ذكورية الأسفلت تطغى على الإشارات الضوئية
في إشارة غير صريحة فالأسفلت ذكوري متصلب ويستدعي فحولة لا داعي لها في قوانين السير المنطقية...! تماما كحال سائقة ترتدي غطاء الرأس أو لا ترتديه لا فارق هي إمرأة في البرمجة العصبية واللغوية للمجتمع الشرقي ...! تقفز الصور الذهنية المصاحبة في حال مرت بسيارتها تلك المرأة، يبدأ سباق ماراثوني.. "كيف تفوتني واحدة ست!" تتصاعد الضحكات المتنمرة.. "علمت عليك واحدة يا فلان!"
القالب الذكوري جاهز اعتاد على السيطرة المطلقة لزمام الأمور، يجد غرابة رغم تغير الأزمنة وتغير الثقافات وانخراط النساء إلى جانب الرجال في الكثير من الأعمال، يجد غرابته بأنه لم يعد مالكا لهذه المساحة بمعني الملكية المطلقة، فتجد المؤشرات التي تتسربل إليك يوميا خاصة إذا كنت مثلي تقطع 42 كيلومترا بشكل يومي في ذهابك وإيابك، قد يستغرب البعض أن طرحا مثل هذا التوصيف أكثر قسوة مما نراه فعليا فهنالك العشرات بل المئات من الفتيات انخرطن في أعمالهن وساعدتهن عائلاتهن في امتلاك مركبة، ونراهن بشكل يومي يزداد عددهن يوما بعد يوم نعم، إلا أن المتفحص مثلي والباحث ما خلف الكلمات والمواقف والغوص في قلب الحقيقة يستطيع أن يرى بيسر تلك الصراعات الأزلية التي لم يكن الحديث عنها محبذا كي لا تنعت بكونك تتحيز لصنف بشري دون الآخر، أو لتبدو عصريا وتتحدث بلغة المساوة والعدالة والانصاف، ليس كل ذلك له قيمة حقيقية على الأسفلت المتصلب الطويل، فهنالك رحلة من العمر طويلة نحتت نفسها بنفسها، فليس كل من يقود عربته يدرك ماهية النوع الاجتماعي والعدالة الجندرية، وليس مطلوبا منه أن يعرف! فهو كشخص ليس وحده من يحمل الفكر الذكوري فهنالك الكثير من النساء يحملنه، وبشكل قد يكون أكثر ضراوة من الرجل، فالجنس ليس له علاقة بما يحمله الفكر وبما تشربته الأجيال عبر السنوات المتوارثة من نظرة نمطية لتصورات ذهنية محددة للمرأة وأخرى محددة للرجل، ورغم أن الأسفلت لا يبدو أنه سيواجه يوما قريبا طاولة نقاش أو يسمح بطاولة مستديرة تتناقش فيها العقول، فهو الكاشف الحقيقي لما يدور في العقول والأرواح من رفض أو قبول أو رضا عما هو سابق عهده في تفكيك الصراع لماهية صور كل من المرأة والرجل.
فالكثيرون يعتبرون أن المركبة والأسفلت ومهنة السياقة هي رجولية بامتياز، وفعليا في قطاع غزة بأكمله تكاد لا توجد سائقة امرأة تقود أي نوع من أنواع المركبات، الآن قد يكون هنالك امرأة واحدة فقط أو اثنتان وحتى كافتراض جدلي -لو كن مئة العدد ليس مؤشرا كافيا لتحقيق فكرة الفرص المتاحة لكلا الجنسين فهي تواجه استغرابا مجتمعيا، ولا تلقى الكثير من الرضى كيف يمكن لنساء العائلة إن رغبن أن يكن سائقات يمتهن القيادة.
في فلسطين، 127 ألف سيدة يحملن رخص قيادة مركبات، وحسب سجلات وزارة النقل والمواصلات، فإن أقدم تاريخ لرخصة قيادة منحت لامرأة في فلسطين كان في العام 1967.
