عيدٌ هارِب مِن مدينة مَبتورَة الأَطراف!

يتحرّى أطفال غزة النّجاة من قلب المذبَحة، بينما العيد يأتيهم ضاحكًا مهللًا، لا يرون ابتساماته ولا يعرفونه للمرّة الثالثة، فهم لا يزالون ينتشلون بقايا حياة هاربة!

لم يَعُد الأطفال في غزة يبحثون عن ملابس أو لعبة أو أرجوحة، إنما باتوا يحفرون بأيديهم الصغيرة بقايا بيتهم علّهم يُمسكون يدًا كانت تهديهم عيديّة فغدت عيديَّتهم أن يعثروا على عظام آبائهم وأمهاتهم وعائلاتهم!

أن يَعثروا على خيمة تَستر أجسادهم الهَزيلة، فلا ملابس جديدة ولا رائحة عِطر وضحكات فُقِدَت في المَقتلة!

فَيا عيد تلطّف بأفئدتهم، فلا بيت ولا أهل ولا قطرة ماء ولا كَسرة خبز ولا أرجوحة ولا سَكاكر ولا ذكريات طفولة ظلّت لتُشفي غليل القلب!

غزة وأطفالها وفتياتها ونساؤها وشبابها بلا عيد، ولا أحلام، وقد فَقدوا أغلى ما يملكون؛ أحبابهم وعائلاتهم وبيوتهم وشوارعهم ومدنهم، لقد فقدوا الأمن والاستقرار، لم يعودوا يعرفون ليلًا من نهار، فأصوات القصف والانفجارات تهز أبدانهم، بينما الخِيام لم تَعُد تستر قلّة حيلتهم وبؤسهم!

كان العيد يأتي متأنقًا فيما مضى!

 يركض الصّغار صباحًا بملابسهم الزّاهية يتمايَلون بالضحكات والتهليل والتّكبير فَرِحين بلقاء أصحابهم وجيرانهم وعائلتهم الكبيرة، يتزاورون ويهرعون للأرجوحة والمنتزهات والبَحرُ شاهدٌ على تلك الضحكات. أفواجٌ من العائلات تملأ الشاليهات والحدائق، تعتمر الأسواق بروّادها، فما بين هدايا وعطر وسكاكر وشيكولاتة، إلى ذلك الكعك الذي تجيد صناعته نساء غزة، ليغدو الأجمل على سُفرة متواضعة لكّنها محببة للجميع، يحملونه في زياراتهم مع الفستق ليكون ضيافة العيد في اليوم الأول، تضجّ المراكب بالزائرين وتبدو مُدن غزة بشمالها وجنوبها مزارًا!

اليوم لا عيد يأتي في شوارع مدمَّرة وحيطان مبتورة وبيوت مبقورة بينما لا يزال أصحابها مدفونين تحت أنقاضها، فلا إسناد بالمعدّات الثقيلة لإزالة الردم وإنقاذ العظام وإكرامها، فقد كانت تحمل أحلامًا وآمالًا وأمنيات، وكانت فيما مضى فؤادَ من تبقّى ونجا بجسده أو بَعضِه، باتت المدينة قبرًا مفتوحًا يبتلِع الأطفال والنساء والشباب والعجائز، إنها مقبرة الأموات والأحياء، فالنّاجون إنما يعيشون عذاب الأرض بكلّ جوارحهم يبكون دون دموع، فقط يركضون من قتل إلى قتل آخر كأنما هو قتل بلا نهاية، ومن كنت تحادثه وتضمه بين أحضانك في غمضة عين يصبح رقمًا جديدًا يضاف لخمسين ألف شهيد منذ بداية المَقتلة!

لا أطفال في غزة ليحتفلوا بالعيد فقد أصبحوا كبارًا مِن هولِ ما عايَشوه، فَقَدوا معالم الفرح وباتوا بوجوه بائسة أيتامًا ومشرّدين في شوارع مدينة كانت تحتضنهم فيما مضى، وأصبحوا شهودًا على ذبحها. كيف يأتي العيد على مدينة تُذبح مع إشراقة الصباح وذبول الشمس كلّ ليلة، يهرب العيد من الطرقات فزعًا لحال المدينة وأطفالها، مدينة الأيتام التي يأتيها العيد لا تبتهِج فالمدينة محاصَرة، ولا تدخلها قطرة الماء ولا حبة الدواء ولا كَسرة الخبز.

يَذبُل الأطفال النّاجون كلّ يوم، تَذبل الأمهّات اللواتي كنّ وَردات الدار، تَذبل الأحلام في غزة ويَذبل العيد، يقف على أعتاب مدينة كانت تضج بالحياة!

لا عيد في غزة ولا أطفال تبقّوا بعد أن سمع الجميع صرخاتهم ورآهم يحلقون إلى السماء هاربين مهرولين من ظلم الاحتلال وجبروته، لا عيد في غزة اليوم وغدًا فلن تكفي أعمارنا لنتلو أسماء من غادرونا ودماؤهم لا تزال طازجة تزكم أنف الحياة اللامبالية بقلوب من نجوا من المَقتلة!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

عرين
تصوير للمشهد القاتم أسكت الكلام فألهب الغضب من قلة الحيلة ومرارة الحقيقة. هم أطفال كباقي أطفال العالم ولكنهم يعيشون تجارب قاسية أشاخت طفولتهم. يا رب ارفع عنهم الظلم وامنحهم الحياة التي يستخقون.
الثلاثاء 1 نيسان 2025
رأيك يهمنا