ماذا عن القانون الدولي؟

أقل ما يمكن أن يُقال حول القانون الدولي في هذه الأيام ممن يُشاهد ما يجري على أرض قطاع غزة من دمارٍ وقتلٍ، وحصارٍ يمنع دخول الوقود والغذاء والدواء ويقطع الماء والكهرباء، بأن القانون الدولي هو مجرد "نكتة" أو "كذبة". ولنا أن نقول، ضمن هذه المقالة لمنصة "فارءه معاي": "مين فارقة معه أصلًا ما يقوله أو لا يقوله القانون الدولي"؟ هل هناك من يكترث فعلا لما يتيحه أو يمنعه القانون الدولي؟ وما الهدف من هذا الاكتراث إذا تواجد فعلا؟ يمكننا الإجابة بأن هناك من يكترث لذلك والدليل أن الكثيرين تساءلوا بشكل أو بآخر "أين القانون الدولي"؟ و "ماذا يقول القانون الدولي"؟ وبعضهم ناقش بأن ما فعلته حماس والفصائل الفلسطينية في 7 أكتوبر هو بمثابة جريمة حرب أو بأن ما تفعله إسرائيل هو جريمة حرب أو جريمة إبادة. وشهدنا بشكل لافت وغير مسبوق الإشارة المتكررة على المستوى الإسرائيلي للقانون الدولي وللممارسات من قبل حماس وغيرهم في 7 أكتوبر بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. 

فالبعض يبحث عن القانون الدولي للحماية متوقعا فعلا أن يسعفه القانون والمؤسسات الدولية، والبعض يتساءل ويجزم ويستنتج كي يسلب الشرعيّة الأخلاقية من الطرف الآخر، ظانّاً بأن ذلك يثبت أخلاقياته على عكس الطرف الآخر. لا أسعى هنا أبداً لتحليل قانونية الحرب والاختراقات القانونية لأي من الأطراف، وأشمل هنا أيضا مصر والمجتمع الدولي. لكن، سوف أتوقف عند بعض القضايا المركزية بشأن النقاش حول قانونية بعض الممارسات، في حين أن التركيز هو أكثر على مصيدة القانون الدولي الواقع ضمن منظومة دولية غير ديمقراطية وغير مستقلة. 

أن المسافة بين ما يقوله القانون الدولي وبين فعاليته شاسعة، وبين المنصوص عليه والمفعول به أكبر. لنا ألاّ ننسى بأن القانون الدولي، كالقانون بشكل عام، ليس حياديًا وهو تجسيد لانعكاس علاقات القوة والايديولوجيا والسياسة. فإذا كان نص القانون عادلًا فعلًا واخلاقيًا فإن المشكلة تكمن في تطبيقه، وبذلك يصبح تطبيقه متعلقاً بعلاقات القوة، ويغدو في نظر الطرف الأضعف "نص نظري" أو "كذبة". يشكل القانون غالبًا سلاح الضعيف، فالقوي يصنع القانون ويحدّد مدى فاعليته على مستوى التطبيق جاعلا منه أداة نظرية أو منظومة حقيقية وفاعلة. فيغدو القانون الدولي متعلقا بين اليوتوبيا والمتعذر (From Apology to Utopia): نصوص جميلة، عادلة بغالبيتها، تعكس تمنيات لواقع مثالي نما بعد الحرب العالمية الثانية، هادفة لمنع جرائم وفظائع الحرب بما فيها قتل المدنيين، الدمار، الابادة، والتعذيب، والتجويع، وغيرها.

نحن، كما العالم، ظننا بأن العالم تخطّى تلك البشاعة وأنه لا يمكن لتلك الفظائع التي وقعت خلال حربٍ قتلت عشرات الملايين أن تحدث في عالمنا المتنور، العصري، عالم حقوق الانسان. لم نعلم ولم يعلموا بأننا لم نكن في عصر التنوير والمتنورين. فقد استمرّت الخروقات والجرائم والفظائع كتلك التي وقعت في البوسنة، وميانمار، وكمبوديا، ورواندا، وسوريا، وغيرها. ولم تستطع المنظومة الجديدة المنشودة، هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي، أن تخلق العالم المرجو وأن تمنع الفظائع. فقد خضعت تلك منظومة والعدل العالمي لنفس الأسس: عناصر القوة والمصالح المشتركة، وبالأساس لقوة وإرادة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة، بريطانيا، روسيا، فرنسا، والصين) والتي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن، والذي يشكَل أهم جسم ذو صلاحية لاستصدار قرارات دولية مًلزمة ويسمح باستعمال القوة العسكرية. 

