًا أن الشعب الفلسطيني تاريخيًّا كان ولا زال شعبًا متعدد الثقافات الطوائف والديانات، من قبل النكبة وحتى يومنا هذا، وأن الشخصيات الفلسطينية الوطنية على اختلاف طوائفها، لعبت جميعها دورًا مركزيًا بالحفاظ على الهوية الفلسطينية ومنع تجنيد الفلسطينيين ممن تبقوا في أرضهم بعد النكبة، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته في الضفة الغربية وغزة ومخيمات اللجوء في محاربة الاحتلال وطرح القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية.
ولكن، منذ السابع من أكتوبر تحطمت هذه الأوهام على صخرة الواقع، وكفلسطينية ولدت لعائلة مسيحية أواجه بشكل متكرر تقريبًا واقعا ذا قطبين، يشعرني بالقلق خاصة عندما أحاول عن طريقه قراءة مستقبل شعبنا.
القطب الأول هو فلسطينيون من طوائف مختلفة يشعرون بالانتماء للقضية الفلسطينية والهوية الجماعية ولا يشعرون أنها قضيّة دينيّة تختص طائفة معينة عن غيرها، إنما قضية عادلة تخصهم لكونهم جزءًا من أبناء هذا الشعب وامتداده في الضفة وغزة والشتات. أن هذه المجموعة تعلم أيضا حقيقة أن المسيحيين هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني متنوع الطوائف والانتماءات، بل أكثر من هذا، هم سلالة المسيحيين الأوائل الذين عاشروا المسيح الفلسطيني ابن هذه الأرض، والتي منها امتدت البشارة.
أما القطب الثاني فهو مجموعات من الأشخاص، مسيحيون وغيرهم على حد سواء، الذين يشككون في انتماء أبناء الطائفة المسيحية للشعب الفلسطيني، ويرون في القضية الفلسطينية صراعًا يغلب عليه الطابع الديني ولا يمت بصلة لمن لا ينتمي لهذه الطائفة.
هذه المجموعة لا تعمّم هذا التفكير فقط على المسيحيين إنما على جميع الطوائف الأخرى كالطائفة المعروفية وغيرها، وذلك لكونهم ليسوا جزءًا من الأغلبية المسلمة.
بعد قرابة 100 يوم من النقاشات، استنتجتُ أن صدمتي لم تكن حقيقية فعلًا، ففي داخلي علمت أن هذه هي الحال في مجتمعنا لا سيما بعد 76 سنة من محاولات الدولة الاسرائيلية شرذمة وحدتنا بحسب مبدأ "فرّق تسُد", ومحاولات تغيير طابع الصراع ليتحول مع السنوات لصراع ديني بين قوى "الخير" و"الشر" ليسهل ترويجه للعالم الغربي، ولتبرير كافة المجازر بحق شعبنا.
ولكن يسأل السؤال –هل ساهمنا، ولو بجزئية صغيرة، نحن أيضًا من دون أن نعي بترسيخ هذا الشرخ في مجتمعنا؟
برأيي المتواضع وبعيدا عن جلد الذات، أعتقد أن الجواب لهذا السؤال هو بالإيجاب.
كانت لنا مساهمة لا يستهان بها بتحويل مجتمعنا الى مجتمع طائفي وحمائلي، في كل مرة افتتحت بها المناسبات الوطنية والمظاهرات وغيرها من النشاطات النضالية بالشعائر الدينية لطائفة معينة واحدة لا سواها مما يضيف الطابع الديني لمثل هذه الفعاليات النضالية ويستثني بشكل تلقائي كل من لا ينتمي لتلك الطائفة ويعزز شعورهم بعدم الانتماء والاغتراب.
كانت لنا مساهمة بدعم الطائفية والحمائلية والعائلية في مجتمعنا عندما أدخلنا هذه الاعتبارات في تركيبة قوائمنا لتخدم المصالح السياسية والانتخابية، ابتداءً من انتخابات سلطاتنا المحلية العربية، ووصولًا الى انتخابات البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) وذلك عندما تُعطى الأولوية ليس للأكثر كفاءة بل لمن يجني أصواتا أكثر، وحقيقة أن هذه الازدواجية في المعايير هي قمة في النفاق لمن يدعي مُحاربة الطائفية والحمائلية، بينما على أرض الواقع هو مُساهم بتعزيزها.
كانت لنا مساهمة بتشتيت وشرذمة مجتمعنا عندما لم تكن لنا خطة واضحة لمحاربة تجنيد الشباب الفلسطيني لجيش الاحتلال، وانشغلنا بمحاربة الخدمة المدنية، التي لا تقل محاربتها أهمية عن الخدمة العسكرية، ولكن بانشغالنا بها تركنا الباب الخلفي بدون رقيب للحكومة الإسرائيلية لتعبث بعقول شبابنا وتوجههم إلى طريق الخدمة العسكرية وتعزيز انتمائهم للدولة عوضا عن شعبهم.
إذا أضفنا الى كل ما ذكرتُهُ أعلاه السياسة الإسرائيلية لمحو معالم الهوية الفلسطينية، وعدم دمج أيّ مناهج لتدريس تاريخ الشعب الفلسطيني وتراثه في المدارس العربية في محاولات لزعزعة الهوية القومية للطلاب العرب، وفي ظل غياب أُطر بديلة تعمل على رفع الوعي للجيل الشاب وتعزيز شعوره بالانتماء، نصل إلى المعادلة المثالية لشرذمة وحدتنا وتعزيز الشروخ فيه، وبالتالي فإنّ النتيجة الحتمية هو انسلاخ بعض الأشخاص عن الإجماع الوطني.
إن تحويل القضية الفلسطينية لقضية دينية ليس فقط انعكاسًا لفكرة خاطئة عن الشعب الفلسطيني وتغييبًا لحقيقة كونه شعبًا متنوعًا ثقافيًا ودينيًا وطائفيًا، إنما هو أيضا إنكار لما قدّمه شهداء من طوائف مختلفة على مدار مراحل النضال التاريخية في رحلة صمودنا كشعب.
برأيي، أن التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية في الماضي والحاضر أساسه كونها قضية إنسانية عادلة، هذا هو الأساس الصحيح والذي يتماشى مع تاريخ هذا الشعب وتنوعه الديني والثقافي، وإنَّ أي محاولات لتغيير هذه الحقيقة هو انعكاس غير حقيقي للواقع والتاريخ.
أود التنويه الى أنني أع تماما أن هناك عوامل أخرى تاريخية وثقافية وسياسية لم تذكر في هذا المقال أثرت وما زالت تؤثر على وحدة شعبنا، لذلك برأيي فان الموضوع بحاجة لدراسة بحثية موسعة للوقوف بشكل أعمق على شتى العوامل واستخلاص العبر.
ختاما، أتوجه الى مؤسساتنا الوطنية والتمثيلية وأقترح عليهم إعادة التفكير في مضامين المناسبات الوطنية، وتجديد النهج لمحاولة احتواء تلك الفئات من شعبنا التي خسرناها مع السنوات، خاصة الشباب منهم، والذين فقدوا البوصلة، ومحاولة إعادتهم الى أحضان شعبهم للحفاظ على وحدتنا الوطنية.
كطفلة، أذكر أن إحدى الجمل الأولى التي سمعت فيها كلمة "الوطن" كانت في الجملة الشهيرة للزعيم المصري سعد زغلول حين قال " الدين لله والوطن للجميع"، واليوم أكثر من أي وقت مضى أشعر بأهمية هذا الشعار وكلي أمل أن يأت ذلك اليوم الذي يتحول فيه الى واقع.
تصوير: معتز عزايزة.