إنعكاسات الخوف وسياسة التخويف في مدارسنا العربية

"ماذا تتوقعين مني أن أتصرّف، وأنا أشعر بكل هذا القهر والتوتّر والخوف الكبير من كل كلمة تُقال في غرفة المعلمين؟ طبعا بدي أكون عصبي".

 "أنا شخصيًا مع كل الوجع والاختناق، نبّهت المعلمات والمعلمين ما يحكوا أي اشي عن الوضع، ويركّزوا فقط بالتعليم والمهام التعليمية... والصراحة هيك مريح أكثر".

 "قبل أسبوع احتدّ النقاش بين معلمتين في غرفة المعلمين واثناء دخولي صرخت إحداهما في وجه الأخرى: ما إنت واحدة جاسوسة، يلا روحي إفسدي ايش منحكي هون، خليهن ييجوا يحبسوني!".

 "خلال تجوالي في ساحة المدرسة أثناء الاستراحة، شاهدت فريقين من طلاب صف خامس يتعاركان بشكل عنيف، فريق يمثّل دور رجال حماس وفريق يمثّل جنود إسرائيليين... الصراحة شعرت بالرعب وصرخت في وجه الطلاب أن يتوقّفوا، وشرحت لهم أنّ هذا الامر ممنوع ويشكّل خطرًا عليهم وعلينا جميعا".

 "طلاب صف ثامن قررّوا أن يأتوا الى المدرسة واضعين الحطّات على أكتافهم. بدأ طلاب المدرسة الاخرين بتصويرهم ونشر الصور. حدثت ضجة كبيرة في المدرسة بين معلمين مؤيدين وبين معلمين خائفين من النتائج. الموضوع أزعجني وأرهقني وأشغلني ايامًا بعد الحدث..."

هذا نزر يسير من المواقف والحالات التي سمعت عنها من بعض مدراء المدارس الذين رافقتهم وأرافقهم منذ بداية الحرب الحالية. أحداث وأقوال تعكس حالة الاحتقان، العجز، الخوف والضياع السائدة في المدارس نتيجة لسياسة التخويف والترهيب التي تنتهجها الدولة بكلّ مؤسساتها.  تختلف ردود الفعل من مدرسة إلى أخرى ومن تربوي الى آخر، في حدّتها وفي أشكالها؛ وهي تتراوح بين التواصل مع ما يجري ومحاولة فهم الواقع ومتطلبّات الساعة، وبين الإنكار والتجاهل والاستمرار في التعليم، وبقطيعةٍ عن الحالات الشعورية والإنسانية التي يعيشها الطواقم والطلاب والأهل. 

إمّا الاعتراف بالواقع والتعامل معه، وإمّا الانفصال عن الواقع

إنّ التواصل مع ما يجري والاعتراف بالواقع المركّب، يضع المدراء والتربويين في حالة صراع كبير بين ما يعيشونه على مستوى هويتهم الشخصية والقومية، وبين ما هو متوقّع منهم على مستوى دورهم وهويتهم المهنية؛ إذ يعيش التربويّ  (كما في مهن ووظائف أخرى) حالة من التنافر والتضارب بين ما  يعصف به من مشاعر وأفكار ومواقف، وبين وجوب الحذر والصمت المُتوقّع منه. هذا التنافر قد يؤدي إلى ضغط نفسي متراكم، وإلى شعور بعدم الرضى، واغتراب عن الذات، وبلبلة، وصعوبة في اتخاذ القرارات التربوية السليمة. بعض هؤلاء التربويين يصيبه حالة من "الشلل" الوظائفي، ويميل إلى الحديث فقط عن المشاعر الصعبة وكيفية معالجتها، وغالبًا ما يكون هذا جُلّ اهتمامه وتركيزه في عمله مع الطلاب والأهل. بالمقابل، ينتهج قسم كبير من التربويين آليات عمل دافعية لا-واعية، أو واعية،  يهربون بواسطتها من مواجهة الواقع مثل: الإنكار، الإسقاط، الانفصال (split)...وغيرها. قسم من هؤلاء يسلك سلوك الانفصال عن الواقع، ويستمرّ في القيام بواجباته التدريسية كأنّ شيئا لم يكن. يقوم بتعليم المواد وتعيين الامتحانات، دون الآّخذ بعين الإعتبار كلّ التوترات والضغوطات الكامنة تحت السطح.

إنّ التعامل مع ما يجري بإمّا... أو...، يؤدي إلى خلل وتشويش في مواجهة الواقع مواجهة سليمة، وفي زعزعة القدرة على الثبات والتأقلّم. من هنا يجب علينا إعادة النظر في هذه السلوكيات، في محاولة فهم الدوافع، والعودة إلى ماهيّة دور المدرسة والتربية، في ظلّ ظروف سياسية واجتماعية قاهرة وضاغطة، والعمل على تخطيط استرتيجيات وآليات عمل تتماشى مع خصوصية كلّ مدرسة، دون الانزلاق إلى توجّه "إمّا كلّ شيء أو لا شيء".

