غزة: تعدّدت الضحايا والمجرم واحد

كُتِبَ الكثير عن غزّة منذ السابع من أكتوبر 2023، وسيُكتب مستقبلًا أكثر من ذلك كلّ ما اتضّحت معالم وأبعاد هذا الحدث الاستراتيجي والتاريخي. لم يزل العدوان الإسرائيلي مستمرًّا على قطاع غزّة وعلى الضفة الغربيّة والقدس والداخل الفلسطيني منذ نحو ثلاثة شهور. حجم الدمار والذي تزرعه آلة الحرب الإسرائيلية، رهيب وغير مسبوق، وليس فقط على مستوى جرائم المشروع الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن، وإنّما مقارنةً بأفظع جرائم الحرب في التاريخ الحديث.

في هذه المقالة، سأعمل على تسليط الضوء على المأساة والجرائم الفظيعة البعيدة عن الكاميرات والتي لا يتم الحديث عنها بالقدر الكافي. لكنني لا أستطيع الحديث عن المأساة المخفيّة، دون التطرّق بدايةً إلى بعض المعطيات الموجودة في أيدينا، والتي توضّح حجم المأساة الواضحة للعيان حتى الآن.

منذ بداية الحرب وحتى كتابة هذه السطور، طالت آلة الحرب الإسرائيلية كل مناحي الحياة في قطاع غزّة وعملت بشكل متعمّد على تدمير كل مقوّمات الحياة الأساسية فيها أهمّها المنازل، المدارس، المستشفيات، البنى التحتية، الأراضي الزراعية وكل ما يحتاجه الإنسان من أجل الاستمرار والبقاء. فقد ارتكبت إسرائيل ما لا يقلّ عن 1700 مجزرة التي راح ضحيّتها أكثر من 21 ألف شهيد من بينهم أكثر من 8500 طفل وأكثر من 6300 امرأة، أكثر من 350 من الطواقم الطبية والدفاع المدني وأكتر من 100 صحافي. عدد الجرحى بلغ أكثر من 55000 جريحًا ولا يزال على الأقل 7000 مفقود تحت الأنقاض. ذلك بالإضافة الى نزوح 1.8 مليون انسان داخل القطاع[1]، يعانون من التجويع، العطش، عدم توفّر الخدمات الصحية والحياة بدون مأوى آمن وأي شعور بالأمن والأمان من أي نوع.

 مليون انسان داخل القطاع، يعانون من التجويع، العطش، عدم توفّر الخدمات الصحية والحياة بدون مأوى آمن وأي شعور بالأمن والأمان من أي نوع.

إلا أنّ هذه المأساة لا تقتصر أبعادُها ونتائجها على غزّة وأهلها فقط. ففي قصيدة المواكب، كتب الأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران، حول مفهوم العدل ما يلي:

"وَالعَدل في الأَرض يُبكي الجنّ لَو سَمِعوا    بِهِ وَيستَضحكُ الأَموات لَو نَظَروا

فَالسّجنُ وَالمَوتُ لِلجانينَ إِن صَغرُوا          وَالمَجدُ وَالفَخر وَالإِثراء إِن كبرُوا

فَسارق الزَّهرِ مَذمومٌ وَمُحتَقَرٌ                وَسارِقُ الحَقل يُدعى الباسِلُ الخطرُ

وَقاتلُ الجسمِ مَقتولٌ بِفعلَتِهِ                   وَقاتلُ الرُّوحِ لا تَدري بِهِ البَشَرُ"

لم تقتل إسرائيل عشرات الاف الشهداء الفلسطينيين فقط، بل قتلت مئات ملايين الأرواح من الفلسطينيين، العرب، وغيرهم الكثير من البشر الذين يؤمنون بالعدالة وحقوق الإنسان. تجري جرائم الحرب والإبادة في غزّة على مرأى ومسمع العالم بأسره، وتُبثّ هذه الجرائم بشكل مباشر على شاشات التلفاز والهواتف الذكية. هذه المشاهد الصعبة والفظيعة، دون شكّ، تؤثّر على كلّ من يشاهدها وسيكون لها تبعات على صحّته النفسية. 

من مشاهد المأساة المخفيّة هو العائلات الفلسطينية المقسومة بين الداخل الفلسطيني وقطاع غزة. إنّ 70% من أهالي قطاع غزة هم لاجئون من مدينة يافا جنوبًا حتى بئر السبع. لدى الأغلبية الساحقة من سكان يافا، اللد، الرملة والنقب عائلات وأقارب في قطاع غزّة، يعانون من كل هذه الجرائم التي ارتكبتها و ترتكبها إسرائيل، من دون أي إمكانية لمساعدتهم أو التقليل من معاناتهم.

مشهد آخر الذي ينبع من تقطيع أواصر الصلة بين العائلات الفلسطينية، هو ما يمكن أن ينجُم من فرض هذه الحرب على أبناء نفس العائلات، ولكن كل جزء من طرف آخر في الصراع. فيمكننا أن نتخيل مثلًا أنّ أحفاد اللاجئين من يافا او بئر السبع، الموجودون الآن في صفوف المقاومة في غزّة، قد يقصفون، رغمًا عنهم وبشكل غير متعمّد، أبناء عائلاتهم الموجودين في يافا وبئر السبع. وقد يكون الأسوأ في هذا المشهد، وجود بعضٌ من عرب الداخل، والتي نجحت إسرائيل في محو هويتهم، في صفوف الجيش الإسرائيلي وهم يقومون بقتل أبناء عائلاتهم، حتى بدون وعي لهذه الجرائم.

