من يوميّات محاميّة: التمثيل القانونيّ للأطفال الفلسطينيّين الأسرى في السجون الإسرائيلية

زيارات السجّون مقيتة ومنهكة. معظم منشآت السجون مقامة في مناطق بعيدة ونائية. تنسيق الزّيارة مرهق وملاءمة مواعيد المحامين مع مواعيد السجون تحتاج إلى مجهود خاص ومقدرة على تحمّل المماطلة في الرّدود. نصل إلى الزيارة في موعدها منهكين من كثر التفكير إن كانت ستمر بسرعة أم سيتم تعويقنا عند مدخل السجن بانتظار السجّان المرافق ولاحقًا التأخّر في إحضار الأسير إلى غرفة الزّيارات. قلّما نفكر بالأسير نفسه قبل دخولنا إليه ولا نهتم بتفاصيل شكله أو طوله أو صوته. ندخل إلى غرفة المحامين وننتظر متأهّبين لمرحلة التأفّف والتّذمر من كثر الإنتظار ونخشى أن تصل ساعة "العدّ" قبل أن يأتي الأسير، لأن معنى ذلك لزوم الانتظار لساعات إضافيّة. فعمليّة عد الأسرى تجمّد الحركة في السجون، بما ذلك منع خروج الأسير للقاء محاميته. وعندما نبدأ نسمع من بعيد صوت السلاسل التي توصل بين أقدام الأسرى، تنفرج أساريرنا. نضبط جلوسنا ونمسك بالقلم وبالأوراق استعدادًا للعمل. مع دخول الأسير أو الأسيرة إلى غرفة لقاء المحامين ينجلي الاضطراب وليد ظروف الزيارة وتأتي الرغبة القويّة في تقديم المساعدة وفقًا لما تقتضيه الحاجة القانونيّة لقضيّة الأسير أو الأسيرة.

إلّا أن لدخول أسير قاصر غرفة الزيّارات وقعاً خاصاً وأبعاداً أخرى من الصعب على المحامي تجاهلها أو إنكارها. كأم لأطفال ترى السلاسل في أرجل طفل لم يتعد عمره الرابعة عشر يدخل الغرفة أحيانّا مبتسمًا وأحيانّا مضطربًا من الصعب تحويل اللّقاء إلى لقاء مهنيّ-حقوقيّ بمعزل عن الشعور الغريزيّ لكل أم بسؤال طفل تراه في ضائقة "كيف حالك حبيبي"؟ "كل شي تمام"؟ "أهلك بزوروك" "ناقصك إشي؟". بعدها تبدأ مرحلة التمعّن ومحاولة تشبيه الأسير لطفل آخر قريب مني. أحيانًا أرى فيهم وجه ابني محمود المشرق مع الابتسامة الخجولة، وصوت آخرين يذكّرني بصوت خالد ابن أختي، والأسير الشقي ذو العينين الواسعتين يجعلني أتخيل آدم ابن أخي أمامي. تخيل أبنك وابن أخيك مكان الأسير الذي أمامك هو موجع أكثر لأنك تتماهين مع الوجع وتطبيقنه على أحبابك وأولادك. تعرفين تمامًا ما سيشعر أبنك محمود لو اعتقلوه ووضعوا السلاسل في رجليه وحققوا معه بصراخ. لذا فسترين دموع محمود ابنك في أعين الأسير الذي أمامك حين يدمع وستضحكين عاليًا معه حين يتهكم كما لو كان آدم ابن أخيك.  

