ماذا يفعل "القلق السامّ" لأدمغتنا وتأثيره على العقل؟
يعلم الجميع أننا نعيش في عالم مليء بالتغيرات، والضغوط المستمرة، مما يجعل أدمغتنا في حالة اختبار مستمر، بسبب التقلب، وعدم اليقين، وبسبب التعقيد والغموض، ما يؤدي إلى "إجهاد سام"، يؤثر على صحتنا العقلية وشعورنا بالأمان. إن التعرض المتكرر لحالات وأزمات طارئة، في بيئة مركبة، وعنيفة، يؤدي إلى تلف الدماغ. وهذا بدوره يؤثر على حياتنا اليومية، فيزعزع الشعور بالأمان وفقدان السيطرة على الأداء الوظيفي والاجتماعي.
تكشف لنا الأبحاث الحالية تأثير هذه الضغوطات على هيكلية الدماغ، خلال مراحل النمو الحاسمة، للطفولة المبكرة، والتي تتميز بمرونة الدماغ العالية. لذلك، فمن الضروري لنا تهيئة ظروف بيئية داعمة لأجل النمو والتطور الإيجابي للدماغ، وهذا يساهم بدوره في التكيّف بطريقة أفضل في ظل الظروف، والواقع، والتغيرات الضاغطة- VUCA. وهذا مما يحدّ من الاجهاد السام.
ومن المعلوم لدينا أن الدماغ البشري يشكل فقط 2% من وزن الجسم، إلّا أنه يستهلك ربع طاقتنا اليومية! مما يشير إلى أهميته، ودوره الرئيسي في أداء الوظائف المتعددة. وبكلمات أخرى نقول: إن التطور السليم، والصحي للدماغ، يؤثر على رفاهية والصحة النفسية للإنسان.
من ناحية أخرى يؤكد علم الدماغ، على أهمية كبر حجم قشرة الدماغ الأمامية (PFC- Prefrontal cortex) والتي تلعب دورًا أساسيًا في الحركة، وإدارة وتنظيم العواطف، وحل المشاكل. وهذا ما يميّز الأنسان عن باقي المخلوقات! لهذا فأن للبيئة المحيطة دورا رئيسيا في تطور هذا الجزء من الدماغ، مقارنة مع باقي أقسام الدماغ، كما هو مبين في شكل 1.
وبالعكس، فأن البيئة المحبِطة، والمركبة والمليئة بالضغوطات، وعدم الاستقرار، يكون لها التأثير الكبير، والخطير على هذا القسم من الدماغ.
هيكلية الدماغ (Brain Architecture)
من الثابت علميًا، أن السنوات الأولى من حياة الاطفال، تكون أدمغتهم مرنة جدًا، بحيث يتم إنشاء حوالي 700 اتصال بين الخلايا العصبية في الثانية، ولذلك يكون لدى الأطفال المقدرة الهائلة على التعلّم السريع! حيث تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض من خلال تشابكها، ويتم تقليم الروابط الزائدة، ومن ثم يتم عزل المسارات، من اجل تسريع انتقال المعلومات الكهربائية. وتتأثر هذه العملية بالناقلات العصبية والبيئة المحيطة، وبالتالي تٌعد تجارب الحياة والخبرات المبكرة حاسمة في بناء هيكلية الدماغ.
ومن أجل تحقيق التعلّم الأمثل، والنمو العقلي السليم، يحتاج الأطفال إلى بيئات داعمة وغنية بالمحفزات الإيجابية، وخالية من المحفزات الضارة. وهذا مما يدعم بشكل حاسم قدرة دماغ الأطفال على التكيّف والنمو.
كما أن استخدام التداخل الصحيح من موجات الدماغ، تمثّل ردود الفعل والسلوك المنطقي. ويمكننا ملاحظة موجات الدماغ، ورؤيتها على مخطط كهربائي للدماغ (EEG)، كما هو موضح في شكل 2. والتي تعبّر عن إيقاعات مرئية لنشاط الدماغ. وتعدّ هذه الموجات ضرورية للعلماء والأطباء، لفهم كيفية عمل الدماغ، وتأثير المحفزات المختلفة عليه.
