كُفّوا قَنابِلَكُم عَن أَطفال غَزّة

يَحتَرق الأَطفال في الحَرب.. كالفَراشات الملوَّنة تصبح ألوانهم رماديّة، أجنحتهم محتَرِقة، في الحرب لا يتنفّس أطفال غزة إنهم يَركضون إمّا نجاةً أو صُعودًا إلى السَماء.. في الحَرب تَنكَمش الطُفولة لتَغدو لهيبًا صارخًا في وجه أعداء الإنسانية، في الحرب لا يقف الأطفال على أَرجلهم لأنهم فَقَدوها، إنّما يقفون متَّكئين على قلوب أمهاتهم اللواتي فَقَدْنَهم!في الحرب تَنال القذائف من أَطرافهم فيَزحَفون بدلًا مِن تعلّم المَشي، لا مَراكِب للنّجاة في غزة بعد أَحرَقوا المدينة بسكّانها، ولا يَزالون يَضربون بالقنابل والصواريخ اللّحم الحيّ، تَصِل رائحتُهُ لملائكة السّماء فتَبْكينا. في الحرب يتلعثَم الأطفال ويَكبُرون أعوامًا وهم يُحدّقون في طُفولة بائسة لم يعرفوا فيها معنى الطفولة أو الحرية!

تَنال الحرب مِن أطفال غَزة قتلًا وجوعًا وحصارًا وعطشًا ورعبًا، تعطيهم الحياةُ أبشَعَ ما فيها؛ الموت وطرقه المتنوّعة، وتَتَركهم عطشى لحياة لَم يَعرِفوها، إنهم أطفال غزة الذين ذاقوا كلّ أَلوان العَذاب في حياة محاصَرة، وسَجن كبير، يهربون لأحلام لَم تتحقّق، يُحَلّقون بين خيام مُهترِئة هربًا من زخّات الرصاص، ومن هجمات الـ "كوادكابتر" اللعينة، فلَم يعودوا يَعرِفون طعمًا للنوم ولا للرّاحة.. إنهم فقط يُحاوِلون النَجاة بأَجنِحَة ممزَّقة!

الأطفال هَدَف في حَرب الإبادة الجَماعيّة هذه، فمنذ السابع من أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا قُتِل آلافُ الأطفال، هُم ليسوا أرقامًا وليسوا صُورًا عابِرة، إنهم أرواح بريئة، إنهم يحلّقون بأَجنحة مُسرِعين بِذُعر إلى السماء، فما بين جُثث محترقة وأخرى متفحّمة إلى جثث صغيرة مقطّعة الأَوصال، أكثر من سبعة عشر ألفًا وثمانمئة وواحد وستين طفلًا فلسطينيًّا قُتِلوا، الحرب المستعِرة بالكاد توقّفَت عدّة أسابيع، ولم يتوقّف الموت خلالها، بل استهدف الأَطفال والنساء فيها أيضًا.

لقد قَتَلت طائِرات الـ "كوادكابتر" السيِّدة إسلام شيخ العيد وهي حامل في شَهرِها الثامن في رفح في آذار/ مارس 2025، وفي الشهر نفسه قَتَلوا سيّدة حاملًا أخرى وهي نجيّة أبو مرشد من النصيرات، بينما كان وقف إطلاق النار لا يزال ساريًا، قَتَلوها وهي بجوار خيمتها هيَ وجَنينُها، إنّهم حاقدون على الحَوامل والنّساء يَئِدون الأَجِنّة في بُطون أمّهاتهم، إنها حرب على الإنجاب، وحرب على الأطفال، وحرب على الأمّهات، وحرب على العائلة الفلسطينية!

إنّ مِن بين الأطفال الذين قُتِلوا في حَرب الإبادَة الجماعيّة نحو 214 رضيعًا وُلدوا واستشهدوا خلالها، بينما قُتِل نحو 808 أطفال وَهُم بِعُمر أقلّ من عام، كما قُتِلت عشرات الحوامل هُن وأجنتهنّ دون وجود إحصائية توثِّق أَعدادهن.

وَمَع الهَجمة المَسعورة، وعَودة الاحتلال الإسرائيلي لِخَرق وقف إطلاق النار، فقد اخترقت مئة طائرة حربيّة مُحمّلة بالصواريخ المتفجّرة سماء غزة لتُلقيها في وقت واحد على شمال قطاع غزة وجنوبه ووسطه، بينما العائلات تتجهّز للسحور، ليَقتُل الاحتلال في عدّة ساعات مئتي طفل وأكثر من مئة امرأة، أُمًّا وابنة وزوجة، ولم ترحم طائرات الغدر كبار السنّ؛ عائلاتٌ بأكملها أُبيدت ليَعود عَدّاد المَوت والقتل والخَراب إلى الارتفاع.

إحدى الأمهات التي أَنجَبت طفلها بعد ست سنوات بالتخصيب ودَّعته مع طيران الغَدْر غير مُصدّقة أنه رَحل، لتَهذي في يَقَظتها: "أرجوكم أيقظوني إن كنت في كابوس"! "أرجوكم دَعوني أُدفئه في حضني فالبَرد شَديد!"