بعدها تأتي اللّحظة التي تدركين فيها أن الشاب أو الولد الذي أمامك كان قاب قوسين او أدنى من الشهادة؛ ذلك لأن احتمال إطلاق النار على شاب يحمل الحجر بيده بات أكبر من احتمال اعتقاله، خاصة خلال المواجهات مع جيش الاحتلال. معظم الأطفال يعتقلون جرّاء مشاركاتهم في مواجهات مع جيش الاحتلال أو محاولاتهم استفزاز قواعد عسكرية ومركبات مستوطنين عن بعد دون إلحاق أي أذى غالبًا. ومن طالته الرصاصة استشهد ومن لم تطله إما تم القبض عليه خلال المواجهات بعد إصابته وإما أنه اعتقل لاحقًا نتيجة اعترافات أطفال آخرين خضعوا لتحقيقات قاسية هدفها استغلال نقاط ضعفهم لتزويد المحقّقين بأسماء أطفال آخرين. ومع كل نعي ف الإعلام الفلسطينيّ لاستشهاد قاصر أو طفل فلسطيني تبحثين أولًا عن اسم الطفل لمعرفة إذا ما كان موكلًا سابقًا لك أم شاباً طالته الرصاصة قبل أن يكون مرشّحًا للانضمام لقائمة موكّليك.  

واللّحظات الأصعب في تمثيل الأطفال داخل السجون هي تلك التي تضطّرين فيها إلى عرض احتمالات النجاح والفشل وعادة ما يكون احتمال الفشل هو الأكبر. جمل قصيرة لا حياة فيها تجهض بدقائق كل الأمل والخيال الواسع الذي يولد مع الأطفال بتحقيق كل أحلامهم. ومع الأسر تصبح الحرية والعودة إلى ساحة اللعب هي حلمهم الأكبر.  كيف لي، على سبيل المثال أن أفسّر لطفل أسير وجد نفسه بعد رجوعه من مقاعد الدراسة إلى البيت وسط مواجهات مع جيش الاحتلال، يحمل حجرًا أسوة بباقي الأولاد، أنه يشكّل خطرًا على أمن دولة بأكملها، بسبب ذلك الحجر الذي رماه عن بعد عشرات الأمتار ولم يؤذ أحدًا؟ وكيف لي أن أفسر له أن الصفقة التي أبرمها مع النيّابة العسكريّة في القضية معناها الاعتراف بالتهم في الوقت الذي يردد أمامي جملة "آه بس أنا ما اعترفت. أقسم بالله ما اعترفت".

بلغ عدد الشباب الفلسطينيين الأسرى دون سن الثّامنة عشرة، حتى شهر آذار 2023، نحو 141 أسيرًا مصنفًا كأمنيّ داخل السّجون الإسرائيليّة من بينهم 10 أطفال معتقلين إداريّين ونحو 43 سجينًا قاصرًا صنّفوا مدنيّين[1]. ويقبع الأسرى الأشبال في سجون عوفر[2] (المحاذي لمدينة رام الله) ومجيدو القريب من منطقة المثلث الشمالي وسجن الدّامون الانتدابي المقام على أحراش الكرمل شمال فلسطين، فيما يقبع الأسرى القصّر المدنيون في سجن أوفيك في وسط البلاد. لا تختلف ظروف احتجاز الأسرى الأشبال عن باقي الأسرى البالغين المصنفيّن كأمنيين إلّا بأمور صغيرة، مثل السماح للبعض منهم بمهاتفة الأهل مرّة أو مرّتين في الأسبوع ودمجهم في برنامج تعليمي تدرّس فيه المواضيع الأسياسيّة بمستوى أوليّ دون الملاءمة أو وجود تناسب بين جيل الأسير والمواضيع التي تدّرس. ويُحرم الأسرى الشباب، أمثال البالغين، من معانقة ذوويهم وأخوتهم خلال الزيارات العائليّة ولا يوجد أي برنامج تأهيلي خاص بهم بذريعة تصنيفهم الأمنيّ والفرضية جدلًا بأنه لا حاجة لهم بأي رعاية خاصة أو حتى على الأقل تشخيص ضائقتهم ومدى مقدرتهم عى تحمّل ظروف السجن والتأقلم معه. وفيما تسمح مصلحة السجون بوجود أسير بالغ فلسطيني بينهم لإعانتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسيّة أمام مصلحة السجون، فلا توجد أي منظومة رقابة حول أداء هذا الأسير البالغ ومدى ارتياح الأطفال لوجوده معهم خاصة أن المعايير الدولية تحظر وجود الأطفال مع أي بالغ في السجون.

