من جانبي جدران السجن: النساء الفلسطينيات في خطوط الدفاع الامامية

أَجلس في غرفة الزيارة في ما سُمي مؤخرًا سجنَ "جانوت" منتظرةً أن يُحضروا معتقلًا إداريًا. كجزء من سياسة التّنكيل بالمحامين التي رافقتنا في هذه الحرب -كلّ مرّة بهيئة جديدة- قرّروا أن علي انتظار انتهاء محامية أخرى من زيارتها، بادعاء أنه لا يوجد ما يكفي من السجّانين لإحضار أسير إضافي، وإذ بي اضطر أن استمع إلى مقاطع مِن سير الزيارة قبل أن أبدأ في هذه الكتابة.
وها أنا أعود وأفهَم من جديد ما سمِعته على لسان الأسرى والمعتقلين ومَفاده أنهم يفضلون زيارات المحاميات على المحامين، لتعاطيهن الإنساني وتعاملهن الشخصيّ مع كلّ حالة دون أن يمسّ الأمر بمهنيّتهن.
ولا يخدشُ العملَ القانونيَ بأيّ شكل من الأشكال أن يتعاطى المحامي مع انقطاع الأسير غير المسبوق وغير القانوني عن العالم الخارجي وبالأساس عن عائلته، لكن الترهيب الهمجي في سياسات مصلحة السجون جعل كلًّا منّا يعيد النّظر في دَوره. إلا أنني وجدت -وهذا انطباع عام- أن محاميات كثيرات لم يتنازَلن عن هذا البُعد، وأنا شخصيًّا أصرّ على أن هذا ليس قانونيًا فقط وإنما هو واجب المحامي في إطار متابعة ظروف الاعتقال وِفق قوانين السجن، ومحاولة انتزاع الحقوق حتى في حالة الذعر والتّرهيب السائدة. فهكذا أصبحت المحاميات هُن مَن يَقُدن زمام العمل القانوني في جزء كبير من هذه المرحلة.
كانت هذه بحدّ ذاتها تجربة لم اختبرها مم قَبل، إذ جعلتني قريبة من هذه العائلات على اختلاف أنواعها وأماكن وجودها، فقد بارَكْنا لأسرى وُلِدَ أبناؤهم وَهُم في الأسر، وزواجٍ أو خطوبة أحباب لهم، اضطررنا أن ننقل أخبارًا مؤسفة كوفاة أُمّ أو قريب، وحتى في موسم الزيتون أن نبارك -على النحو المعتاد بين الفلاحين- بانتهاء القَطف وكأنه عيد، خاصة أن الموسم الفائت كان مثمرًا. ولا شكّ أنه من خلال هذا القُرب والانكشاف إلى هذه التفاصيل، تَسنّى لي أن انكشف إلى الدّور العظيم والمغيَّب الذي لعبته زوجات أو أخوات أو أمهات أو حتى بنات الأسرى، فكنّ كالجنديات المجهولات، يَقُمن بأدوارهن ودور الأسير الغائب بكثير من التّحدي وأيضًا بكثير من الحبّ، بالإضافة إلى المحاولات الحثيثة لمتابعته مع المحامين والاهتمام بنقل المشاعر إليه مَن حبّ وشوق وعتب وخوف وقلق. هؤلاء النساء المغيّبات كنّ يُعِدن للأسير من خلال هذه المشاعر بعضًا من إنسانيّته التي يحاول السجن وسياساته الحالية مَحوها بشكل كلّي. كانت هذه المشاعر والتفاصيل الصّغيرة تحدث فرقًا عظيمًا في نفسيّة الشخص الذي أزوره بمجرّد أن أذكر زوجته وبناتهن وخاصة حين يدرك الأسير الدّور العَظيم الذي يشغَلنَه في غيابه. جَعلني هذا الانكشاف أُوقِن أن العائلات الفلسطينية مليئة بكثير من الحبّ والتضحية مما يعزّز صمود الأسير الذي يواجه واحدة من أشد آلات السجن ظلمًا وتنكيلًا.بكلمات أخرى، هؤلاء الزّوجات المغيّبات هنّ مَن رَسَمن المَشهد على مدار أشهر الحرب، ومن أَمسكن بأيديهن زمام الأمور، مِن تدبير أمور العائلة وحتى اتخاذ القرارات الأكثر مصيريّة في غياب الشّريك. فقد كنَّ خطّ الدّفاع الأوّل في هذه المعركة. عزّزت لديّ هذه التجربة الإيمان بأننا مجتمع يجيد الشّراكة.