ذكرنا سابقا إن للبيئة دورًا وتأثيرًا على هيكلية الدماغ. وعليه فعندما يتعرض الفرد – وخاصتا الطفل- مرارًا وتكرارًا لمشقة شديدة ومستمرة دون رعاية داعمة يحدث "إجهاد سام" في الدماغ. وهذا ما يؤثر بشكل ضار على قدرة الفرد على التعلم، والتصرف، والحفاظ على صحته الجسدية والنفسية مدى حياته.
ان التجارب السلبية التي يمر بها الطفل (ACEs- Adverse childhood experiences) كسوء المعاملة، أو الإهمال، أو عدم الاستقرار في الحياة الاسرية، تزيد بشكل كبير من خطر الإجهاد السام. والذي يتوّج بمشاكل صحية كبيرة، في مرحلة البلوغ (المشاكل النفس جسدية)، بما في ذلك أمراض القلب، او الرئتين، او الكبد، او السرطان، او احتمال أكبر للإصابة بهشاشة العظام.
وعليه، فمن الضروري وضع استراتيجيات مبتكرة لوقف انتقال هذا الإجهاد السام من جيل إلى آخر.
إن هذه الاستراتيجيات تركّز على تعزيز مهارات مقدمي الرعاية، لتلبية الاحتياجات العاطفية، والسلوكية، والنمو عند الأطفال. وذلك بدءًا من التعليم من مرحلة الطفولة المبكرة. وعليه يجب على مقدمي الرعاية الصحية للأطفال، التعرف على آثار الإجهاد السام ومعالجتها، واتخاذ الاجراءات لتعزيز المرونة والحصانة النفسية، وتقليل الآثار الضارة للتوتر. وحماية الأطفال من مخاطر الاجهاد السام. حماية الأطفال من هذا الاجهاد السام، يقع على عاتق الوالدين، لأن رعاية الوالدين وتلبية الاحتياجات العاطفية، والسلوكية والتطورية للأطفال، تبدأ من مرحلة الطفولة المبكرة، سعيا لتطوير المتانة والحصانة النفسية على مرّ السنين.
ان توفير الدفيئة الأسرية الداعمة، والمليئة بالتقبّل والحب غير المشروط والتي ترفع من مستوى هورمونات السعادة أمر، في غاية الأهمية، لضمان تطور قدرة الدماغ على التكيّف والنمو السليم.
ثم أن تلبية احتياجات الطفل بالوقت، والقدر الملائمين، - خصوصًا في مراحل الطفولة المبكرة- من شأنها أن تساهم في تعزيز التطور السليم، وبناء روابط دماغية قوية، تدعم هذه الاستجابة.
الافتقار إلى مثل هذه الرعاية الأسرية يمكن ان يؤدي إلى عرقلة تطوّر الدماغ، أضف الى ذلك فأن الإجهاد الشديد في مرحلة الطفولة من سوء المعاملة، أو اهمال أسري، كل ذلك يؤدي إلى ضرر دائم، بما في ذلك اضطراب التعلّم، والتعليم المدرسي، واضطراب تطور الدماغ، لا سيّما في الجزء الأمامي من الدماغ (PFC)، وهو أمر ضروري لتطوير التفكير النقدي، وحل المشكلات المعقدة، وتنظيم المشاعر، وضبط الذات. تتمّ الحصانة النفسية، بطريقة متواصلة، وطويلة الأمدّ. فهي تشتمل على تفاعل بين القشرة الدماغية، والنظام الحوفي (اللمبي) العاطفي (Emotional Limbic System’s). فعندما نكون متنبهين، ومسيطرين على أنفسنا، تعمل قشرة القسم الامامي للدماغ (PFC) الذي هو المركز التنفيذي للدماغ بكفاءة، وذلك بفضل تركيز المستويات المتوازنة من الناقلات العصبية مثل النورإبينفرين والدوبامين.
