منظومة بأكملها تحمي المعتدي وتعاقب الضحية: ميرفت العزة أنموذجاً
تعرضت الصحافية ميرفت العزة إلى حادث كسرت فيه يدها واستدعى الأمر دخولها إلى أحد مستشفيات بيت لحم، ثم تطلب الأمر بعد فحصها من الطبيب أن تتوجه لفني أشعة في المستشفى ذاته. وأثناء التصوير حدث ما لم تتوقعه في أسوأ كوابيسها، تحرش جنسي أثناء تلقيها لخدمة تصوير الأشعة. وكما قالت: "يدي المكسورة والمتضررة وقدمي وألم في كتفي لم أفهم لما نزع عني ملابسي الداخلية في الجزء العلوي وبدأ بالملامسة وتكرر الأمر"، لم تستوعب في البداية ما يحدث، لكن كلما كرر الأمر في منطقة لم تكن تشعر بالألم فيها أصلاً، استدركت ما يحدث معها لتخرج صارخة في أروقة المشفى طلباً للنجدة!
لم تلجأ ميرفت إلى الإعلام عبر الفيديو الذي أفصحت فيه عما حدث معها بالتفصيل- رغم حقها في ذلك - إلا بعد أن شعرت بأن أحداً لا يريد إنصافها والجميع يرغب في إسكات صوتها. هذه الحادثة وقعت يوم 2 من شهر آذار، شهر النساء، الشهر الذي يتغنى الجميع فيه بالمرأة وحقوقها، الشهر الذي يذكر دوماً بمطالب النساء بالعدالة والانصاف. لقد استمرت ميرفت لأكثر من خمسين يوماً ما بين لجان التحقيق، ووزارة الصحة، والنيابة العامة، وبعض المؤسسات الحقوقية للحصول على حقها من المتحرش، رغم أن سبب وجودها في المشفى كان حادثاً وهي مصابة بيدها وقدمها، وقضت وقتاً غير يسير في إجراء عمليات في يدها، فكيف لامرأة تعاني بهذا الشكل يمكنها أن تجد وقتاً لتفتري على متحرش لا تعرفه ولا يعرفها..! وهي تحاول أن تتلقى خدمة صحية في مشفى يقدم الخدمات الصحية لكل النساء، كيف يتم التكتم على الحادثة من قبل المستشفى، ولا يتم الإبلاغ عن المتحرش وإيقافه عن العمل حتى يتم التحقق من حادثة التحرش؟ إن ردود فعل الجهات المسؤولة غير مبررة والمماطلة والتسويف في قضية التحرش بحاجة إلى لجنة طارئة وعاجلة ومهنية. الغريب في الأمر أن النيابة العامة تطلب إثبات السلامة العقلية للمشتكية. ووفق مركز مساواة، فلا سُلطة للنيابة العامة على المُشتكية، الأمر الذي يوضح أن قرارها بإحالة المشتكية إلى الفحص النفسي والعقلي إنما يندرج تحت مظلة فقدان القيمة القانونية ولا يستند إلى أي سبب قانوني ويُعتبر مساً بحقوق المواطنة الدستورية وتجاوزاً لاختصاصات وصلاحيات النيابة العامة.
المجتمع لا يصغي لصرخات الضحية لكنه يدافع عن المتحرش
منذ الصرخة الأولى التي أدركت فيها ميرفت ما يحدث معها وصرخت هاربة من غرفة الأشعة لممر المشفى والجميع يحاول إسكاتها. فالمجتمع لم يعتد بعد على امرأة تطلب النجدة للإفلات من متحرش وقت الفعل تماماً. إنها صدمة من لا يرغب في التصديق ولا يرغب في الفضيحة. رجل الأمن ينهرها، الجميع يحدق بها وكأنها هي الجانية، المشفى يتكم على الأمر، لجنة التحقيق الأولى تحاكمها وكأنها هي الجانية، لا مراعاة حقيقية لامرأة مصابة ومتحرش بها إلا الانكار والاستنكار، الجميع يفكر بكل شيء إلا أن هنالك امرأة تعرضت للتحرش ووجب معاقبة الجاني وانصافها...!! المجتمع لا يصغي ولا يريد أن يصغي ولن يصغي لأنه برع على مدار سنوات طويلة في خنق كل الأصوات الحرة، تلك الأصوات التي تقول لا للظلم، لا للمتحرشين، لا للإهانة والقهر والعنف، قضايا النساء تُطوى دوماً في صندوق أسود أتقن حاملو مفاتيحه وأد أصواتهن منذ الخليقة الأولى، ولا زال المجتمع في اللاوعي يحارب الضحايا والمشتكيات ويهرع ليدافع عن المتحرش. فتارة هو برئ دون أي تحقيق حقيقي وتارة يده فيها رعشة وتساق المبررات على لسان رموز رسمية تفصح عن تواطؤ مخيف بين قوى صانعي القرار وقوى المجتمع النافذة بينما تداس النساء في طريقهن نحو النجاة!
