ذكريات من "القلعة الوطنيّة": ماذا حلّ بنا جيل التسعينيّات؟

قبل البدء، أريد العودة وراءً عندما كانت الحياة تنبض بصدقٍ واضحٍ عكس هذا اليوم الذي يأتينا بواقع صادم متشابك وعاجز. كنّا نسمع أناشيد ونكتب قصصًا ونحكي حكايات تتعلّق بالوطن. الوطن الذي كان يحوم حولنا دون أن ندرك اسمه، شكله أو حتى صوته. فمثلًا إذا سألتك "ما هو الحب؟"، لن تتمكّن من الرد بدقّة، وهكذا هو الوطن، رفيق طفولتنا المبهم.

أذكر المخيّمات الصيفيّة في مدينتي الناصرة التي كانت تُلقّب بـ"القلعة الوطنية" في ذلك الوقت (لقب لم يعرفه الجيل الحالي)، كنت أتلهّف أكثر من المعقول عند وصولي المخيّم. المخيّم الصيفي بالنسبة لجيلي كان فرصة التحرّر من الحصار المنزلي والإجابة عن تساؤلات حول كيفية قضاء وقتنا في العطلة، والاستمتاع مع الأصدقاء الجدد دون أن نحكم عليهم بناءً على حاراتهم، دينهم و لونهم. كنا وحدة واحدة تحمي نفسها من الملل المتواضع، نحب بلا شروط، وننتمي دون تذمّر ونتمتّع دون إغراءات مبالغ فيها، بل أحاسيسنا كانت مُفرطة. على الرغم من فعاليات الصباح التي نشتمها بعبارات مقبولة، إلا أنها كانت مدخل لنهارٍ نتعلّم به أن نكون من أبناء وبنات البلد.

هو ليس كالمخيّم الذي نعرفه في واقع شعبنا الفلسطيني اللاجئ الحالم بالعودة، أو في القصائد والروايات التي تراود أذهاننا. بل أعود بالذاكرة الى طفلةٍ لم تفهم معنى الوطن، كانت تحتضنه دون تعلّق وتبكيه رثاءً وتفرح به حالمة دون أن تدرك ما هو. وبعد مرور القليل من الزمن، هبّت مدركة بأن الوطن نشأ من هذا المخيم المتواضع، الذي اعتبرته بيتًا دافئًا حزينًا وجبّارًا تدافع عنه وتحميه من أجل عائلتها الصغيرة، التي كانت تتشارك معها التفاصيل الساذجة. في هذه الأثناء لملمت خيالي ليكون أقرب الى الواقع، وفهمت أن هذا المخيم المتواضع هو وطني، وعائلتي التي سكنت معي هي شعبي.

كنا نلوّن رسومات ناجي العلي، ونستمع الى قصيدة توفيق زياد "أناديكم وأشد على أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم" بصوت أحمد قعبور. ونزور الأماكن المقدّسة والتاريخية المرتبطة بنكبة شعبنا، التي تركت لنا العديد من الأسئلة ابتداءً من سؤال "الأنا". كنت أبلغ من العمر ثلاثة سنوات عندما نشبت الانتفاضة الثانية، ولم أفهم ما حصل إلا عندما كبرت. ونزرع النباتات الفلسطينية مع خلفيّة أغنية "يا رايح صوب بلادي، دخلك وصلّي السلام". وننظّف وراءنا وفي بعض الأحيان نضطر إلى تنظيف ساحة الملعب التي نلتقي فيها كل صباح بدون تذمّر، ونعود الى البيت كأننا أنجزنا عملًا عظيمًا بحق بلدنا. أما في هذا الحاضر حدّث ولا حرج، إذا مررنا من رصيف "طبيعي" لم يتعفّن بعد، نقول "لسّه الدنيا بخير".

الهويّة كانت واضحة للكبار، ومن حظ الكثيرين من الأطفال الذين نشأوا في بيئة حاضنة سياسيًا وثقافيًا، وكبروا مع صراعات أقل من غيرهم حول الهويّة. نحن نولد فلسطينيين، ولكن في الداخل المحتلّ علينا كل الوقت بأن نثبت بأننا فلسطينيون أمام العالم. وهذا يتطلّب فكر متحرّر، لسان متكلّم ووجه واثق. فمن مسؤولية الكبار أن ينقلوا الحقيقة إلى صغارهم.

