كامرأة عانقت الحرب.. وحيدة!
طعنتنا الحرب في أرواحنا، لا شفاء من ويلات الحرب.. لا مفر من موت أفئدتنا ودمنا المسفوك في الطرقات بين جنبات البيوت.. تلتحم شرايين القلب لتضم أصبعا مبتورا، وجها مبعثرا في صباح لم يغفو أبدا في حصن ليل مشتعل بالفسفور...!
طعنتنا الحرب ألف طعنة وطعنة لا زالت تراكم الطعنات مع كل حرف نخطه، ونحن في طريقنا البطيء نحو الموت، لكم الموت رحيما لكنه لا يأتي أبدا.. ننزف ونبقى أحياء فالطعنات تنال من الروح والقلب تنال من شغفنا تنال من انسانيتنا، تشعل القلب كرها للعالم.. قهر في قهر في قهر هذا ما تلده الطعنات في الأجساد المتهالكة عطشا وجوعا وتعبا.. قواهم تخور فلحمهم الحي يواجه براميل القنابل المتفجرة بالحقد الأسود...!! بأيديهم التي كتبت عليها أسماءهم صغارا وكبارا يواجهون صواريخا قاتلة بحجارة بيوتهم التي تنقض على أحلامهم ...!! يا ويلنا كم وحدنا...!!
طعنتنا الحرب في أرواحنا...!!
طعنتنا ببطء شديد...!
كمن يرغمك على الخروج من باب الذاكرة محطما بعد إغلاق الباب كل أحلامك وصورك وذكرياتك.. كأنك مرغما تخلع الباب وتحمله معك كي يبقى لديك شيء للذاكرة...!!
يركض خلف شبح الموت محاولا سرقة باب الذاكرة كي يجردك من ماضيك، ومن أحزانك وأفراحك السابقة والقادمة تصبح كجذع شجر عالقا بين الأرض والسماء فجروحك تكشفت من الأرض ويراها الطير بينما أغصانك جرداء قاحلة تستعر لتحضن أرضا سواء كانت فوقها أو أعلاها.. تريد أي ذكرى لتتشبث بها...!! يحاربون الذكرى والذاكرة تشعر بالضياع للمرة الأولى بينما كل حياتك هي حصار وعذاب واقتلاع وتدمير وقهر وقهر وقهر...!!
لكن هذه المرة هنالك الكثير من المجرمين يعودون لقتلك بينما كنت تظنهم أحبابك...! يا لهذا العالم.. عالم بأكمله يعارك طفل فلسطيني في غزة على كسرة الخبز وقطرة الحليب ويعيدون من تبقى من اسمه على كيس طحين يسلبون فيه حياتك يقزمون تحرره من براثن الاحتلال؟؟! جرائم الحرب لا تنتهي في غزة أولها جريمة سرقة الذاكرة كيف ننسى وجه قتلتنا وهم يدوسون على دم أطفالنا؟؟!! ثمانية آلاف طفل غادرونا هكذا كأنهم غيوم أصبحوا جميعهم في السحاب؟ أربعة آلاف امرأة نبت لها جناحين وتركت أفئدة تتصارع الحياة خلفها ...!! خمسون ألف امرأة حامل الآن في غزة بلا أي مقومات خدماتية صحية أو نفسية أو غذائية أو إنسانية.. بلا بيوت بلا أمان بلا ملاذ.. عن أي باب للذاكرة يسعون لسرقته وتدميره ...!!
طعنتنا الحرب يا أمي...!! كم حمدت الله أنك لم تعودي في هذا العالم الرخيص...! كم حمدت الله أنك قد رحلت إلى الله كي لا تشهدي ما نعيشه اليوم من خذلان وقهر وظلم وإبادة جماعية لأطفال غزة، فطفل واحد يسيل دمه يؤلم أرواحنا ويقهرنا فما بالك بستة آلاف طفل فلسطيني في غزة ...!! وأربعة آلاف أم وابنة وأخت وحبيبة...!! كل ساعة تقتل أمهات اثنتان في غزة وتقتل سبعة نساء كل ساعتين في غزة...!! هنالك 180 امرأة تلد كل يوم في غزة؟؟! تنتظرهن الحرب بعد أن فقدن أمنهن وبيتهن ومكان آمن لأطفالهن، يلدن في مدارس الإيواء.!! وفي عيادات صغيرة بالكاد يمكنها استقبالهن...! لا رعاية ولا حماية لهن ولا مكان لولادات طبيعية آمنة لنساء غزة...!!
إسراء إحدى النساء التي وضعت طفلتها في الحرب المستعرة، تلد طفلتها بخوف شديد وبين أصوات القصف والدمار والقتل، وتخرج في ذات اليوم فلا سرير ولا مكان لها فالجرحى في كل مكان حتى ممرات العيادة، لم يجد زوجها في خيمتهم التي لجأوا لها بعد أن تم إجبارهم على النزوح من بيوتهم لصناعة سرير من الخشب والبربيش لتضع طفلتها عليه، وأشفق عليها أحد الرجال فأعطاها جاكيته الشتوي ليكون بمثابة فرشة لتنام عليها الصغيرة، وأشفقت على المولودة إحدى النساء في العيادة ليعطيها غطاء خفيفا ليكون كفولة لطفلتها، فقد جاءت دون أي كسوة للولادة وهي لا تملك شيئا بعد أن نزحوا للجنوب..!! ورغم كل ذلك فالطفلة مريضة من شدة البرد في الخيمة والأمطار تتساقط عليهم من كل زاوية لأنه خيمة من نايلون وبعض الأقمشة، لا طعام متوفر ولا شربة ماء صحية تتوفر، ولا ملابس كافية للعائلة، ولا للطفلة التي لا تحسد على موعد ولادتها في قلب الحرب المستعرة ...!!
إسراء واحدة من 180 امرأة يلدن يوميا في غزة في ظروف قاسية بدون حماية ولا رعاية صحية أو نفسية وهنالك ما يقارب 600 امرأة فلسطينية في غزة ستلد خلال الثلاثين يوما القادمة، ما يعني أنها ولادة غير آمنة وبظروف لا إنسانية. طعنتنا الحرب فمن يهتم بهؤلاء النساء؟؟ وأين هي المنظمات الدولية التي تعنى بالصحة الإنجابية للنساء حول العالم؟ أم أن الفلسطينيات لسن ضمن قوائم البشر كما وصف الاحتلال الإسرائيلي بهجمته المسعورة على بلدنا ونساءنا وأطفالنا...!!
طعنتنا الحرب يا أمي؟!
وأنا أعانق وحيدة أشارك شيئا من الألم علّ قلوب الإنسانية الحرة تتلطف بأرواحهن المتأرجحة بين الحياة والموت...!! فالحياة أصبحت موتا للغزي في كل دقيقة تحمل القتل والدمار ...!!
تصوير: هاني الشاعر.