بلا رادع وبلا عقاب للمعتدين...! لماذا تخسر النساء دوما في مجتمع شرقي؟
الوأد الأول كان بمجرد ولادة أنثى يحفر لها وتدفن تحت التراب، الوأد العصري الآن هو إطلاق كل الأحكام البشعة وقتل المشتكيات معنوياً، وإلقاء التهم عليهن أو تكذيبهن دون أي وجه حق. الوأد العصري اليوم هو بإسكات الضحايا وتمجيد المعتدي ليعيد الكرّة مرات ومرات ويفلت من العقاب ويستبيح حرمات فتيات أخريات ويراهن على من ستتجرأ وتخرج عن عباءة القبيلة، من ستتحمل قتلها معنويا وتشويه سمعتها..ّ ومن سيصدق المشتكيات ويكذّب المعتدي الذي يجد له المجتمع أسباباً كثيرة لتبرئته، وكأن المجتمع يبيح الانتهاكات والتحرش بصمت ودون ضجيج ليحافظ على صورته التجميلية ويدّعي الشرف!!
بل الأبشع من ذلك أن تتلقى الضحية تهديدات من عائلة المتحرش، الذي لم تذكر اسمه ولا اسم عائلته، بدعوى التشهير، وكأن المجتمع حسم رأيه بأن لا صوت للمشتكية، وهي خارجة عن العرف وعليها أن تشعر بالتهديد والخطر من جديد على حياتها!! فماذا أكثر من ذلك بشاعة ووقاحة لمجتمع يجرّم الضحية ويسعى بجبروته لإسكات صوت الناجيات اللواتي لا زلن يحاربن جدران الخزان. إن حجم المخاطر والمخاوف بات أكبر مما سبق حين نفكر بكل النساء والفتيات اللواتي تعرضن لإساءة أو تحرش أو ابتزاز بين كواليس الأماكن التي يفترض أن يتلقين فيها الخدمات الصحية، أو الاجتماعية، أو التعليمية، أو أي خدمات أخرى. ماذا فعلن؟ هل لذن بالصمت؟ نعم هن مجبرات ومكرهات على أن يلذن بالصمت لأن المجتمع يُشهر سيفه نحو الضحايا لا نحو المتحرشين. وليس بعيداً، في المجال الأكاديمي في أحد التحقيقات الاستقصائية التي سلطت الضوء على الفساد المبني على النوع الاجتماعي في الجامعات حين تحرش أحد الأكاديميين بإحدى الطالبات، جاء في اليوم التالي كأنه لم يفعل شيئاً، لا بل بوقاحة أكبر أعاد مجدداً التحرش بها وبغيرها من طالبات غير مبالٍ بالجامعة ولا بالمجتمع؛ ولسان حاله يقول من سيصدق طالبة صغيرة في العمر؟ بكل بساطة، هو يدرك أن المجتمع بأكمله سيقف إلى جانبه وسينال من الطالبة بكل سهولة، هذا إن لم ينل منها المجتمع بطريقته الخاصة، فالسمعة هي سيف القبيلة الثاني الذي يهدد بها ضحايا التحرش الجنسي!!
المتهم برئ والمشتكية يشكك بسلامتها العقلية والنفسية
المحير في أمر جرائم التحرش الجنسي وفي دوائر حكومية مفترض أن يبذل فيها الجهود القصوى لتقديم الرعاية والخدمات الصحية على أكمل وجه وتقديمها بإنصاف وعدالة وكرامة ودون تمييز، حين يتم الشكوى بوجود تحرش وتتجرأ الضحية لتقف في وجه المنظومة المعقدة، الفكرية والثقافية، ما الذي يحدث فعلياً؟! كما في حادثة ميرفت، فقد تم التكتم على الأمر في البداية من طرف المستشفى، وكأن الاتهام موجه نحوه هو وليس نحو شخص قد يكون فاسداً متحرشاً. لم تفكر المنظومة الصحية، ولو بنسبة واحد بالمئة، أنه قد يكون متحرشاً على مدار سنوات بمريضات لجأن للحصول على خدمة الأشعة لديه. لم يفكر المشفى بأن ينقذ من قد يقعن تحت يد متحرش مرة أخرى وأخرى ولو بنسبة ضئيلة. كل ما فكر به هو تكذيب المشتكية وكأنها هي من يجلب العار للقبيلة؟! سارعت نقابة فنيي الأشعة إلى تبرئة المتحرش وشكلت لجنتين قامتا بتبرئته وكأن المشتكية كانت غباراً بالنسبة لهم ويجب أن يتم مسحه وتبرئة المتحرش، كيف وما هي آليات التحقيق؟ لا نعرف شيئاً عنها؟ النيابة العامة تطلب من المشتكية العديد من الأوراق والإثباتات، منها السلامة العقلية والنفسية، عدد من المؤسسات الحكومية الوزارية وذات العلاقة لم تسأل ولم تسع للتواصل مع المشتكية بذريعة أنها لم تتواصل معهم؟ كم غريب أمر هذه المنظومة الثقافية المؤسساتية التي إن لم تتواصل ولم تبلغ بها المشتكية تعتبر أنها غير موجودة وأنها ليست طرفاً، إن هذه الجهات بحاجة إلى إعادة التفكير كثيراً في صوابية دورها وتحسين دورها في تقديم خدمات مواجهة العنف المبني على النوع الاجتماعي.
