لا يُمكِنُنا المحاسَبة دون مواجَهة مُباشِرة | حَولَ الحاجَة لتَبَنيّ أَنماط جَديدة للعَمَل القانونيّ

اعتادت المؤسسات الحقوقيّة حتى السابع من أكتوبر 2023 أن تترجِم حالات الطوارئ إلى عمل قانونيّ يُمكِن إدراجه بمسارين مركزيّين: مسار "الدفاع" ومسار "المواجَهة". والفرق بين المَسارين هو جوهري. نضطر بمسار الدفاع إلى التعاطي مع التّقاضي بالمحاكم في إجراءات لمَ نبادر إليها وإنما فُرضت علينا؛ أبرزها إجراءات الاعتقال ولوائح الاتهام الجنائية أو التأديبية. أمّا مسار المواجَهة فميزَته الأساسيّة بأنّ طَرْق أبواب المحكمة يأتي بمبادرتنا وبقرار منّا. نلجأ عامة لهذا المسار حينما نرى ضرورة وحاجة مُلحة أوقات الطوارئ لاستصدار أوامر ضد السلطات ذات الصلة، تهدف إلى منع استمرار المساس بحقوق الإنسان بحجة حالة الطوارئ.

فإعلان الدولة عن "حملة عسكرية" بالضفة الغربيّة أو عدوان على قطاع غزة كان يُتَرجم لدى الحقوقيين الناشطين في الحقل بضرورة التّأهب لاحتمال قيام سلطات الأمن باعتقالات جماعيّة ضد المتظاهرين واحتمال قمع التظاهرات وسط اعتداءات وحشيّة من قِبَلها. وفي حال تحقق سيناريو الاعتقالات، عندها يُلزم المحامي بالتعاطي مع التقاضي في المحاكم للحيلولة دون المساس بحرية المعتقل وسلامة جسده ولضمان إجراءات عادلة لموكِّله. كذلك الأمر في حال تقديم لوائح الاتهام. هذا هو عمليًا مسار "الدفاع" الذي نتعامل معه بشكل بارز وملحوظ جدًا خلال فترات الطوارئ. ومن هذا المسار ينبثق أحيانًا مسار "مواجَهة" متعلّق إما بتقديم الشكاوى ضدّ ممارسات أفراد الشرطة أو تقديم التماسات ضدّ الشرطة لمنعها أو تقييدها للمظاهرات. مشهد قضائي آخر يبرز في حالات الطوارئ وهو ذلك المتعلّق بحماية حقوق المتضررين بشكل مباشر من العمليات العسكريّة وهم غالبًا المدنيّون المحميّون. ويبرز في هذا المشهد القضائي مسار "المواجَهة" بحيث يبادر الحقوقيّون بمسار قضائي مطالبين فيه المحكمة التدخّل بعمل القوة العسكرية من أجل حماية حقوق المواطنين المحميّين.

ما يميّز المسارين القضائيّين "الدفاع" والمواجَهة" هو أن الخَصم (الطرف الآخر) في كلتا الحالتين هو الدولة على مختلف أذرعها ومؤسساتها وسلطاتها.

بمضي سنة ونصف على أحداث السابع من أكتوبر 2023 واندلاع الحرب على غزة نرى أن المواجهة القضائيّة للمارسات القمعية التي شهدناها كفلسطينيين اعتمدت المسارات القضائية نفسها التي اعتادت اعتمادها. فمواجهة الاعتقالات ولوائح الاتهام كانت عبر المحاكم من خلال الإجراء الجنائيّ رغبةً إما بإطلاق سراح المعتقل أو تبرئة المتهم أو السعي للتخفيف من العقوبة اللاحقة في حال أُدين. والتعامل مع الملاحقات السياسيّة لطلاب الجامعات والمحاضرين والمحامين والأطباء، كان بواسطة تمثيلهم في اللجان التأديبيّة والتي تندرج هي أيضًا ضمن مسار الدفاع.