مشهد آخر للمأساة المخفيّة، هو قمع كل الأصوات المعارضة للحرب والإبادة ورفع صوت واحد ووحيد في المجتمع الإسرائيلي. هذا الصوت المنادي بالمزيد من الجرائم والدمار وسفك الدماء، يُعتبر الصوت الشرعي الوحيد في السياسة والإعلام في إسرائيل. الصحفيون والإعلاميون الإسرائيليون يتنافسون فيما بينهم منذ بداية العدوان، على جائزة "الأقلّ إنسانيّة والأكثر تطرّفًا وبشاعة"، حتى أصبحت مهمّة صعبة وتحتاج الى طاقات، مجرّد مشاهدة أي قناة إسرائيلية.

مقابل ذلك، منعت الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيون في الداخل من أبسط حريّات التعبير عن الرأي وقمعتهم ومنعتهم من تنظيم أي مظاهرة او مسيرة او رفع أي صوت ضد المجازر على أبناء شعبهم. هذا بالإضافة إلى تهديدهم بتشريعات تجيز القتل من خلال استعمال الرصاص الحيّ في حالة التظاهر ونشر عشرات آلاف قطع السلاح بين يديّ ميليشيات بن-غفير. أي أنّ شعبنا يعاني الأمرّين، ونحن نُحرم حتى من حقّنا في الصراخ من شدّة الألم لما نراه ولا نستطيع إيقافه.

لم يكتفِ المجتمع الإسرائيلي بالجرائم التي تقوم بها حكومته أو جيشه أو حتى إعلامه تجاه الفلسطينيين، بل انضمّ ليأخذ دور فعّال في إضافة المأساة والمعاناة. عدد كبير من أبناء هذا المجتمع شاركوا في الجريمة من خلال طردهم للعمال العرب من أماكن العمل لمجرد كونهم عرب، أو ملاحقة الطلاب الجامعيين وحتى طردهم من الجامعات والكلّيّات بشكل تعسّفي وغير قانوني، وفي حالات معيّنة احالتهم للتحقيق، لأنهم نشروا على شبكات التواصل الاجتماعي الخاصّة بهم، مواقف إنسانية أو سياسية ضد الحرب. وحتى الأطباء وإدارة المستشفيات قاموا بملاحقة العاملين في القطاع الصحّي وطردهم من عملهم أو احالتهم إلى التحقيق لمجرّد تعبيرهم عن موقف انساني. هذا بالإضافة الى ملاحقة العاملين في جهاز التربية والتعليم أو أي من المكاتب الحكومية بحيث أصبح كل فلسطيني في الداخل مُطارد ومُلاحق لكونه عربي.

إنّ هذه الملاحقة لم تقتصر على فلسطينيي الداخل وحسب، بل طالت كافّة أنصار القضية الفلسطينية وحقوق الانسان في عدد كبير من دول العالم، وبالذات الدول "الديمقراطية" والتي تتشدّق بخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان. فنرى مثلًا معارك جدّيّة ومطالبات من سياسيين وحكومات لسنّ قوانين تمنع رفع العلم الفلسطيني في ألمانيا أو محاولات لمنع أي وجود للرموز الفلسطينية في الحيّز العام مثل العلم أو الكوفيّة في ألمانيا، بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. هذا بالإضافة، إلى محاولات منع التظاهر في عدد كبير من الدول والاعتداء على المتظاهرين. ناهيك عن المكارثيّة الجديدة وطرد محاضرين من الجامعات او اعلاميين من وظائفهم المختلفة بسبب دعمهم للشعب الفلسطيني.

هذا الدعم الأعمى والأحادي الجانب لإسرائيل وجرائمها من كل هذه الدول التي تدّعي الديمقراطية، قد يؤدي الى أصعب مشاهد المأساة في هذا العدوان، وهو تفريغ قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان من مضمونها. هذه الجريمة لا تقوم بها إسرائيل وحدها. وقد يزيد من هذه المأساة هو أنّ من يدعم إسرائيل في هذا العدوان، هم أنفسهم من يتشدّقون بخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان. ازدواجيّة المعايير وسياسات الكيل بمكيالين، ساهمت بشكل كبير في شرعنة جرائم الحرب الإسرائيلية ضد أبناء الشعب الفلسطيني وزادت من ثقة إسرائيل بأنها تستطيع أن تهرب من الحساب أيضًا من جرائمها هذه المرّة.

ما زالت آلة الحرب الإسرائيلية، بأذرعها المختلفة، تعمل وتحصد المزيد من الأرواح والدمار والمعاناة مع كتابة هذه السطور. حتى الآن، لا نعلم متى ستتوقّف هذه الآلة من أجل أن نستطيع أن نُحصي حجم الدمار والمأساة. مع ذلك، إرادة الحياة وصمود شعب الجبّارين في غزّة وباقي أماكن تواجده، يبقون النافذة مفتوحة على الأمل بالحريّة والعدالة حتى ولو بشكل محدود. تزرع إسرائيل كل هذا الدمار، ونزرع نحن من خلال الصمود ومقاومة الظلم بذور الأمل للعيش بكرامة على أرضنا.


[1] وفقا لمعطيات المكتب الإعلامي الحكومي في غرة.

تصوير: عبد الرحمن زقوت.

سامي أبو شحادة

أكاديمي وسياسي فلسطيني، مقيم وناشط في مدينة يافا، نائب سابق في الكنيست ورئيس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"

شاركونا رأيكن.م