وفي قطاع غزة هنالك العشرات والمئات من الفتيات ينخرطن في مدارس السياقة ويحصلن على رخصة فعليا، لكنهن لم يقدن لأسباب كثير قد يكون بعضها عدم قدرتهن على امتلاك مركبة خاصة بهن، ورغم أن المشهد بات مألوفا بشكل كبير رؤية الشابات يقدن عرباتهن إلا أن هنالك أنماط مختلفة تعبر عن رضاها أو رفضها بطرق مختلفة وفي مناطق متعددة في قطاع غزة.
فهنالك على سبيل المثال أفراد شرطة المرور ومن مشاهداتي اليومية على مدار عام فإنهم ايجابيون جدا في التعامل مع السائقات الشابات من يقدن سياراتهن الخاصة، قليلا ما يوقفوهن لفحص الرخص في وقت حملات الفحص على السيارات، ويقدمون نموذجا راقيًا في التعاون والمرونة، وكأن الجهاز الشرطي لديه الوعي الكافي باحترام قائدات المركبات، أو أنها ضمن ثقافة عدم فتح حوار مع نساء غريبات لا داعي له حتى لو كان ضمن إطار عمله الشرطي اليومي.
هنالك أيضا الكثير من الرجال في الكثير من المواقف قد يكونوا مواطنين عاديين، وليسوا سائقين بالمناسبة لديهم حرص على تقديم الاسناد في حال طلبت أو لم تطلب بعض النساء قائدات المركبة، وسرعة محببة في تقديم العون في حال أي طارئ وأشهد على الكثير من المواقف أو ما سمعتها من صبايا قائدات للمركبة.
مدير الأسفلت
أما القسم الأكبر والذي لا زال متعايشا مع فكرة أنا "مدير الأسفلت" ويرفض فكرة وجود النساء قائدات العربة، فإنهم -حدث ولا حرج- يعيدون لك صوابية العقل بأن ما يحدث حقيقيا وفي القرن الواحد والعشرين ويضعونك أمام الكثير من التحليل والتفكير المعقد، وتجد نفسك مجبرا على العودة للمفاهيم الفكرية والنفسية والنظرية لكيف يفكر هؤلاء المدراء "مدراء الأسفلت" بعقليتهم، وكأن النساء دخيلات على حيزهم العام والخاص، واستحضر الكثير من المواقف التي لازلت أفكر بأسباب الرجال الكامنة، والمعلنة لكيفية تصرفهم بهكذا طريقة غير منطقية بلغة العقل!
في إحدى المرات وعند إشارة ضوئية متوقفة فيها كل المركبات التفت إلى يميني لأجد عربة خاصة من الموديلات القديمة، بها أربعة رجال أحدهما السائق يحدقون في العربة التي أقودها وكانت بجواري إحدى الصديقات، ونظرًا لضحكاتهم وتحديقهم المستمر أعدت النظر اتجاههم استغرابًا ودهشة لما هذه الضحكات والتحديق المفتعل، ولم يكن من السائق إلا الاقتراب أكثر من سيارتي مع بدء تغير الإشارة الضوئية ليرفع يده ورأسه خارج نافذته صارخًا بصوت عالي قائلا: "أنت واحدة شكاكة...! تظنين أننا نتحدث عنكم".. وأكمل هرجه بصوته العالي: "انتي واحدة مش واثقة من نفسك وو.!" لم أستطع لحظتها ولدهشتي من الضحك لسذاجة الطرح ولأني أستمع لصراخ رجل غريب في تقييمه ورأيه لامرأة لا يعرفها، ويتعامل أنها امرأة من ممتلكات عائلته، يعتقد أنه قادرا على الصراخ بها والفرار من المكان بسرعة لا تتناسب مع وضعية الانتظار التي كان عليها الجميع.!! وربما في مباشرته القول (أنت) يجعلني أقارب قوله بما أشار إليه "فوكو" بأن اللغة هي بناء اجتماعي، فالترابط بين اللغة وعلاقات السلطة واضح، إذ أن خطاب الاخضاع يتحدد أولاً في اللغة المستخدمة، وهو ما اعتقد أن الرجل يمارسه عمليا بقوله أنت شكاكة ليلقي الاتهام مستبقا لسائقة في ملكيتها الخاصة، ودون أن تبادله أطراف الحديث بالأساس، وفي ذلك اسقاط من الرجل الغريب في الحيز العام، كي يحسم الانتصار لأجله والرجال الذين معه، وكأن هنالك تاريخ طويل من المعارك لخصه في أقل من دقيقتين، وأمام إشارة ضوئية منكسرة أمام القانون والعرف والمجتمع والزمن والمكان إنما هو من يجب أن تكون كلمته الأولى والأخيرة في حوار تراجيدي صامت ولكنه صارخ في ذات الوقت!