ومع إعلان وزير الأمن الإسرائيليّ، بيني جانتس، في شهر تشرين الأول عام 2021 عن أبرز مؤسسة لحماية حقوق الطفل في فلسطين (DCI) كمنظمة إرهابيّة فقد الأطفال الفلسطينيّون أحد أهم وأبرز الأطر التي برز عملها في تدويل قضاياهم وتوفير المرافقة القانونيّة والاجتماعيّة وتوثيق الانتهاكات التي يتعرضّون لها، سواء في السجون أم خارجها.

أرافق الأطفال في التمثيل القانوني منذ سنوات عديدة في مراحل ما بعد حكمهم ساعيّة إلى إيجاد مخارج قانونيّة لإطلاق سراحهم المبكّر قبيل مضي كامل المدة التي فرضتها المحاكم عليهم. ولعلّ أكثر شيء لافت في لقاءاتي معهم هو كتمانهم التام لما تعرضوا له من انتهاكات فظيعة خلال التحقيقات والتركيز بالمقابل على أمنياتهم في التحرر سريعًا للعودة إما لمقاعد الدراسة أو التقدم لامتحانات التوجيهي أو لقاء الأهل والأصدقاء. فعلى خلاف الأسرى البالغين الذين غالبًا ما يبدؤون الحديث عن كيفيّة الاعتقال والأضرار التي لحقت بهم، وهو أمر في غاية الأهميّة بالطبع، يكتفي الطفل الفلسطيني بذكر جملة "حقّقوا معي عسكري" ليكمل حديثه حول خططه المستقبليّة بعد نيل الحريّة. وكأن اعتقاله من سريره في ساعات متأخرة من الليل والذعر الذي أحدثه الجنود باقتحام بيته ليلًا وتعصيب عينيه واقتياده إلى مركز التحقيق مكبلّا وممارسة طرق تحقيق لا تتماشى مع حقوقه كطفل معتقل هي أمور عابرة حدثت في الماضي ولا أهميّة لذكرها. فالمهم الآن هو التخطيط لتحقيق حلم العودة إلى مقاعد الدراسة أو حضن العائلة قبل الموعد إلى أن تأتي لحظة نهاية جلسة المحكمة وسماع جملة "الطلب مرفوض"[3]. بعدها تصبح الجلسة وقائع من الماضي لا حاجة لذكرها ليبدأ بحياكة حلم صغير جديد "استاذة، اتصلي عأمي وقوليلها المعنويات عالية وخلّيها تجيب معها أخي الصغير عالزيارة".


[1] المعطيات نشرت على موقع منظمة بتسيلم www.btselem.org  خلال شهر حزيران 2023 وتعرض المعطيّات المحدّثة حتى أواخر شهر آذار 2023.

[2] سجن عوفر هو السجن الوحيد الموجود على أراض محتلة (1967) فيما تقع جميع السجون الإسرائيليّة الأخرى داخل الخط الأخضر بما يتعارض كليًا مع وثيقة جنيف الرابعة التي تلزم أسر المدنيين في المناطق المحتلة والمسيطر عليها من قبل الدولة المحتلة.

[3] يذكر أنه في حالات معينة تم النّجاح بإطلاق سراح أسرى فلسطينيين أطفال قبيل إتمام مدة محكوميتهم ولكن الغالبيّة العظمى لطلبات الإفراج المبكّر ترفض بحجة خطر الأسير على أمن الدولة. لا توجد أي معطيات رسميّة حول الموضوع والأمر يستند على تجربة كاتبة السطور في المرافعات في المحاكم وتجربتها وزملائها بالحقل.

لاحظة: الصورة الموفقة من موقع https://www.dci-palestine.org.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م