ان هذا التوازن، (الموضح في الشكل ٣) ضروري للتحكم من أعلى إلى أسفل (top-down)، حيث إن (PFC) تعمل على تنظّم مشاعرنا وأفكارنا وأفعالنا. أما الإجهاد فيعطل هذا التوازن، ويغمر (PFC) بهرمونات الضغط والتوتر كالكورتيزول، واختلال في مستوى الناقلات العصبية التي تؤدي الى اضعاف سيطرة الـ(PFC) اتصالات ضعيفة من (PFC). وفي الوقت نفسه، فإنه يرفع من ردود الفعل العاطفية الغريزية، المنظمة من خلال اللوزة الدماغية "Amygdala" والمخطط "Striatum". في حين أن هذه الاستجابة الغريزية، تنقذ حياة الانسان من خطر مباشر في المواقف مما يتطلب إجراءات سريعة، وردود فعل فورية، دون تفكير كبير، وذلك لمواجهة مصدر الضغط بأساليب مختلفة، مثل: المواجهة، او الهروب أو العجز، او الشعور بالشلل (Fight- Flight Freeze) إلا أن هذه الردود الغريزية أقل فائدة في المواقف التي تتطلب تفكيرًا استراتيجيًا هادئًا.
وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن الإجهاد الحادّ يمكن أن يوقِف بشكل فعّال الجزء الأمامي من الدماغ PFC، ويُسلم التحكم إلى دوائر الدماغ البدائية والتي يمكن أن تؤدي إلى السلوك المندفع، الإجرامي والعنيف.
أن مكوث الطفل في بيئة سلبية، وغير داعمة لفترة طويلة، قد يزيد احتمال الإصابة في اضطرابات نفسية وصحية خطيرة، في مراحل متقدمة من حياته. وعليه فان تجارب الطفولة السلبية يمكنها أن تؤثر بشكل سلبيي على منطقة الدماغ العاطفي التي تشمل الهيبوكامبوس (Hippocampus) والتي تؤثر ايضا على الذاكرة والقلق والخوف. ولهذا يتم تفعيل رد الفعل الغريزي بشكل أساسي. وعلاوة على ذلك، تلعب الهرمونات المرتبطة بالتوتر والعمليات المرتبطة بالأدرينالين في الدماغ، دورًا في جعل الذكريات العاطفية أقوى! ولذلك يمكننا القول أن المشاعر الشديدة أثناء الأحداث المؤلمة، هي السبب في خلق ذكريات يصعب نسيانها! وكذلك تسبب اضطراب ما بعد الصدمة.
أما في البيئة المدرسة، فيمكن أن تظهر الصدمات بطرق واضحة، مثل: العصبية، العدوانية، أو النعاس المفرط، او العزلة، والاكتئاب، او صعوبات في النوم والأكل وغيرها. ومع ذلك كله يمكن أن تكون العلامات الأخرى، مثل صعوبة التركيز، أو عدم الاهتمام بالتعلم، وغالبًا ما لا يتم التعرف عليها كأعراض لطفل متوتر أو مصاب بصدمة.
من الضروري لنا معرفة الدوافع وراء السلوك بشكل عام لتوفير مساحات آمنة وداعمة للأطفال من اجل نمو سليم ومن اجل تطوير الحصانة النفسية عند للأطفال.
كاتبا المقال: الدكتور رائد معلم- رئيس قسم العلوم الطبيعية والبيئة في كلية أورانيم، ورئيس منتدى رؤساء الاقسام العلمية في الكليات التربوية في البلاد في معهد موفيت.
والدكتورة سهراب مصري- محاضرة أكاديمية في قسم الاستشارة التربوية للقب الثاني ووحدة التخصص في التدريس في كلية سخنين، معالجة زوجية أسرية، وسلوكية معرفية.
د. رائد معلم
رئيس قسم العلوم الطبيعية والبيئة في كلية أورانيم، ورئيس منتدى رؤساء الاقسام العلمية في الكليات التربوية في البلاد في معهد موفيت