مشهد رقمي مبتذل يسن سكاكينه نحو الضحايا
هنالك الكثيرون يدافعون عن حق ميرفت بالرأي والنقاش أو قاموا بمشاركة الفيديو الذي تحدثت فيه بالتفصيل عن حادثة التحرش داخل المستشفى، لكن هنالك القتلة الصامتون الذين يسنون سيوفهم خلف لوحات المفاتيح وينالون من ميرفت وكأنها اختلقت الأمر ويشككون في روايتها وكأنهم كانوا شهوداً داخل غرفة الأشعة التي شهدت واقعة التحرش، يكتبون وكأنهم الأخيار الذين لا يريدون لصورة المجتمع أو صورة المشفى أو صورة الرجل أن تخدش، ولسان حالهم يقول: ندافع عن صورتنا وهيبتنا ولا نسمح لامرأة مشتكية أن تنال مما شيدناه من تعظيم لسطوة الذكور، حتى لو كانوا مخطئين. فالخطيئة امرأة وليست رجلاً. هؤلاء عبثوا وما زالوا يعبثون بالمشهد الرقمي، يثيرون الكذب والافتراء على الضحية وكأن اثبات حادثة التحرش ستصيبهم جميعاً. إن هذه المنظومة الثقافية الرقمية التي تبدو وكأنها معركة مستمرة أزلية بين المكتسبات الذكورية وبين عبودية النساء اللواتي يجب أن يبقين صامتات حتى لو تم التحرش بهن، المعركة التي يجب أن ينتصر بها الرجل وصاحب المشفى، والرجل المتحرش، والإعلام الصامت، وحتى مكونات قطاع العدالة التي يجب ألا تنال من المسَلّمات المجتمعية وإعادة الهدوء والصمت وكأن شيئا لم يكن!! إن خطورة المشهد الرقمي تكمن في إعادة انتاج الهيمنة الذكورية والأبوية ونهج المخترة بإسكات كل صوت حر يرفض الذل والهوان والتحرش، وهذا الصوت هو أنثوي في عرفهم دائماً ويجب أن يبقى خاضعاً صامتاً مهما كانت التحديات!
القضية ليست ميرفت وحدها، بل مئات النساء اللواتي جثم الظلم على صدورهن
هذه القضية ربما تكون بطلتها ميرفت التي بشجاعتها لم تخف وكسرت الأغلال المجتمعية بكل جرأة وشجاعة وقررت أن تأخذ حقها بيدها واتبعت كل الإجراءات والطرق القانونية، ثم لجأت للإعلام حين شعرت بالظلم وبأنها بحاجة إلى ضغط شعبي لإسنادها، ولكن هذه قضية كل النساء اللواتي قتل بعضهن في ظلام الليل، ودفن مع خطوط الصباح الأولى دون أن يشعر بهن أحد، وبعضهن من جثم المجتمع بأغلاله وقيوده ليجعلن يصمتن إلى الأبد، وأخريات دفن القهر في صدورهن كي لا تنال منهن أيدي ذكور العائلة، وأخريات تعرضن لما تعرضت له ميرفت، وأكثر بشاعة لكنهن خشين من مجتمع وأسر لا ترحم، ورغم ذلك فإن هنالك من يقف ويساند إن خرجت قصصهن للنور. وكون ميرفت صحافية فقد ساندتها نقابة الصحافيين الفلسطينيين التي طالبت بدورها النيابة العامة بتسريع إجراءات التحقيق واتخاذ كل التدابير الفاعلة لتحقيق العدالة، ودعت إلى السرعة والجدية في مسار الإجراءات القضائية، وفي مسار عمل لجنة التحقيق المقترحة، خاصة وأن المعطيات والإفادة التي قدمتها الصحافية تشير إلى وقوع جريمة تحرش جنسي تستوجب إيقاع عقوبة رادعة، وإلى ضرورة اتخاذ تدابير وإجراءات إضافية خلال الفحوص والعمليات الطبية للنساء في المشافي والمراكز الطبية، فماذا لو لم تكن ميرفت صحافية، وإذا كانت صحافية وواجهت كل هذه الضغوط المجتمعية والمؤسساتية والعشائرية فكيف إذا كانت امرأة عادية؟ هل يمكن أن نتخيل ما الذي يحدث على مدار سنوات طويلة لمئات بل آلاف من النساء اللواتي بلا سند!!