تَحتضِن غزة الآن ثمانية وثلاثين ألف يتيم بِلا أَب أو بِلا أم أو بِلا كليهما، فكيف يمكن أن يَعيش كلّ هؤلاء الأطفال الأبرياء في ظلّ حَرب لا تزال مُستعِرة، يعانون ويلات النزوح وحيدين، لا يَجِدون حُضنًا دافئًا، ولا بيتًا يأويهم، وبَعضهم بلا خيمة، يفترشون الشوارع، وتَنسحِق طفولَتهم البريئة تحت المطر والرياح التي تَعصِف بِقُلوبهم المَكَلومة؟ كيف يَعيش الأطفال وحيدين لا سَقف يَحميهم، ولا غِطاء يُدثّرهم، بينما بُطونهم الجائعة تَلْعن كل المتواطئين المتخاذلين الذين تفرّقوا في كلّ شيء إلا أنهم اتّحدوا على قتلهم! 

الإعاقة غُول يَأَكل أَطفال غزة

لَم يَشبع غُول الحرب مِن لحم أطفالنا، إنه ينهشهم أمواتًا وأحياء؛ أَطفال لَم تَجِد عائلاتهم جثثهم حتّى الآن، وجثث أُخرى تحلَّلت لم يتمكّنوا من دفنها وإكرامها، وأخرى هي قِطَع وأشلاء لَمْلَمها الأَهل في كيس نايلون أو قِطعة قِماش، بَعضها مُخَتِلط بِلَحم جثث أخرى. هذا عَزاء يُريده مَن ظلّوا على قَيد الحَياة أن يدفنوا أمواتهم، أن يَجِدوا مكانًا لأَجل بقايا عِظام فَلِذات أَكبادهم!

غُول الحرب لَيس الغُول الوَحيد الذي يَأكل أطفالنا في غَزة، فها هو غُول الإعاقة يَكبُر ويَأَكل أَطراف أطفالنا ويبقيهم أحياء بلا أَحلام، بلا لُعبة كُرة القدم، ولا ركض في الحارات، يَبتَلع أحلامهم الصّغيرة بطائرة ورقيّة يحملونها سرًّا ويتقافزون فوق أسطح البيوت التي لم تَعد بيوتًا، إنه غول يبتلِع الأطفال في حَلَقة مُظلمة مخيفة ويَقِضم أطرافهم لتذوي أحلام الطفولة رويدًا رويدًا!

لقد تسببت الإِبَادة الجَماعية واستخدام أسلحة دوليّة فتّاكة بمزيد من القتل والاستهداف لأطفال غزة، وأعداد مخيفة من الإصابات، كما تسببت بوجود نحو 4 آلاف و500 حَالة بَتر بينهم، ما نسبته 18% من فئة الأطفال. 

ووثّقت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بيانات صادرة عن منظمة "أنقذوا الأطفال"، تؤكّد إصابة ما معدله 475 طفلاً كلّ شهر أو 15 طفلاً يومياً بإعاقات قد تستمر مدى الحياة خلال حرب الإبادة المستمرة، وأوضحت منظمة "أنقذوا الأطفال" أن إصابات الأطفال بالإعاقة الدائمة تَمثّلت بالأطراف المُصابة بجروح خطيرة، وضَعف السمع، بسبب استخدام الأسلحة المتفجرة في قطاع غزة خلال عام 2024.[1]

وقد أشار قِطاع تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة بغزة إلى الارتفاع الكبير في عدد الإعاقات التي سببتها الحرب، بما يقارب عشرة آلاف حالة نِصفها من الأطفال، في وقت يمنع فيه الاحتلال دُخول الأَدوات المُساعِدة والمُستلزمات الطبية، ويَمنع سفرهم للعلاج في الخارج في ظلّ تدمير البنية التحتية الصحية وتدمير معظم المرافق الصحية والمستشفيات ومراكز التأهيل، ما مِن شَأنه أن يُعرّض حياتهم للخطر.

لكنّ مَنْ لِأَطفال غزة الذين أصبَحوا في عِداد ذوي الإعاقة؟ مَنْ لَهُم ولاحتياجاتهم؟ من ومتى وكيف يُمكن أن نوفر لكافة أنواع الإعاقات -وخاصة الحَرَكيّة منها- الاحتياجات الواجَبَة والّلازمة لتُعينَهم على حياة النّزوح والتّشَتُّت وانعدام الأَمن والاستقرار؟ في غزة انهارت المَنظومَة الصحيّة ودُمّرت المؤسسات التي تُعنى بذوي الإعاقة فيما يُعاني عدد كبير من ذوي الإعاقة عجزًا حقيقيًّا، بينما لا تتوفّر الكراسي المتحرّكة، والعكاكيز، والسمّاعات الطبيّة، والعِصِيّ البيضاء الخاصة بالإعاقة البصرية، والفَرشات الطبية، وغيرها، فلا يزال الاحتلال الإسرائيلي يَحرم أطفال غزة وكِبارها من المساعدات الإنسانية الأساسية من غذاء وماء ودواء، وإلى جانب الأطفال فهنالك 2000 حالة إعاقة جديدة بسبب الإبادة الجماعيّة للنّساء من أُمهات وطِفلات ولا يزلن في أمَسّ الحاجة لمواصلة العلاج في غزة وخارجها، بعد أن انقلبت حياتهن رأسًا على عقب، وصرن يواجهن مصيرًا مخيفًا وحيدات وتَحتَ إبادة تلاحق بقاياهن النّاجية!