المربي الذي يختار أن يعلّم المواد ويتغاضى عمّا يجري في الخارج،  يختزل دوره القيادي والمؤثّر إلى دوره كمدرّس لمواد تعليميّة مفصولة عن السياق السياسي، الثقافي، والاجتماعي.   

التشكّك وفقدان الثقة في العلاقات

لم تكن المدارس العربية والتربويون العرب ينعمون بالشعور بالأمان، وبالحرية وبالثقة الكاملة فيما بينهم قبل الحرب. ولطالما انعكست المشاكل السياسية والاجتماعية على المناخ العام والسلوكيات داخل المدارس. فقد أشغلتنا قضايا التمييز والظلم، وقضّت مشاكل العنف والإجرام مضاجعنا جميعًا.  لكن بالرغم من كل هذه الضغوطات، توفّرت مساحة معينة للمشاركة وللتعبير عن الرأي بين أوساط التربويين، ولم تصل حدّة الكبت والخوف وكمّ الأفواه إلى ما وصلت اليه منذ بداية الحرب. إنّ تداعيات التخويف والملاحقات الفعلية لا تقتصر فقط على الحالة النفسية والشعورية الصعبة التي قد يعاني منها الفرد، وإنما تنعكس أيضًا على العلاقات الاجتماعية والثقة بين العاملين. فالخوف من الحديث، والتشكّك بالاخر صارا يشوّهان العلاقات بين الزملاء، وألقيا ظلالهما على العلاقة مع الطلّاب والأهل.

أسوق مثالًا ما شاركني به أحد المدراء عن حالة الوسواس والتشكّك بين المعلمين :"إحدى المعلمات أتت الى غرفتي تشتكي من شعورها بالاختناق، ومن أنّها أصبحت تخاف من أيّ حديث يدور بينها وبين أحد المعلمين، حتى وصل بها الأمر إلى الشّكّ بأّن احد المعلمين قام بتسجيلها، وهي تقول إنّها قامت بمحو  ستاتوسات من الفيسبوك". طبعا لا يمكن التعميم بأنّ هذا ما يجري في كلّ المدارس، ولكنّ هذه المواقف تدعو إلى القلق إزاء فقدان حرية التعبير والعفوية في التواصل الاجتماعيّ، وضرب نسيج العلاقات الإيجابية، ودفع التربوي إلى اختبار الوحدة والانعزال في وقت يجب أن تكون فيه العلاقات بين الزملاء داعمة، تعاطفيّة، ومهمّتها تخفيف الضغط الحاصل من الخارج.

التعامل مع الواقع بحكمة 

لا يمكن تجاهل الواقع والاستمرار في العملية التعليميّة، رغم ادعاء بعض التربويين بوجوب التزام الهدوء، وبأنّ الأمر عاديٌّ، وبأن " ما في اليد حيلة" ، "وكلّنا في الهوا سوا". على الرغمّ ما في هذه الجملة من عزاء وشعور بالتشابه، إلّا أن واجبنا الانساني، الأخلاقي والتربوي يحتّم علينا كتربويين عرب أن نطرح القضايا بحذر وبحساسية وبحكمة، وأن نكتسب بعض المهارات في كيفية إدارة الحوار، وتناول مواضيع حياتية بشكل حياديّ، مسؤول ونقدي.

فيما يلي بعض المقترحات العمليّة كمثال لما يمكن القيام به:

  • خلق مساحة أمنة في المدرسة للطاقم التربوي، وإعطاء المعلّمين الحقّ في التعبير عن مشاعرهم، والانتباه للفرق بين شرعية المشاعر، وبين عدم شرعية الخطاب أو السلوك العنيف والمحرّض (ممكن القول مثلا: انا خائف وموجوع بسبب قتل الأبرياء،  لكن لا يسمح بالقول مثلا: الله يمحو مجموعة معينة...)

  • إعطاء الحق للطلاّب في التعبير عن مشاعرهم، والتعاطف والتماهي مع الوجع الإنساني، بما في ذلك وجع أبناء شعبهم. بالمقابل عدم السماح بتفوّهات عنصرية معادية تدعو إلى العنف والكراهية.

  • تحفيز الطلاّب على التفكير العميق، وحثهّم على التساؤل، ولعب أدوار (محاكاة) لجهات مختلفة من أجل تطوير مهارة التعاطف وفهم الأخر.

  • اختيار نصوص عامّة (ربما من حضارات شعوب مختلفة مثل السود والأفارقة) وتناول قضايا إنسانية عامّة وقيم مثل: العدالة، الظلم، المساواة، المحبة، التضامن، المساعدة وغيرها.

لا تكفي الأمثلة أعلاه لمواجهة الواقع الصعب والمركّب وتغييره، ولكنهّا تدعو إلى الخروج من دائرة اليأس والجمود إلى التفكير بما يمكن فعله ولو جزئيًّا. هي دعوة "لاستغلال الواقع" للتعلّم والتطوّر مهنيًّا، خاصة فيما يخصّ التربية للأخلاق والقيم وتنمية التفكير النقدي والواعي.

د. إيزابيل سمعان رمضان

باحثة ومحاضرة في كلّية أورانيم للتربية ومركّزة مشاريع تربويّة ومرشدة طواقم تربويّة

شاركونا رأيكن.م