وفي سياق انتهاكات الحريّات في الداخل الفلسطيني وجرائم الحرب في غزة منذ السابع من أكتوبر على سبيل المثال، نرى أن نهج عمل الحقوقيين اقتصر على تقديم الالتماسات للمحكمة العليا كما في الفترات السابقة. رأينا التماسات قدّمها مركز عدالة الحقوقي ضد قرارات منع تنظيم مظاهرات تطالب بإيقاف الحرب، ورأينا التماسات جماعية لمؤسسات حقوق إنسان إسرائيليّة بخصوص الأسرى والمعتقلين في كلّ ما يتعلّق بظروف احتجازهم أو المطالبة بالكشف عن أماكن احتجازهم أو بتحرير جثامينهم. ورأينا أيضًا التماسات تعنى بحماية المدنيّين في غزة كالتماس توفير المساعدات الإنسانيّة والتماس منع إخلاء مستشفيات في شمالي قطاع غزة ووسطه. حتى السلطة الفلسطينيّة رأت بمسار التقاضي شرعيًا خلال حرب الإبادة وأقدمت على تقديم التماس ضد قوانين تلزمها تعويض الإسرائيليين متضرري العمليّات المعرّفة كعدائيّة من قِبَل فلسطينيين. لن أقف عند مدى جدوى وخطورة الالتماسات التي قدّمت خلال الحرب وتداعياتها ولن أحلل القرارات السيئة التي صدرت بالذات عن المحكمة العليا. هَدَف ذِكر النماذج أعلاه هو تسليط الضوء على أساليب المواجهة القضائيّة التي اتبعناها كحقوقيين خلال الحرب على غزة. أمّا عن تحليل أدائنا خلال الحرب بالمسارين المختلفين فذلك يستحق كتابة مستفيضة ومنفصلة (قيد البحث والكتابة).

رأينا إذن أن المواجهة القضائيّة لكلّ أنواع الممارسات القمعيّة والجرائم ضد الفلسطينيين في سياق القضاء والقانون الإسرائيلي وجَّهت أسهمها نحو مؤسسات وأذرع مختلفة للدولة سواء بمسار "الدفاع" أم بمسار "المواجَهة". ولا شك أن الحديث عن نهج طبيعي ومألوف لمؤسسات حقوق إنسان تحارب خلال فترات الطوارئ سياسات قمعية وسلطوية بذريعة "حالة الطوارئ".

إلا أن ما ميّز الحرب الأخيرة ليس فقط الممارسات القمعيّة من قبل الشرطة وسلطات الأمن والجيش ضد الفلسطينيين أو حجم جرائم الحرب والفظائع في غزة. فكلّنا شهدنا ظهور لاعب جديد على الساحة الإسرائيلية ممثل بمواطنين وجماعات يمينيّة منظمّة وصحافيين وفنانين ومؤثرين بوسائل التواصل الاجتماعي، امتهنوا التحريض والتشهير وجعلوا من إيذاء العرب قوت يومهم. يقوم هؤلاء بمراقبة حسابات الفلسطينيين على الشبكات الاجتماعيّة ورصد منشوراتهم وتعميمها بطريقة تحريضية تسيء لسمعة الشخص وتخلق جوًا تحريضيًا ضده وتشرعن تهديده بالمسّ بحياته وسط توجيه الشتائم دون أيّ رقيب. بموازاة ذلك تُقدّم مجموعات أخرى شكاوى للشرطة ضد الشخص بتهمة التحريض مستعينين بترجمة أقواله – غالبًا مع تحريف وتضليل - دافعين الشرطة لاعتقاله بشكل أوتوماتيكي وكأنها تعمل لحسابهم وبأوامر منهم. أطلق سراح العديد ممن اعتقلوا وأهينوا بالاعتقال فيما بعد وأُغلقت الملفات ضدهم دون توجيه أيّ تهمة أو ذنب. بعض النشطاء السياسيين البارزين تم تعويقهم أو اعتقالهم على يد الشرطة بتهم لا أساس لها، إما كمحاولة لإجهاض مخططات لتنظيم مظاهرات احتجاجية ضد الحرب أو ضد مواقف أخرى للحكومة الإسرائيلية كاستمرار احتجاز جثمان الأسير وليد دقة وغيره من الأسرى.

والمثير هو أنه على الرغم من إدراكنا دخول لاعب جديد لا تقلّ سلوكياته خطورة عن سلوكيات أيّ جهاز سلطوي قامع فإننا لم نستطع حتى الآن أن نترجم مواجهتنا لهذا النمط من المُلاحقات لعمل قانوني وجماعي ملائم. استمرَّ عملنا القانوني بالأساليب نفسها التي اعتدنا عليها منذ سنوات وفقًا للمسارين "الدفاع" والمواجَهة" أعلاه ولم نفكّر للحظة بضرورة بدء التفكير الجماعي والجدّي بتطوير طرق قانونيّة بديلة نواجه فيها الأنماط الجديدة من الملاحقات السياسية والعنصريّة.

على سبيل المثال؛ فإن تقديم دعاوى تشهير نطالب فيها كلّ من قام بالتحريض والتشهير على فلان أو علان بتعويضه المادي والاعتذار، هو أمر وجب تبنّيه كاستراتيجية عمل لا تقل أهمية عن تقديم الالتماسات الحقوقية الموجَّهة ضد الدولة ومؤسساتها عامة. اعتدنا أن ننظر إلى دعاوى التشهير كقضايا خاصة تعكس نزاعًا بين شخصين ولم نر فيها يومًا أداة قانونية لتحقيق العدالة أو المحاسبة الجمعيّة. إلا أننا ندرك اليوم أنه بات بمقدور الأفراد أن يمارسوا أنماطًا من الإيذاء والقمع السياسي بشكل لا يقلّ خطورة عن مؤسسات الدولة وبتشجيع منها. يتم ذلك بواسطة استهداف الفلسطينيين كأفراد وكمواطنين عاديين وليس حصرًا البارزين منهم كالقادة أو النشطاء السياسيين. تأتي ملاحقة الفلسطيني كفرد والتشهير به وبسمعته الطيبة فقط لكونه فلسطينيًا. نتحدث إذًا عن أنماط قمعيّة جديدة تستهدف الأفراد على إثر انتمائهم العرقي والوطني والسياسي. يكفي هذا الأمر لجعلنا نتبنى وسيلة تقديم دعاوى التشهير المدنيّة ضد المحرضين كجزء من استراتيجيات عملنا القانونية المندرجة بمسار "المواجَهة" خلال فترات الطوارئ لا سيما أن حملات التحريض والتشهير سرعان ما تحوّلت إلى قرارات اعتقال وساهمت في خلق جوّ من الذعر والرهبة لدى الفلسطينيين خشية استهدافهم.

كذلك الأمر في كلّ ما يتعلّق بالاعتقالات غير القانونية التي قامت بها الشرطة ضد العديد من النشطاء دون أيّ مبرر. لا يمكننا بعد اليوم الاكتفاء بتحرير المعتَقَل من محطة الشرطة دون أن يصحب ذلك التخطيط بمقاضاة الشرطة ماديًّا على العبث بحُرّيات المواطنين. والحديث عن المجاعة في السجون وشح المياة والحرمان من إمكانية تغيير اللباس لن يكون له أي وقع جديّ إن بقينا نزيّن به تقاريرنا الحقوقية دون ترجمة الأمر لخطوات قانونية فعليّة تطلب المحاسبة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالأسير فلان أو علان جرّاء تعرضه لظروف اعتقال تحقيريّة أساسها سياسات قمعية وانتقامية لا غير. آن الأوان للتفكير بتوسيع أدوات المواجهة القانونية وتبني أدوات جديدة تكون فيها المواجهة القانونية للفاشيّة مباشرة وليس بوساطة الدولة. الاتكال على تقديم الالتماسات لتحسين ظروف الاعتقال أو إدخال المساعدات الإنسانية معناه التنازل عن المحاسبة عما حدث والاكتفاء بالمطالبة بتحسين الوضع مستقبلًا وهذا ما لن نرضاه دون ضمان آلية فعلية للمحاسبة والتعويض عمّا حدث كضمان أوّلي رادع يهدف التعويض والالتزام بعدم تكرار المشهد مستقبلًا.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

رأيك يهمنا