بالنسبة لغزة، فيقتصر النقاش في مسألة القانون الدولي كتمرين أكاديمي لا أكثر في هذه المرحلة. فنحن جميعًا نشاهد ما يحدث، ونشاهد موقف المجتمع الدولي، والدول العربية، وعدم اتخاذ حتى أي قرار ذي جدوى بشأن الحرب. على الرغم من ذلك، يجب الإشارة إلى أن هنالك بعض الأصوات قد بدأت تعلو مناديه بمحاسبة الجانين أمام محكمة الجنايات الدولية، وينطبق ذلك على حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى وإسرائيل. لكن الأهم هنا هو فرصة منح المحكمة فعالية وشرعية بعد أن حاولت دول كثيرة ومنها إسرائيل والولايات المتحدة إضعاف المحكمة وعملها.  

وفي بعض المسائل اللافتة والهامة في تلك الحرب، نتطرق باختصار شديد لمسألة قتل المدنيين ومبدأ التناسب، العقاب الجماعي، واستهداف المستشفيات. نبدأ أولاً بالتأكيد بأن قطاع غزة لا يزال تحت الاحتلال بموجب امتحان "السيطرة الفعلية" لإسرائيل على القطاع حتى بعد الانسحاب منه ودون تواجد عسكري اسرائيلي ثابت. وهو موقف أغلب المؤسسات الدولية في هذا الصدد. ثانيا، يُصنّف الصراع بين حماس والفصائل الفلسطينية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى ك"نزاع مسلح دولي". وذلك بحسب الفقرة الرابعة للمادة الأولى من البروتوكول الإضافي لمعاهدات جنيف من العام 1977، والذي ترفضه اسرائيل حيث لم تصادق أصلا على البروتوكول كونه يعتبر المقاومة ضد الاستعمار أو الاحتلال ك"نزاع دولي" من أجل حق تقرير المصير، وكونه ينظم بشكل كبير نظام حرب الشوارع أو "الغيريلا". وكصراع دولي يخضع النزاع أيضا لباقي الأحكام ضمن اتفاقيات لاهاي وجنيف. وبحسب تلك الفقرة: 

تتضمن الأوضاع المشار إليها في الفقرة السابقة، المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة.

بالنسبة لحياة الأبرياء المدنيين، يمنع القانون الدولي استهدافهم المتعمد خلال الحرب، وإذا ما حصل، فيشكل ذلك جريمة حرب. لذا، قتل حماس والفصائل للمدنيين هو جريمة حرب. وبالنسبة للحكومة الإسرائيلية، ففي النقاش القانوني تصرّح مراراً بأنها لا تستهدف المدنيين عمداً، واذا ما جرى ذلك فهو بمثابة ضرر جانبي (collateral damage)، الذي يقع عند الاستهداف الشرعي لهدف عسكري. لكن في كل الحروب على غزة فإن المدنيين هم الأغلبية ونسبتهم في هذه الحرب أعلى من أي حرب سابقة. يسمح القانون الدولي بالضرر العرضي للإنسان والجماد حين استهداف هدف عسكري، لكن يُخضع ذلك لشروط التمييز واتخاذ خطوات احتياطية لتحييد إلحاق الأذى بالمدنيين ويخضع أيضا لمبدأ التناسب (proportionality)، أي أن يتناسب "الضرر العرضي" مع "الفائدة العسكرية" من استهداف الهدف العسكري. 