وتجلّت هذه الشراكة من خلال زياراتي سجنَ الدامون للقاء بعض الأسيرات القابعات فيه. لطالما كان لهذه الزّيارات وَقْع خاص لديّ. لا أظنّ أنني حَسمت مشاعري حتى اليوم تجاه هذه اللقاءات، أعلم أنني أهابها بشكل خاص وتكون ثقيلة حتى تحصل. قد يظنّني البعض أشكو من اضطراب أو جنون ما حين أقول إنني في الوقت ذاته أخرج من هذه الزيارات بكثير من الأمل والرّاحة والطاقات الإيجابية. لطالما كان لقاء الأسيرات في الدامون يقرّبني إلى تجربة الأسر وتفاصيلها، ويوضح لي أن السجون، كما كلّ شيء من حولنا، لم تكن يومًا مصممة على أن تبتلع داخلها نساءً. فالسجون الإسرائيلية بعيدة كلّ البعد عن أن ترى الأسيرة، أيّ أسيرة، صاحبة حقّ في امتلاك خصوصيّة ما. فقد وجدتُني أطالب -سنوات قليلة قبل الحرب- بأبسط حقوق الأسيرات، كالحقّ في الانكشاف إلى الشمس في وقت الفُورة. فرغم أن الحَديث عن قِسم للأسيرات، فقد وَضَع السجّان كاميرات داخل الساحة، في وقت لا تقتصر فيه الحراسة على السجّانات فقط، وبهذا حدَّ من قدرة الأسيرات، والمحجّبات بشكل خاص، على الانكشاف ولو قليلًا للشمس، وحتى من أن يَقُمن ببعض الرياضة الصباحيّة بسبب وجود هذه الكاميرات، التي توثّق تحركاتهن بشكل دائم. حتى الحقّ البسيط للانكشاف للشمس لم يكن مضمونًا كما هو للأسرى الرّجال. بخلاف المعايير الدولية والأخلاقية، فاحتجاز الأسيرات الفلسطينيات بسجون مختلطة مع الرجال، يتم دون أي أخذ بالاعتبارات الاجتماعية والثقافية لهؤلاء الأسيرات. وكما هو متوقع لم تنجح هذه المساعي وبقيت الأسيرات محرومات من الشمس.
ومع اندلاع الحرب والإعلان عن حالة الطوارئ في السجون، تحوّل السجن إلى جحيم لكلّ من في داخله. أما في حالة الأسيرات فأصبح الأَمر تحدّيًا غير مسبوق، وكان التنكيل والتعذيب من خلال الحرمان من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، واستغلال خصوصية الأسيرة وانتهاكها بكلّ معنى الكلمة؛ ظروف النظافة القاسية، عدم توفر المَلابس المُناسبة أو حتى توفّر ملابس من أجل التبديل، الحرمان من الفُوَط الصحيّة وعند توفيرها فيكون ذلك بكميات محدودة جدًّا وبجودة سيئة تكاد لا تفي بغرض استعمالها. اضُّطرت الأسيرات للابتكار لتوفير احتياجات بسيطة كربط الشَعر مثلًا. وثّقنا استغلال الدورة الشهرية كوسيلة للتعذيب والتنكيل، حيث تم عزل إحدى الأسيرات كإجراء عقابي، وعند طلبها الفوط الصحيّة تم رفض توفيرها لها. وإجراءات التفتيش العاري المتكرر الذي كان غرضه الإذلال والمسّ بمشاعر هؤلاء الأسيرات، بالأخص حين كانوا يبقون شبابيك الغرف مفتوحة. وهذه نبذة قصيرة وسطحية لهذه الانتهاكات التي كانت واشتدت صعوبة في ظل الحرب.
وفي ظلّ كلّ هذا الترهيب والتنكيل، لم يغب في أيّ من هذه اللقاءات مشهد التضامن والمؤازرة بين الأسيرات. كانت أكثر الأمور الرافعة لمعنوياتهن أَخبار الأهل بطبيعة الحال كما في كلّ الحالات. ولإدراكهن أهميّة الاطمئنان على الأهل للمعنويات، سَعَين في هذه الزّيارات بشكل متكرّر أن يطلبن من المحاميات أن يحاولن القيام بزيارة 3 أسيرات من قطاع غزة هنّ الوحيدات اللواتي احتُجزن في سجن الدامون (أُم وابنتها وأسيرة أخرى). كانت ظروف اعتقالهن شديدة القسوة، وحتى أن الشهادات التي سمعناها أفادت بأن إحداهن أُحضرت إلى المعتقل دون حجابها. ولا داعي لوصف قسوة المشهد حين التقت الأُم بابنتها بسجن الدامون، وتلك الصرخة المدويّة بين الألم وفرح اللقاء كما وَصَفَتها الأسيرات لنا.
طُلِب منّا ومِن كلّ محام حضر لسجن الدامون أن نتابع أحوال هؤلاء الأسيرات بناء على طَلَب منهن. نقلت جميع الأسيرات اللواتي قمن بزيارتهن هذا الطلب لنا. حاولنا بكلّ جهد أن نصل إلى أحد أفراد عائلاتهن، فقد وَضَعت المنظومة القضائية الإسرائيلية عوائق بيروقراطية من أجل لقاء معتقلين من غزة بحيث اشترطت أن يكون ذلك وفق توكيل من أحد أفراد العائلة. حاولت مؤسسات كثيرة وبكل جهد أن تصل لهذه العائلات، دون جدوى. حتى كتابة هذه السطور لا تزال هؤلاء الأسيرات يقبعن في سجن الدامون بانقطاع كامل عن العالم الخارجي، وحتى هذه اللحظة لم يستطع أيّ من المحامين زيارتهن.
لم نواجه صعوبة في الحصول على الوثائق التي تتيح لنا طلب الزيارة في حالة الأسرى الغزيين على عَكْس الحال في حالة الأسيرات الغزيات، فقد استطعنا أن نلتقي بمئات الأسرى ولم نُقابل ولو أسيرة واحدة. فَكّرت مطولًا في السبب الكامن وراء ذلك فوَجَدت أن النساء اللواتي كُنّ خط الدفاع الأول في السعي لمتابعة أحوال الأسرى، وَجَدن أنفسهن -في حالة هؤلاء الأسيرات- في المُعتَقَل ولم يكُن وراءَهُن مَن يُساهم في متابعة حالتهن القانونيّة.
ملاحظة: متوقع أن يتم الإفراج عن هؤلاء الأسيرات في الدفعات الأخيرة من المرحلة الأولى.