بَلَغ عدد جرحى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة  11128 [أثناء إعداد هذا التقرير]، من بينهم 3374 طفلًا، نصف هؤلاء الأطفال (ممن تقل أعمارهم عن 18 سنة) أصبحوا يعانون إعاقات مختلفة، منهم من بُترت أطرافهم ومنهم من تَعرّض لإعاقة بصرية أو سمعية أو جسدية مختلفة وحتى نفسية.[2]

وبات أكثر من 1500 طفل في عِداد الإعاقة الدائمة، من بينهم ما لا يقل عن 70 طفلًا ما زالوا يتلقّون العلاج في مستشفيات القطاع بُتِرَت أطرافهم السُفلية أو العلوية، ومنهم من بُتِر جزء من أطرافه تلك، ومنهم مَن بُترت بشكل كامل، كما أن هنالك حالات نُقلت للعلاج في مستشفيات خارج القطاع لخطورتها.

أكّد المدير الطبي لمستشفى الشفاء، الدكتور صبحي سكيك أنّ الأَمر لا يقتصر على هذه الحرب، فقد تعرّضت غزة في السنوات الستّ الماضية إلى ثلاثة حروب أدّت إلى وقوع الآلاف من القتلى والجرحى، من بينهم ما لا يقل عن 600 شخص أصبحوا في عداد ذوي الاحتياجات الخاصة بعد أن تعرّضوا لبتر أجزاء من أَطرافهم، إن هؤلاء المصابين بحاجة لرعاية خاصة في المستشفيات والمنازل، وبعضهم بحاجة لعمليات جراحية أخرى وإعادة تأهيل من خلال تمارين لتقوية عَضَلاتهم بهدف تركيب أطراف صناعيّة لهم.

 إن إمكانية تركيب طرف صناعي في غزة لأيّ شخص مصاب ببتر فوق مفصل اليد أو القدم أمرٌ مستحيل، لأنه سيكون بحاجة لمستشفيات متطوّرة خارج القطاع. لقد كان في غزة قبل السابع من أكتوبر، مستشفى وحيد قادر على تركيب أطراف صناعية وإعادة تأهيل المصابين هو مستشفى الوفاء، لكنّه دُمّر بشكل كامل.[3]

مِليون طِفل بِحاجة لِدَعم نَفسي

لا تَترك هذه الإبادة المُتواصِلة والمُتجدّدة للعام التالي على التوالي بيتًا أو طفلًا أو امرأة أو شابًا دون أن تنال مِن قدرته وصلابته النفسيّة، فاستمرار التّجويع والتّعطيش والحرمان من الدواء والعلاج واستمرار القتل والمَشاهد المرعبة من مجازر يرونها بأم أعينهم، ويَنجون منها مرّات ومرّات، ويستمرّون في النزوح تحت الضغط الشديد والخوف والرعب، إنما هي ظروف قاسية ومعقّدة تَزيد مِن شدّة الألم والفقدان والشّعور بالوحدة والقهر، وهذا من شأنه أن يعبث بالسلامة النفسيّة والصحية للكبار، فما بالنا بالصغار، ومن أصبحوا -بفعل الفقدان- وحيدين بلا عائلة!

إن مليون طفل في قطاع غزة يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي بسبب الاكتئاب والقلق وتعرُّض جيل كامل لصدمة نفسية، وفقًا لصندوق الأمم المتحدة للطفولة، فعلى مدى 15 شهرًا في غزة، قُتل الأطفال، وتُركوا للجوع، وماتوا من البَرْد، فَقَدوا مدارِسَهم وتَعليمهم، وطفولتهم، مشرَّدين بلا بيت ولا أَمن ولا أَمان، يَعملون كما الكِبار على تأمين الضرورات والاحتياجات الأساسيّة لعائلاتهم. لقد كَبُر أطفالنا أَلف عام عن أَعمارهم!


[1] تقرير الوكالة الأممية يغطي الفترة الواقعة بين 1-8 كانون الثاني/ يناير 2025، يرصد أوضاع سكان قطاع غزة وسط المعاناة الإنسانية الغارقين فيها في ظل درجات حرارة الطقس المنخفضة وشح المساعدات ونقص الإمدادات الشتوية.

[2] المدير الطبي لمستشفى الشفاء، الدكتور صبحي سكيك

[3] https://aawsat.com/home/article/172146

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا