الدولة انشغلت بإضعافنا ونحن انشغلنا عن مَواطن ضَعفنا
حتى في خضمّ أحداث هبّة الكرامة في أيار 2021 وبروز دور الحِراكات الشبابية والشعبية وخفوت دور الحركة السياسية المنظمة، أثير السؤال جماهيريا بشأن إمكانيات استمرار هذه الهبّة ومراكمة الانجازات. ومع مرور عامين من الزمن، من الجدير اليوم طرح السؤال أو التساؤل: هل بتنا، كمجتمع فلسطيني، أقوى أم أضعف؟ والغاية من التساؤل هي أن نتحدّى واقعنا ونبني مستقبلنا بشكل أفضل.
لن يكون من المنصف تجاه جماهير الشعب أن نقارن مستوى تنظيمها وبلورة أفاق عملها واستخلاصها للنتائج بمنظومة دولة حاكمة قائمة على الأمن وعلى ضبط هذا الجمهور والسيطرة عليه والعنصرية تجاهه. إلا ان المقارنة ممكنة إذا ما قمنا بمعاينة سلوك هذه الجماهير ذاتها في أحداث مؤسِّسة ومفصلية وما تلاها.
في اعقاب يوم الأرض 1976 قامت لجنة الدفاع عن الأراضي، الهيئة القيادية ليوم الارض ولجماهير الشعب، بتوثيق الحدث في كتاب بات مرجعية في قراءة المسيرة الكفاحية لهذه الجماهير، كما تلت ذلك جملة من التقييمات في الأطر المختلفة، بالإضافة إلى وجود حزب قائد في تلك المرحلة، ألا وهو الحزب الشيوعي والجبهة تالياً، ثم حدث انقلاب في طبيعة العمل البلدي من كيان تنظيمي خاضع لأحزاب السلطة وبالأخص حزب مباي/العمل إلى إطار وطني وبنية تأثير كبيرة. وكان في جوهر وبنية تأسيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية جعلها كياناً تمثيلياً قيادياً ومرجعية عليا. كما تميزت تلك الحقبة بالاجتهادات الفكرية والعمل الميداني في تنظيم المجتمع وبناء المؤسسات الأكثر تأثيرًا. إن إحياء ذكرى يوم الأرض سنوياً ودونما أي انقطاع وإدماج قصته في المناهج التعليمية والأدب والثقافة وتحوله إلى يوم فلسطيني شامل وإلى يوم للتضامن مع شعب فلسطين هي تأكيدات على عظمة الحدث وأثره وعلى صيانة جماهير الشعب وقياداتها له.
في هبة القدس والأقصى في العام 2000 والتي تزامنت مع انطلاقة الانتفاضة الثانية، انشغلت الجماهير العربية بمسألة الهوية الفلسطينية الجامعة وكان هنالك أثر لافت لخطاب تنظيمين سياسيين في حينه - التجمع الوطني الدمقراطي في فترة صعوده، والحركة الاسلامية بخطابها الوطني والديني، وحصرياً في مشروعها الكبير "مهرجان الأقصى في خطر". وبالإمكان اختصار ما ذكر بالخطابين، القومي والديني. كما تزامنت مع نشوء جيل جديد من المنظمات الأهلية والخطاب الحقوقي الجماعي وبناء المؤسسات، وما نتج عنه لاحقاً من مساعٍ لتشخيص الواقع ومستوى التحديات وأسئلة الهوية والمواطنة والبعد الفلسطيني والعربي والعالمي ولاستشراف المستقبل، وهو ما تم التعبير عنه ببلورة نصوص ما درج يطلق عليه "وثائق التصور المستقبلي"، والتي حتى وإن لم تؤد إلى مشاريع بروحها، فقد أثرت على مجمل الخطاب الوطني السياسي والمؤسساتي. كما تميزت تلك الفترة بقوة الأحزاب والحركات السياسية، على تعدديتها الواسعة، وكذلك قوة العمل الأهلي ودوره محلياً ودولياً. لقد كان لافتاً الوقوف القيادي والشعبي إلى جانب اهالي الشهداء وتنظيم أنفسهم في إطار لجنة معتمدة من قبل كل هيئات شعبنا وفي إطار لجنة المتابعة العليا، والتي لعبت دوراً أخلاقياً محرّكاً مقابل لجنة أور الرسمية التي أقيمت للتحقيق في الحدث، وعلى منصتها بات الخطابان الأخلاقي والحقوقي السياسي متصدّرين للمشهد. كما أن إحياء الذكرى السنوية للهبّة ليس أمراً مفروغاً منه وإنما هو تعبير عن إرادة شعب.