فكرت لحظتها كيف يمكن لقائدة مركبتها الخاصة أن تقدم شكوى في رجل لا تعرفه وعلى الإشارة المرورية، كيف يمكن أن أفهم لماذا هذا الحقد الدفين لسائق يبدو عاديا جدا؟ هل تعود على القاء المواعظ والتدخل في الحيز الخاص لنساء عائلته ومعارفه، لذلك لا يجد غضاضة في اقتحام الحيز الخاص لامرأة غريبة لا يعرفها؟ ألا يملك أي أخلاقيات أو أدب كي يفكر مرتين قبل أن يطلق صرخاته المكبوتة ربما من أي سبب كان هكذا في الحيز العام؟! لماذا لا تجد النساء آليات شكاوى عصرية وعملية وعاجلة في حال مثل هذه التعديات! الإشكالية ليست في الرجل ولا الكلمات ولا ردة الفعل لشيء لا أساس له إلا أفكار نمطية مسبقة وعودة أصل الحكاية أنا "مدير الأسفلت" ولي الحق في قول ما أريد ولمن كان ولن أجد من يحاسبني أو يردعني فالإفلات من العقاب هو نهج ممارس بفعل السلطة الذكورية، وتتماهى معه كافة المنظومة الثقافية والاجتماعية، وربما أجد الآن قارئا مبتسما مستغربا هل هذه أولوية في واقع غزة لنقاشها فالبطالة والحصار والحروب خلقت أولويات دائما تقفز أمام أي نقاش لما نشعره وما نريده كأولوية كنساء يتراجع دورهن ومساحتهن الآمنة بفعل كل الظروف السياسية والاقتصادية، ونظل دوما نرجع للخلف مكرهات بفعل الضغط اليومي القاهر، والذي يطحن المواطنين ويعيد لهم قولبة الصور النمطية بما فيها صورة المرأة قائدة المركبة حتى لو كانت مركبتها الخاصة وليست منافسة له في مهنته!!
جنون العظمة والسيطرة يبرز لدى "مدراء الأسفلت" السائقين الممتهنين لمهنة السواقة، وأولئك الذين يمتلكون الجيبات الحديثة وكأن صنف ونوع موديل السيارة يدلل على قوة نفوذه وسيطرته ويزيد من حصته في ملكية الأسفلت، فمن هؤلاء النساء اللواتي يعتبرن دخيلات على مناطق النفوذ المقسمة في الوعي واللاوعي لدى الجزء الأكبر من هؤلاء الرجال، تبدأ أعمال المناكفة والاستباق والسرعة الجنونية حتى لو كانت على حساب الأمان له ولمن معه...!
الطريق مسافة صراع خفي
إن ذكورية الأسفلت تطغى على الإشارات الضوئية، وتعيد الصراع الخفي بين قوة مدراء الأسفلت واستملاكهم في وقت لا يكاد يذكر دور القانون والردع القانوني فتجاوز الإشارات من يقوم بها الرجال، ومخالفة خط السير يقوم بها الرجال، أغلب الحوادث بنسبة كبيرة المتسبب فيها الرجال إلا من رحم ربي، وهذا ليس حكما قاطعا إنما هو قراءة واقعية لمشهد متكرر يوميا بفعل الممارسة.