لقد تداعت المؤسسات النسوية والحقوقية والمجتمعية لإنصاف الصحافية المشتكية فلا عدالة في مجتمع تهان فيه نساؤه...! هذه القضية أصبحت قضية رأي عام، ووجب أن تنال ميرفت حقها ووجب انصافها لأنه سيكون انصافاً لكل النساء المظلومات والمنكوبات واللواتي طمس حكايتهن الزمن، ووجب أن تنال العدالة مجراها لأن هنالك المئات من الفتيات اللواتي سيتشجعن لقول لا والوقوف في وجه المتحرشين، ووجب أن يخشى المتحرش من العقاب والمحاسبة هي جزء أصيل للتشجيع على ثقافة الإبلاغ عن جرائم التحرش والابتزاز الجنسي في أماكن تقديم الخدمات أو في الجهات الحكومية أو القطاع الخاص، وهي أول الخطوات لأجل حركة النضال المجتمعية لمحاربة الفساد المبني على النوع الاجتماعي.
تدابير وقائية باتت واجبة ومطلوبة في إطار تقديم الخدمات الصحية
هنالك ضرورة ملحة لتبني تدابير وإجراءات وقائية وسياسات لتحصين بيئة تقديم الخدمات العامة للنساء لمنع فرص حدوث أي شكل من أشكال الفساد المبني على النوع الاجتماعي، كالتحرش الجنسي والابتزاز الجنسي والرشوة الجنسية، وبات الوقت مهماً في اتخاذ وتبني آليات مراعية للنوع الاجتماعي، وخاصة بالتحرش الجنسي ومراعاة الحساسية الجندرية، وفهم مدى خصوصية مثل هذه القضايا، والتي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كل الظروف الموضوعية التي تواجهها المشتكية/الضحية من تهديدات ومخاطر على حياتها، وضغوط مجتمعية ومؤسساتية ونفوذ من المتحرش لإسكات صوتها. ووجب أن تكون هنالك لجان طوارئ تتميز بالشفافية والنزاهة تعقد بشكل عاجل وطارئ ولا تتوانى عن الدفاع عن الضحايا، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي للمشتكيات. هذا الأمر ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج لرغبة وإرادة حقيقية بمساندة الضحايا والابتعاد عن نهج لوم الضحايا وتعنيفهن بدلاً من اسنادهن وتشجيعهن على الشكوى، وكشف المتحرشين ومحاسبتهم كي لا يعيثوا فساداً في أجساد النساء اللواتي هي في أمسّ الحاجة للدعم والاسناد الحقيقي.
لقد طالب الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة -أمان- كون القضية قد حدثت في منشأة خاصة تقدم خدمات صحية- بضرورة أنْ تقوم دولة فلسطين بتنفيذ الالتزامات المترتبة على انضمامها للاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد؛ بمواءمة التشريعات المحلية مع أحكام الاتفاقية، وتجريم بعض أفعال الفساد في القطاع الخاص بما فيها أفعال الواسطة والمحسوبية، وعدم الإفصاح عن حالات تضارب المصالح والابتزاز والتحرش الجنسي في أماكن العمل.
كل التضامن مع الزميلة الصحافية ميرفت التي تعرضت للاعتداء الجنسي في إحدى المستشفيات واتبعت جميع الاجراءات القانونية لتقديم شكوى والإبلاغ عن المعتدي. وإذا كنا نشجع ثقافة الإبلاغ عن الفساد المبني على النوع الاجتماعي فهذه حالة صارخة لهذا الانتهاك ووجب على الجهات ذات العلاقة إنصاف المشتكية وتمتين التدابير الوقائية لمنع التحرش أو أي شكل من أشكال الفساد المبني على النوع الاجتماعي في المرافق الصحية ومختلف المرافق الأخرى التي تقدم الخدمات العامة للنساء.
استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].