ليس هناك تعريف في القانون الدولي لمبدأ التناسب، لكن من الواضح لمن يجتهد بتفسيرات القانون الدولي بأن الثمن المرافق لاستهداف الهدف العسكري يجب أن يتناسب معه، فمثلًا وللتبسيط هل لنا أن نستهدف جندي خلال الحرب؟ الجواب نعم. هل لنا أن نستهدفه أذا كان بجانبه مدني آخر؟ ماذا لو كان هناك 5 أو 50 مدنيًا الى جانبه؟ وأملاك، وعمارات، وبيوت، وغيرها؟ إذا ما أخضعنا مبدأ التناسب للمنطق والمقارنة، فلنا أن نرى في جميع الحروب الأخيرة على غزة بعد 2008 كانت نسبة المدنيين القتلى فيها هي الغالبية، وفي الحرب الأخيرة هي الاغلبية الساحقة. فيطرح السؤال أين التناسب؟ واين التمييز؟ وكيف؟ لنتركها تساؤلات بدون إجابة. نشير فقط الى أننا سمعنا من الكثيرين ممن حاولوا تبرير قصف غزة دون الحاجة للإكتراث للمدنيين أو كردٍّ على النقد الغربي للقصف الإسرائيلي وقتل المدنيين، بحادثة القصف البريطاني-الأمريكي لمدينة درسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية كمحاولة. لقد أغفلوا حقيقة الهدف الأساس وهو عدم تكرار جرائم وفظائع الحرب العالمية ومنها قصف درسدن والمحرقة وقتل الأسرى وغيرها، كما ونسوا بأن ذلك القصف الفظيع كان أساسا على مدار ثلاث أيام وشمل قذف نحو 3,900 طن من القنابل وليس لنحو 50 يوم وعشرات آلاف الأطنان من القنابل.   

أما في سياق التعمدّ والنيّة، فما تعترف به الحكومة الإسرائيلية وتستعمله كاستراتيجية حرب يتفاخر به بعض السياسيين الإسرائيليين هو مسألة العقاب الجماعي والضغط على المدنيين كي يضغطوا بدورهم على قياداتهم أو لإنتاج حالة ذعر وضغط داخلية في غزة (وفي لبنان في حالة حزب الله) على حكومة حماس. يتمثل هذا بقطع الكهرباء والماء والوقود ومنع إدخال المساعدات الإنسانية كوسيلة ضغط على المدنيين وعلى الفصائل الفلسطينية، ويمنع القانون الدولي كل ذلك؛ ومن القضايا اللافتة في هذه الحرب هي مسألة استهداف المستشفيات. يكفي لنا اقتباس المواد 18، 19 و 20 من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تحدد بأن: 

المــادة 18: لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات.

المــادة 19: لا يجوز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية إلا إذا استخدمت، خروجاً على واجباتها الإنسانية، في القيام بأعمال تضر العدو. غير أنه لا يجوز وقف الحماية عنها إلا بعد توجيه إنذار لها يحدد في جميع الأحوال المناسبة مهلة زمنية معقولة دون أن يلتفت إليه. لا يعتبر عملاً ضاراً بالعدو وجود عسكريين جرحى أو مرضى تحت العلاج في هذه المستشفيات، أو وجود أسلحة صغيرة وذخيرة أخذت من هؤلاء العسكريين ولم تسلم بعد إلى الإدارة المختصة.

المـادة 20: يجب احترام وحماية الموظفين المخصصين كلية بصورة منتظمة لتشغيل وإدارة المستشفيات المدنية، بمن فيهم الأشخاص المكلفون بالبحث عن الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء النفاس، وجمعهم، ونقلهم، ومعالجتهم.

أخيراً، غدت المستشفيات في ظل القصف الإسرائيلي الذي يقدر بعشرات آلاف الأطنان ويوازي ضعفي القنبلة النووية على هيروشيما، مخيمات وملاجئ للنازحين كمأوى أخير للحماية. لكن ذلك، كما القانون والعدل الدوليين لم يسعفهم.

د. أحمد أمارة

محاضر في جامعة نيويورك (تل-أبيب) وباحث في العيادة القانونية في جامعة القدس (ابو ديس). يبحث في الجغرافيا وتاريخ فلسطين القانوني، وبشكل خاص قانون الأراضي العثماني والأوقاف. محامٍ في مجال حقوق الإنسان والمرافعة الدولية، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ والدراسات الإسرائيلية من جامعة نيويورك

شاركونا رأيكن.م