لا يمكنني أن أغفل أننا نفتقد تماما للثقافة المرورية للمواطنين شباب ونساء وأطفال، ويكاد دور التوعية والتثقيف بخطورة التجاوزات التي تحدث بشكل يومي في المرور والقطع وتجاوز الإشارات وهي ليست مسؤولية الشرطة المرورية ووزارة النقل والمواصلات فقط بل هي مسؤولية ثقافية واجتماعية ومسؤولية أخلاقية يجب أن تتوفر ويتشارك بها الجميع.
من المهم أن نفكر جيدا أن الطريق الأسفلتي هو ملك عام وواجب الحرص الشديد في المرور عبره ومن خلاله والحفاظ على أرواح المارة وأرواح السائقين وليست حلبة صراع لعدالة مفقودة واحتكار لصورة الرجل "سي السيد" ملك الأسفلت.!
كما لا يمكنني ألا أشير إلى جملة من العوامل الموضوعية والأطراف المختلفين الذين يساهموا في تغول فكرة مدير الأسفلت بداية من السلطات الحاكمة في غزة فلا قوانين تمنع أن تكون النساء سائقات سيارات عمومية، وتكاد لا توجد إلا بضع نساء حصلن عليها لكنهن لا يعملن بها إلا بحدود خاصة جدا، قد لا تتجاوز مدارس تعليم السياقة، أما أن تفرض الجهات المسؤولية حتى في مدارس السياقة وأثناء التدريبات العملية للحصول على رخصة سياقة ملاكي على الفتيات أن يجلبن محرما وقت حصولهن على الدروس التي قد تمتد إلى 25 درسا فما فوق فإن الأمر يبدو وكأنه تسلطا وإمعانا في عدم التغيير وعدم الانفتاح، وهذا يستدعي مزيدا من التعقيدات والعراقيل بدلا من تسهيلها لتشجيع الفتيات للحصول على رخصة سياقة، كما أن الثقافة المجتمعية ونظرة المجتمع هي نظرة سلطوية ومتحكمة بشكل كبير، وتعتبر أن مهنة السياقة لسيارات الأجرة هي مهنة حكرا على الرجل بشكل مطلق.
دور الاعلام في تنميط مفتعل
كما لا يمكنني اسقاط الدور الخفي والمعلن الذي تمارسه وسائل الاعلام والإعلاميين في تشجيع التغيير واخراط الفتيات في عملية السياقة أو دوره في إعادة تنميط ما هو منمط وتعزيز الموروثات الاجتماعية الرافضة لوجود فتيات سائقات فتجد أحد العناوين لتقرير صحفي لماذا تزاحم المرأة الفلسطينية الرجل في قيادة السيارة؟! حتى لو كان مضمون التقرير إيجابيا فيكفي العنوان الذي يعيد تثبيت مركزية الرجل وحقه ومكانته وأنه الأول والأوحد في إدارة الأسفلت (الطريق العام) ويتساءل التقرير لماذا تزاحمه وفعل المزاحمة له مدلوله أيضا، وكأنه ليس مكانها أيضا ولا حقها فهي تزاحم في مكان لا حق لها فيه! إن اللغة الصحفية لها دورها وتأثيرها ناهيك عن الاعلام الرقمي حاليا ومقاطع الفيديوهات التي فقط تركز على السخرية من قيادة الفتيات، وكأنه ليس حيزهن وهي كلها تشير لأفكار نمطية تقليدية رافضة للتغيير، ولأن التغيير حاصل فعليا فإن الكثيرين يركزون على السخرية والضحك والتنمر.
إن "مدير الأسفلت" هو تعبير مجازي يشير إلى التسلط الذكوري في الحيز العام على الحيز الخاص للنساء قائدات مركباتهن الخاصة في مكان عام متوقع أن تحكمه الضوابط والأخلاقيات فمهنة السياقة هي فن وذوق وأخلاق، وإذا كان السياق العام بلا ذوق ولا أخلاق، فهو بالتأكيد لم يعد فنا راقيا بقدر ما بات ساحة أخرى لصراع أزلي انتهت معاركه الكبيرة وتبقت نضالات نسوية تكافح في منظومة تقليدية معقدة ومركبة تزداد حبكا في شرنقتها يوما بعد يوم!!