انفجرت أحداث هبّة الكرامة وقد عكست روح الهبّة وعياً شعبياً قائماً على الانتقال من وعي الانشغال بالهوية إلى وعي القضية الواحدة. جاء ذلك في مرحلة شهدت تراجعاً في العمل السياسي التنظيمي وتميزت بوجود تعددية سياسية ومجتمعية واسعة، لكن مع تآكل وزن الحزب والحركة السياسيين. شكّل ذلك ظاهرة عالمية اعتمدت النجومية الفردية مقابل الحزب والفكر والمرجعيات، بينما الأسباب الأكثر جوهرية عادت، بتقديري، إلى عدم قدرة الحركة السياسية بمجملها على الثبات على هدف سياسي جماعي محدد، وليس بالضرورة الاتفاق على الحلول السياسية والرؤى المحددة، وإنما على كيفية مواجهة التحديات السياسية والمجتمعية الكبيرة والخطيرة وكيفية تنظيم المجتمع وضبط العلاقة بينها كشرط لذلك. كما أن حالة التشتت بين الأحزاب وبداية انتكاسة الدور الواعد للقائمة المشتركة كنموذج أسهمت في تفاقم الحالة.
برز الدور القيادي الميداني للحراكات الشعبية، وحصرياً الشبابية في المدن الساحلية وأم الفحم وطمرة ثمّ في النقب، وامتاز بالقدرة على الحشد ووتيرة المظاهرات والصدامات وتجنّد أوساط جماهيرية حتى تلك التي قلّما تتفاعل مع أنماط أخرى من العمل السياسي، بينما استجابت لنداءات ذاتها المنبثقة من نداء الواجب والواقع لحماية البيت والحي والحضور العربي. وهذه مجتمعةً تشكّل نقاط قوة يجدر الاستفادة منها مستقبلاً. بطبيعتها، تشكل الحراكات هبّة شعبية ذات اندفاعة عظيمة القوة، إلا انها تفتقر إلى القدرة على الاستدامة. هكذا عالمياً وهكذا محلياً. ولذلك، ينبغي التعامل معها على أساس قوة دورها في صنع الحدث ولا يمكن مطالبتها باستدامته أو بمسار طويل الأمد، ألا أن أثر ما تقوم به في حدث مفصلي يبقى، وإن كان ثمة تقصير في قراءته والاستفادة منه في مراكمة الانجازات في مسيرة شعبنا فذلك يعود إلى ضعف دور الحركة السياسية المنظمة. ما يزيد من هذه الإشكالية هو أن الدولة قرأت هذه الاحداث من أبعاد مختلفة ومن خلال منظوماتها الأمنية الاستخباراتية ومنظومتها العسكرية وسعت إلى عسكرة سياساتها تجاه الفلسطينيين العرب في الداخل، كما أقامت عدداً من منظومات الهيمنة والضبط والقهر؛ هكذا شاهدنا قرارات الدولة بتأسيس الحرس القومي ضد العرب، وبإقرار دخول الجيش إلى البلدات العربية في حالات الطوارئ، وفي قوانين تتيح لأي ضابط شرطة اقتحام أي بيت عربي بناء على اعتباراته وتحت مسمى التفتيش عن سلاح ودونما مصادقة المحكمة مسبقاً، وقانون سحب الجنسية الذي يتحدث عن الأسرى لكن سيرورة القوانين تتيح توسيع إطارها لدرجة التطهير العرقي، في حين أن عدداً من الميليشيات المسلحة بالتعاون مع البلديات والشرطة أقامها حزب عوتسما يهوديت بقيادرة بن غفير وألموغ كوهين في المدن الساحلية والنقب تعمل على ترويع الوجود العربي الفلسطيني. كل هذا ناهيك عن وضع مجمل الشعب الفلسطيني الواقع تحت السيطرة الاسرائيلية الاحتلالية الاستعمارية تحت مسؤولية تيار الصهيونية الدينية برئاسة سموتريتش وبن غفير، وهو التيار الذي عزز انتصاره في الانتخابات الاخيرة كرد فعل اقتلاعي عنصري على هبّة الكرامة وكان شعاره "نحن أهل البيت".
