ناجون مع وقف التنفيذ في غزة
لا شيء يذكر...! كل ما هنالك أني أشعر أن قلبي سيتوقف فقط، رائحة الغبار والأتربة تكاد تسحب أنفاسي الملتاعة، الرمل المتطاير فوق رؤوسنا يكاد يصبح مطرا لكنه معبأ بحبيبات كبيرة من التراب ينهمر حولنا في كل مكان يكاد يعمي أعيننا، كل ما هنالك أني أشعر بعطش شديد ولا أجد قطرة ماء، لكني أجد الكثير من الدماء التي لطخت وجوه الناس من حولي...! بعضهم فقد يدا بعضهم فقد قدما، بعضهم رأيت نصفه وهربت فزعة لأرتطم بأشلاء أجساد كثيرة كانت قبل قليل تدعو الله بالحماية، تتكلم فيما بينها كما باقي البشر، تحاول أن تلملم جراحها لكنها كلها صمتت الآن من حولي..
لا شيء يذكر يا قارئي سوى أنني ناجية من الموت/الحياة لا أعرف إن كان بإمكاني أن أتمنى لو أني استشهدت قطعة واحدة، هل أحمل ذنبا إن تمنيت ألا أقطع أشلاء كمن رأيتهم، وأن يجد أحبائي ما يدفنونه، وأن يتمكنوا من تقبيلي والصلاة على، هل أحلامي كبيرة لهذا الحد أن يقام لي بيت عزاء كما باقي البشر، وألا يهرول الجميع فزعين من القصف بينما أنا لازلت أشعر بالعطش الشديد.!
لا شيء يذكر فقط استشهد الآلاف في غزة في اليوم الحادي عشر من العدوان الإسرائيلي على غزة، لا شيء يذكر فقط أصيب عشرات الآلاف وهنالك آلاف لازالوا تحت ركام بيوتهم المقصوفة بفعل الطائرة الحربية الإسرائيلية التي تحمل أطنان المتفجرات على رؤوس الأطفال والنساء، لم يحدث شيء كثير لتترك فنجان قهوتك أو تتكدر فصباحك مختلف وصوت العصافير لازال يهدئ أعصابك، أرجو ألا تنزعج من صوت الناجين فهي مسألة وقت ليس أكثر وسيكونون في عداد الشهداء وسيخبو صوتهم رويدا رويدا ولن تزعجك أصواتهم، إنهم ناجون مع وقف التنفيذ يحاولون أن يدفنوا أشلاء أحبتهم، لا يجدون قبرا فارغا، فيحفرون الأرض التي يجدونها يحفرون بأيديهم قبور أحبتهم، وقبور شهداء أطفال ونساء وشباب وشيوخ لا يعرفونهم ولا يعرفهم أحد..!! يحاولون أن يحققوا أمانيهم الأخيرة تلك التي كان يدعون بها رب السماء بأن يستشهدوا معا كي لا يبقى خلفهم ناج وحيد، كل ما هنالك يا قارئي أن عائلات فلسطينية في غزة قد مسحت تماما من أي أثر في السجل المدني الفلسطيني ولم يتبق منهم أحد وهذه نعمة يراها الغزي الآن، كي ترتاح أنفسهم ولا يبق ناج وحيدا ملتاعا يعاني الأمرين وعذاب الفقد والقهر وحيدا...!
ينكب الناجون يبحثون عن فلذات أكبادهم بين أكوام الحجارة والجدران الأسمنتية المتهاوية على أجساد عائلاتهم في بيوتهم التي كانت آمنة يوما ما، يحفرون بأيديهم بعد أن استنزفت جرافات البحث، ولم تعد تسعف كل البيوت كل هذا القتل والصراخ والعويل يبكي الحجر لكنه يعجز عن أن يبكي بعض القلوب التي لازالت تتفرج على دمنا المسفوك، الناجون لا يريدون منكم شيئا الناجون يريدون أن ينقذوا من لازال على قيد الحياة تحت الردم والأتربة المنهالة على رؤوس الأحياء، ما ذنب طفل ليبقي مع أمه وأخوته الأطفال تحت الحجارة والأعمدة الأسمنتية ستة أيام تحت الركام يتنفسون الأسمنت في حلكة دامسة لا يجدون قطرة ماء، لكنهم لم يعودوا يشعرون بالعطش فهم لم يعودوا ناجين، يا الهي أشعر بعطش شديد هذا يعني أنني لازالت على قيد الحياة/الموت..!
تصل المشافي أجساد لازالت على قيد الحياة لأطفال لا يعرفهم أحد وهم لا يعرفون أحدا، يعيش الناجون في الشوارع يلتحفون السماء والأرض وسادتهم، لا يجدون قطرة ماء، لا يجدون كسرة خبز، هل يزعجك أنهم لا يشربون القهوة لا أعتقد أن الأمر سيزعجك كثيرا فهم عطشى تجف أفواههم وتتشقق شفافهم، لا يكفيهم صوت الانفجارات وصوت الطائرات الناعقة التي لا تفارق السماء، لا تكفيهم خذلان قلوب كان يظن أنها قلوب عربية خالصة، لا تكفيهم مدينتهم التي تتدمر وتخبو شيئا فشيئا ماذا تريدون بعد.؟!
الناجون يلملون جراحهم المثخنة يلملمون الأخشاب المتناثرة في الشارع، يضعونها بجانب بعضها البعض يأخذون الأسلاك المتناثرة من بطون البيوت المبقورة، يلصقون الأخشاب ويربطونها بالأسلاك يصنعون بيتا من خشب مسفوك ومغطى بدماء من رحلوا، يضعون طفلا بعمر أيام علهم يحمونه من هول يوم القيامة الغزاوي، يهدهدون الصغير عله يغفو قليلا رغم الطائرات الناعقة في سمائهم، إنهم ناجون من الدم المسفوك، لكن أحدا لم تنج روحه من بشاعة العالم..
لا عليكم لا شيء يذكر، لا تذرفوا الدمع، ولا تنزعجوا ضعوا قليلا من العطر الفرنسي سيعيد لكم شهيتكم، وتناولوا فطورا فرنسيا خفيفا كي تتمكنوا من تناول الماكدونالز كوجبة غذاء بعد عناء قراءتكم، لا عليكم اقلبوا الصفحة فهي كلمات ناجون بدون صورة مزعجة وبدون صراخ أو عويل، لا شيء يذكر كل ما في الأمر أنها أضغاث بقايا لأصوات ناجين في غزة...!
لا عليكم فقط خمسمئة شهيد رحلوا قبل قليل دفعة واحدة في قصف مستشفى المعمداني في قطاع غزة، واحترقت أجساد الشهداء وعوائلهم أطفالا ونساء ولازال دمهم طازج لم يبرد بعد...!!
26 أكتوبر 2023
تصوير: عبد الرحمن زقوت.