الحرب على غزة: المستشفيات في مرمى الاستهداف

منذ حوالي ١٦ عام وأكثر أقوم بزيارة قطاع غزة مرة كل شهرين ضمن وفد من الأطباء الاخصائيين في مجالات جراحية وسريرية متنوعة وذلك تحت مظلة جمعية "أطباء لحقوق الانسان". نقوم بعمل طبي تطوعي متنوع من عيادات وفحص وعلاج وأيضا نعمل في مستشفيات قطاع غزة على إجراء العمليات الجراحية وتدريب طواقم طبية، إلى جانب تشخيص وعلاج وتدريب الطواقم الصحية – النفسية على مواجهة الازمات والصدمة ما بعد الازمات. 

لقد كنت في قطاع غزة وعملت مع الزملاء هناك في مستشفى الشفاء وأيضا في عيادات على امتداد قطاع غزة المحاصر في كل الحروب او الحملات العدوانية في الأعوام ٢٠٠٨، ٢٠١٢، ٢٠١٤، ٢٠١٨، و٢٠٢١. رأيت بأم عيني نتائج القصف العنيف على بيوت أهالي غزة من شهداء وجرحى، جروح وحروق وتمزق، رأيت معاناة الطواقم الطبية وعملها المتواصل بأقل الإمكانيات لإنقاذ الجرحى وتطبيب جراحهم. 

عانى الجهاز الصحي في قطاع غزة ما قبل السابع من أكتوبر (الحرب) من أزمة خانقة لقلة الموارد الطبية من أجهزة ومعدات وأدوية، وهذه كانت من أبرز الإشكاليات التي تواجه المستشفيات الحكومية منذ فرض الحصار على قطاع غزة، حيث وصل النقص بالمعدات الطبية إلى نحو ٧٠٪؜ ونقص يالأدوية إلى نحو ٦٠٪. 

كنا نحاول جاهدين مساعدة زملاءنا في الجهاز الصحي الذين يقومون بتأدية واجبهم المهني والإنساني في ظل الحصار وشح الإمكانيات. 

ومنذ بدء الحرب وسقوط عشرات الآلاف من المدنيين العزل ما بين قتيل وجريح، جلهم من الأطفال والنساء، ناهيك عن استنزاف الطواقم الطبية وعدم قدرتها على أداء مهامها في معالجة هذا الكم الهائل من الجرحى والمصابين، ونفاذ الدواء والمعدات الطبية اللازمة لغرف العمليات؛ وقطع المياه والوقود عن المستشفيات واستهداف الطواقم الطبية من أطباء ومسعفين وسيارات الإسعاف؛ نشهد مأساة وكارثة إنسانية حقيقية، فنحن الآن أمام انهيار كامل للمنظومة الصحية في شمال قطاع غزة ومدينة غزة وذلك بعد توقف جميع مستشفيات غزة في الشمال عن العمل نتيجة القصف والحصار، نفاذ الوقود والأدوية والمستلزمات الطبية. 

ومع الكمّ الهائل من الجرحى والحالات الصعبة جدا التي تحتاج لتدخلات جراحية عاجلة وبظل غياب وتدمير اغلب المرافق الصحية من عيادات ومراكز طبية ومستشفيات وبضمنها مستشفى الشفاء والمستشفى الاندونيسي وهما من أكبر مستشفيات شمال القطاع، هناك تصاعد في خطورة أوضاع الجرحى. 

حتى خط هذه السطور، خرج ٢٦ مستشفى من أصل ٣٥ عن الخدمة كليا في قطاع غرة، وبعضها أصيب بقصف مباشر، مما أدى إلى تدمير أقسام بأكملها داخل هذه المشافي. 