وعندما كتبنا اقتباسًا من قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" كإحدى فعاليّات المخيم الصيفي، لم نكن نعرّف عن أنفسنا "مخلصون للوطن والهويّة". بل كنا نحب. فالحب يعني أن نقول صباح الخير دون خوف وتردد لأحد أبناء بلدي، أن أقفز فورًا لمساعدة إنسان طاعن في السن يعبر الشارع مكتفية بابتسامته الممتنة، أن أشتري بعض الخبز لجدّي قبل الذهاب الى أي مكان رغم عجلتي. فحبّي للوطن غير مشروط، خُلقنا على هذه الأرض، وتستحق منا أن نحبها ونحترمها ونثبت لها مدى استحقاقنا بها في كل الأوقات. وأتمنى أن أكون ساهمت بعض الشيء في توضيح معنى"الحب"، كما طرحته في بداية مقالي.

هذه الجزئية لم أعشها وحدي، بل الآلاف من أطفال فلسطين الداخل المحتل خاضوها على مرّ السنوات. تنتهي الصيفية، نكبر ونتعلّم في مدارس ذات مناهج إسرائيلية ويبدأ صراع الهوية والسؤال الشائك "من أنا؟" حتى يأتي الوحي على صورة الأهل، أو مدرّس لا يخضع للمنهاج المفبرك أو حديث عابر نسمعه بين كبار السن حول ما حدث في الماضي وما زال حاضرًا.

الآن لا يمكننا الرسم والكتابة او حتى الصراخ مثلما كنا نفعل في المرحلة الأولى من حياتنا كشباب وشابات فلسطينيين وُلدوا قبل عام الألفين. نحن نتذكّر ولن نغفر لكل من تجاهل وجودنا ووجوهنا. نحن في حرب دائمة بين الماضي والحاضر. بين حريّتنا في التعبير والتحرر من القهر عبر الهتاف والنقاش والنشر في مواقع التواصل الاجتماعي. واليوم بعد أحداث أيار 2021 رأينا الأثمان الباهظة التي كلّفت العديد من شبابنا وصبايانا، لا سيما في هذه اللحظة التي أخط فيها هذه السطور في خضم حرب أكتوبر 2023. نفكّر، ثم نفكّر، ثمّ نعجز قبل أن ننطق بأي كلمة. فنعود بالسؤال "من أنا؟" وكيف لي أن أعرف العالم على حالي، هذا العالم الذي يجهل تمامًا ما يحدث في الداخل المحتل. 

نحن الجيل الذي رأينا القليل من الأحداث والكثير من الألم، واستقبلنا كم هائل من المضامين الذي يصعب على العقل الواعي أن يتخيّلها عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. كنا أول من حمل "الهاتف الذكي" ونشأ مع نمو التكنولوجيا، وتبقّت معه شظايا من الطفولة المتواضعة واليوم يواجه حاضرًا قاسيًا وغبيًا. 


لك أن تتخيّل، في الماضي كانت تفرحنا لعبة سبع أحجار، واليوم إذا وجدوا معنا حجر قد يكون دفع الثمن هو السجن لسنوات ليسرقوا منا العمر والحرية لنعود للسؤال "من أنا؟".  

ومع كل قتامة المشهد وبلاء الصراعات، إلا إن الحقيقة واحدة بأنه لا يمكن لأي احتلال في العالم أن يحتل عقول نَمَت وعاشَت ماضينا المتواضع المُعتز بانتمائه وثقافته، وتعيش الحاضر القاسي الذي حوّلنا الى أناس ناضجين واعيين مزودين بالمعرفة وثابتين في الموقف السياسي والاخلاقي . جيلنا كان ولا زال جيل ملتزم بالحق وبالسعي الدؤوب عن الحرية والعدالة.

هديل زطمة

ناشطة اجتماعية من مدينة الناصرة. عملت في مؤسسات مجتمع مدني في تركيز مشاريع للقيادة الشابّة، ومكانة النساء والقضاء على العنف. واليوم موجّهة مجموعات في مجال المساواة الجندريّة

آيات عبد الغني
هذه الكلمات من خلال المقال أخذتني الى ذكريات الطفولة المحفورة بذاكرتنا.. ثقافتنا.. بلدنا وأيضًا التنشئة الإجتماعية التي ترعرعنا عليها.. تنشئة حُب الوطن، الإنتماء والعزيمة. و لا بُد أن ننسى من نحن.. لكن مستحيل أن ننسى من أين جأنا! رائعة هديل.. أهنئكِ ☺️
الخميس 4 كانون الثاني 2024
شاركونا رأيكن.م