مقابل كل التحديات الوجودية التي تراكمت في العامين الأخيرين، فإن الدولة قد طوّرت مفهوم الاستنزاف المستدام وذلك من خلال الجهاز القضائي والشاباك الذي يقف من خلفه. فمقابل آلاف المعتقلين في أيار 2021 وما تلاه، فإن حملة الاعتقالات لا تزال لغاية اليوم، بينما باتت لوائح الاتهام سلاحاً في يد الدولة تجعله المحكمة أكثر حدة بأحكامها غير المألوفة حتى في جهاز قمعي. لقد ساد شعور حقيقي لدى عائلات المعتقلين بأنها وحيدة في هذه المعركة القاسية وانتشر خطاب الإحباط بشكل واسع وانتظمت في إطار لجنة شعبية تكافلية من أفراد ومجموعات ناشطات وناشطين، لكنها لم تجد الحركة السياسية إلى جانبها وشعرت أحيانا كثيرة أنها في حالة ضياع. هذا هو شعورها على الأقل، حتى لو كانت خطوات فعلية من قيادات سياسية وجماهيرية. بينما الدولة تراقب هذا الوضع وتسعى إلى تغذية التنافر المجتمعي من خلال الإصرار على حرب الاستنزاف الشعبي والقائم حالياً على مسارين للسياسة ذاتها؛ استنزاف المعتقلين والعائلات باعتباره آلية ردع لغيرهم مستقبلاً، واستنزاف المجتمع من خلال منظومة الجريمة التي باتت أحد أمضى أدوات تفتيت وتشويه المجتمع ومؤسساته وأحزابه لتحلّ الجريمة المنظمة محلّها.
إن أولوية فلسطينيي 48، كما كل شعب فلسطين، هي في بناء البيت الداخلي والنقاش الجوهري الأكثر أهمية في مواجهة الفاشية الحاكمة والمخاطر الوجودية المحدقة هو تنظيم وتدعيم قوة هذا الجمهور أولاً ذاتياً وداخلياً، وعلى أساس إدراك شامل لمجمل خارطة التحديات. لا أدعو إلى الوحدة لأنه لا يمكن الوصول إلى وحدة كفاحية مدعِّمة من دون توافق على الأهداف وليس بالضرورة على الحلول. بالتحاور على قراءة المخاطر ومن أين نبدأ، قد تنجح الحركة السياسية في استدراك الامور، لكن لا يمكن ذلك من دون بداية جماعية لحوار وطني متواصل وجامع.
باتت إسرائيل المأزومة دولة أكثر عدوانية وعنصرية تجاه شعبنا وهذه ليست مسؤوليتنا ولا بسبب دورنا، وبتنا أضعف مما كنا عليه قبل عامين وأكثر، وهذه مسؤوليتنا الأولى.
لم يفت الأوان إذا توفرت الإرادة.
تصوير: كارلو رشرش.
*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.
أمير مخول
باحث في مركز تقدم للسياسات