مستشفى الشفاء وهو مجمع طبي كبير يضم العديد من البنايات ومنها بناية التخصصات الجراحية ومبنى الطب النسائي والتوليد، تضرر بشكل كبير نتيجة القصف والاعمال العسكرية؛ بالإضافة إلى تدمير محتوياته من أجهزة ومعدات. يجب ترميم وإعادة اعمار هذا المجمع وغيره من المستشفيات والمرافق الصحية بشكل كامل وعاجل، نظرًا لانهيار نظام الرعاية الصحية في القطاع وتضاؤل امداداته التي قد تصل إلى نقطة اللاعودة. 

الحرب على غزة وحجم المأساة التي لا تتوقف عند عدد الضحايا الكبير وحجم التدمير الهائل، بل تتعدى ذلك لتصل إلى فقدان كل شيء حتى البنى التحتية (كهرباء، وقود، ماء، غذاء ودواء)، إلى جانب الخشية من تضاعف أعداد الضحايا في هذه الحرب الشرسة وغير المعقولة بسبب انهيار المنظومة الصحية بوجود عشرات الآف الجرحى والمرضى ووضع صحي عام متدني إلى أبعد الحدود، قد يؤدي إلى انتشار الامراض والاوبئة وعلى وجه الخصوص الامراض المعوية والجلدية وسوء التغذية. 

اليوم وبعد مضي ما يقارب الشهرين على الحرب الضروس على قطاع غزة ونزوح اكتر من مليون ونصف من السكان وتدمير كافة المنشآت الحيوية من محطات الكهرباء وضخ المياه ومحطات الصرف الصحي، ناهيك عن عشرات الألاف من القتلى والجرحى، هناك حوالي 700 ألف مواطن ممن بقوا في شمال القطاع ومدينة غزة وهم الان في خطر محدق، لانعدام وجود الخدمات الصحية من مستشفيات وأطقم طبية وأدوية. 

حتى اليوم تم نقل ٤٧٠ جريح إلى المستشفيات خارج قطاع غزة، لا سيما المصرية، وبقي في مستشفيات المحافظة الوسطى والمحافظات الجنوبية عشرات الآلاف من الجرحى ممن هم بحاجة ملحّة للعلاج، فضلا عن الآلاف الذين يحتاجون لتدخلات جراحية عاجلة؛ وهذا بمثابة أمر مستحيل في ظل أوضاع مستشفيات القطاع الحالية، مما يجعل هؤلاء الجرحى عرضة للموت المحقق. 

قطاع غزة على شفا كارثة صحية خطيرة، فهناك تكدس لحالات جراحية لا يمكن معالجتها في القطاع، هناك نقص بكل التخصصات الجراحية، لأطباء وممرضين وحتى مواد تخدير. هناك حاجة ماسة لإقامة مستشفيات ميدانية والسماح بإدخال الوفود الطبية والمساعدات الإنسانية على وجه السرعة. 

هناك الآلاف من المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة ولا يتلقون العلاج، وهناك مرضى الفشل الكلوي وخاصة في شمال القطاع ومدية غزة بدون أي رعاية صحية وبدون مستشفيات واقسام غسل الكلى وهذا ينذر بكارثة حقيقية. 

في ظل هذه الحرب المدمرة وتداعياتها الوخيمة على أكثر من مليونين وثلاث مئة انسان، جلهم من النازحين التي دمرت بيوتهم، وعشرات الآلاف من الجرحى والقتلى، وبانعدام أي مقومات للحياة، فان غزة على شفا كارثة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. 

يجب وقف هذه الحرب فورا وإدخال الامدادات الطبية والوفود العلاجية، لإنقاذ أهل غزة من هذه الكارثة غير المشهودة في التاريخ المعاصر.  


الصور المركزية المرفقة بالمقال: لعبد الرحمن زقوت، أما باقي الصور فتتبع لجمعية "أطباء لحقوق الإنسان - PHRI".

د. رائد حاج يحيى

طبيب اطفال وناشط ومتطوع في جمعية "أطباء لحقوق الانسان"

شاركونا رأيكن.م