أَطفالُ فِلسطين والذّكاء الاصطِناعي: بَينَ واقعٍ صَعب ومُستقبَل لا يَنتَظِر أَحَدًا

في كلّ بيت فلسطيني حكاية، وفي كلّ حكايةٍ طفلٌ يُحاول أن يفهم العالم من حوله. أطفالنا اليوم وُلدوا في عالمٍ يعصف بالتحدّيات؛ حروبٌ وأزمات متتالية وظروف اجتماعية معقدة، لكن هناك تحديًا آخر، قد يكون الأكبر في تاريخ البشرية، بدأ يدقُّ أبوابهم دون أن يَشعر به كثيرون: ثورة الذكاء الاصطناعي التي ستغيّر شَكْل حياتنا جذريًا وإلى الأبد.
في تجربتي الشخصية كأَب ومختصّ في مجالات الذكاء الاصطناعي والتّعليم، تعلّمت درسًا بالغ الأهمية: أطفال فلسطين تحديدًا، الذين اعتادوا الصُمود في وَجه الصُعوبات، هم الأكثر قدرةً على استيعاب التغيّرات الجذريّة القادمة، لأنهم يمتلكون مرونة عقلية مذهلة، مرونة اكتسبوها من واقعٍ فَرض عليهم النُضوج مبكرًا. لكن السؤال المؤلم فعلًا: هل نُهيئ لهم مستقبلًا يليق بهذه القُدرة؟
يواجه أطفالنا اليوم واقعًا مختلفًا تمامًا عمّا عرفناه نحن في طفولتنا؛ فبدلًا من اللعب في الحارات والأزقة، باتت هواتفهم وأجهزتهم اللّوحية هي مَلعبهم اليومي، وأصدقاؤهم ليسوا أبناء الجيران فقط، بل أيضًا شخصيات افتراضية، وخوارزميات ذكيّة تراقب كلّ حركة يقومون بها، ترسم لهم شكلًا آخر من الطفولة.
يَفرض علينا هذا الواقع مواجهة حقيقة أن أطفالنا لم يعودوا مجرّد مستهلكين للتكنولوجيا، بل جزءًا من عالم تفاعليّ واسع، عالمٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعي عنصرًا أساسيًا لا يمكن تجاهله. لكن، هنا بالذات تبرز مشكِلة حقيقية في فلسطين: ما زلنا غير جاهزين لتوجيه هذا الجيل بشكل صحيح. فالأطفال يملكون مفاتيح المستقبل، لكنّنا للأسف لم نبدأ بعد بتعليمهم كيف يفتحون أبوابه.
خلال السنوات القليلة القادمة، ستحدُث قَفَزات هائلة في عالم الذكاء الاصطناعي، مع اقترابنا من تحقيق "الذكاء العام الاصطناعي" (AGI)، وهي مرحلة تصبح فيها الآلات قادرة على التفكير والتفاعل تمامًا مثل البشر. ليس هذا التطور مجرّد تفصيلٍ صغير في الحياة، بل ثورة ستغيّر مفهومنا الكامل للتعليم والعمل وحتى العلاقات الإنسانية.
تخيّلوا معي للحظة: ماذا لو أصبح طفلك قادرًا على إنشاء فيلمٍ خاص به عن فلسطين باستخدام تطبيقات ذكاء اصطناعي سهلة وممتعة؟ ماذا لو أنتج بنفسه بودكاست أو محتوى مرئي يعبّر عن مشاعره وهويته بطريقة تصل إلى كلّ العالم؟ ليست هذه الفرص مستحيلة، بل هي في متناول أطفالنا اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لكنّها تتطلب منّا وعيًا وإرادةً جماعيةً لتمكينهم من ذلك.
ولأن الذكاء الاصطناعي لن يغيّر التعليم فقط، بل سيغيّر طبيعة الحياة الاجتماعية والنفسيّة لأطفالنا، علينا أن نكون مستعدّين للآثار الجانبية لهذا التغيير. أطفالنا معرضون اليوم لمحتوى هائل قد يشوّه مفهومهم عن أنفسهم، عن أجسادهم، وعن هويتهم. الخوارزميات الذكية، إن لم نتحكّم فيها، قد تصبح هي التي تربّي أطفالنا بدلًا منّا، وتؤثر على طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الآخرين ومع أنفسهم.
لهذا، فإن مسؤوليتنا اليوم ليست مجرّد توفير الهواتف الذكية أو الإنترنت، بل تعليم أطفالنا كيف يكونون واعين أمام هذه الخوارزميات الذكيّة. علينا أن نخلق جيلًا من الأطفال الفلسطينيين الذين يعرفون كيف يتفاعلون مع الذكاء الاصطناعي ويستخدمونه كأَداة إبداعية، وليس كوسيلةٍ تفقدهم هويتهم وأصالتهم.
الأهالي والمعلمون هم المفتاح الحقيقي لنجاح هذا التحول. يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا: دور المُعلم التقليدي سينتهي قريبًا، ودور الأب والأم الذين يتركون أطفالهم أمام الشاشات دون توجيه سينتهي كذلك. علينا جميعًا أن نتحوّل إلى مرشدين حقيقيين، نعلّم أطفالنا كيفية التعامل مع هذه التكنولوجيا الجديدة بشكل واعٍ ومسؤول.
لكن قبل ذلك، يجب أن نُصارح أنفسنا بالحقيقة الكبرى: أطفالنا اليوم في فلسطين لم يعودوا مجرد "ضحايا" لواقعهم الصعب، بل أصبحوا قادرين، بقليلٍ من الدعم والتوجيه الصحيح، على أن يتحوّلوا إلى صنّاعٍ حقيقيين للمستقبل.
تخيّلوا معي طفلًا من القدس أو من غزة أو من رام الله، يقف غدًا أمام العالم ليتحدث بلغته وأسلوبه وقصّته التي صنعها بيده وبعقله وبأدوات الذكاء الاصطناعي، ليقول للعالم أجمع: "أنا هنا، وهذه قصتي."
المستقبَل لن ينتظرنا. هذا الجيل الذي ينمو بين الألم والأمل هو فُرصتنا الحقيقية لتغيير واقعنا، ليس فقط في فلسطين، بل في العالم كلّه. ذكاء أطفالنا ومرونتهم وقدرتهم الفِطريّة على التحدي هي أثمن ما لدينا اليوم. فلنبدأ الآن، قبل فوات الأوان.

تامر منصور
مختص في الذكاء الاصطناعي والإنتاج الرَقمي، أسعى لفهم كيف يمكن للتكنولوجيا أن تغيّر حياتنا، وأبحث عن إجابات لمستقبل لم يأتِ بعد، محاولًا مساعدة الأطفال والمجتمعات على استكشافه بذكاء ليكونوا صُنّاعًا له، لا مجرّد مستهلكين.