في الغياب توجعنا الذاكرة
"سامحوني
لا أعلم متى يدركني الموت..
رب اشهد على أني سامحت الجميع دنيا وآخره..
قد أكون في يوم من الأيام أخطأت بحق أحد أتمنى أن يسامحني الجميع أقول ذلك ليس ضعفا مني بل خوفا ممن بيده ملكوت السماوات والأرض فأنا لا أعلم متى يدركني الموت..
من يحمل في قلبه خدوش صغيرة أحدثتها له، فليخبرني أو ليعتقني لوجه الله، لعلي كنت أمازحه فأثقلت عليه أو ربما لامست وجعا أو أيقظت ذكريات تؤلمه أو سببت له جرحا دون قصد تمنيت أن أكون سبب سعادة لمن حولي
والا أكون وجعا لأحد
ربما أنا لا اسّتطيع إسعاد أحد
سامحوني سامحوني حين يأتي رحيلي دون وداع
اللهم اغفر لي إذا توفيت وسخر من يدعو لي دون ملل واجعلني أثرا طيبا
كلنا راحلون"
كانت هذه كلمات الصحفي عادل زعرب كتبها في منتصف أكتوبر الماضي، وكأنه يستقرئ مستقبله بعد شهر واحد من هذه الكلمات ...!
يعتصرنا الوجع والألم على استشهاده، فهو بوصف بلسان زملائه وزميلاته وكل من عرفه بالصحفي الإنسان، الخدوم، المخلص، المتطوع، المبادر لفعل الخير ومساعدة الغير بالإضافة إلى عمله الصحفي...
الصحفي عادل زعرب استشهد في بيته وغرفته التي يقطنها في مدينة رفح حيث على مدار 75 يوما من حرب الإبادة لم يتوقف للحظة عن التغطية الإعلامية، لم يتوقف قلمه عن الكتابة والنشر وإيصال الأخبار عما يحدث في رفح خصيصا وفي كل الحرب البشعة على قطاع غزة.
عادل الإنسان عرفناه في رفح منذ سنوات طويلة لكني عرفته أكثر أثناء حملة المناصرة التي قمنا بها مع مجموعة من الصحافيين والرياديين من أجل المطالبة بإنشاء مستشفى لمدينة رفح التي على مدار سنوات الحصار كانت تعاني من ضعف الخدمات الطبية، وبها مشفى أبو يوسف النجار الذي لا يزيد عن كونه مستوصفا أو مركزا صحيا، شاركنا عادل بكل حرص وأمانه وجهد ليل نهار من أجل رفع صوت أهالي رفح للمطالبة بمشفى بالمحافظة.
كان عادل إنسانا خلوقا راقيا يقدم الخدمات ولا يكتفي أبدا، أيضا شارك مع العديد من الشرفاء في تقديم الخدمات الإنسانية والإغاثية للفقراء والمهمشين، مخلصا في عمله الطوعي، طموحا للمشاركة المجتمعية بكل ما أوتي من قوة، لا يتعب أبدا ولا يمل ولا يشتكي يقدم ما يستطيع.
كتب عادل قبل عدة أيام:
" 71 يوما من العدوان ولا زلنا نتنفس الحمد لله ما زِلنا نعيشُ كلمة {ولَنَبلُونَّكمْ} وننتظر البُشرى كأنها فَلق الصبح.. "
وفي بوست آخر من عدة أيام سابقة لاستشهاده "صبحكم الله بالخير، من وين غزة العزة من أرض الكرامة"
بيته مفتوح كما قلبه للجميع
الصحفي عادل زعرب شكل نموذجًا للصحفي المسؤول المخلص لمدينته رفح من خلال مبادراته الإنسانية في مد يد العون وتقديم الدعم للأسر المحتاجة، كما لم يكتف بذلك، بل ساهم في تأمين فرص عمل لتأمين الحياة الكريمة للكثير من الشرائح المجتمعية، وفيما سبق كان الصحفي عادل زعرب مسؤولًا عن الحملة الدولية لإنقاذ الأطفال المرضى في قطاع غزة.
كان عادل يملك حسا ثقافيا وجعل من بيته مكانا حافظا للتراث الفلسطيني، وفتحه للجميع في أي وقت للاستفادة بالتصوير أو إجراء مقابلات أو لقاءات صحافية، كان بيته مفتوحا كما قلبه مفتوحا محبا للمشاركة المجتمعية، وحاز على جائزة التميز والإبداع في إنشاء أول بيت تراثي فلسطيني.
يعتصر القلب حزنا وكمدا.. نعم كل رسائل الصحفي عادل الأخيرة تشير لشعور قوي لديه بأن الموت قريب جدا ورغم أنه عاش 75 يوما في الحرب المستعرة لم يتوقف قلمه مطلقا، ونعى العشرات من أبناء عائلته آل زعرب بينما يعتصر قلبه ألما عليهم وعلى الأطفال، كان صامدا يواصل رسائله الإعلامية، ويلبي أي نداء، أذكر انني لم أكد أطلب منه أن يشاركنا تجربته في الحرب كصحفي على منصة "فارءة معاي" حتى كان أسرع من أرسل وكأنه يقول لا وقت لدي يجب أن يعرف العالم بأسره ما نعيشه وما نتألم ونعاني منه، كأنه يقول لا وقت متبقي لي سوى أيام معدودة ربما اليوم أو غدا أو بعد غد، لم يعلم يقينا عادل زعرب أن اسمه سيظهر على شاشة الفضائيات ليس مراسلا هذه المرة بل اسما لشهيد جديد يرتقي بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي لم يترك صحفي ولا طفل ولا انسان دون ان يدمر حياته..
نعم رحل عادل شهيدا بعد أن شاب شعره وكبرت لحيته وشعره فلم يكن الوقت ليسعفه لرفاهية حلق اللحية أو تهذيب شعره، لا زالت كلماته أثناء الحرب تؤلم قلبي متسائلا: كيف تغطيتي الإعلامية يا أم سامر؟؟!! لم تمر دقيقة دون أن يرصد الخبر وينشره ويعممه.. فقلت له حينها أحيانا أعرف الأخبار العاجلة منك وليس من نشرة الأخبار العربية أو العالمية...!" افتقدنا صوتا إعلاميا نبيلا في هذه الحرب البشعة والألم لازال يعتصرنا وصدمة وفاجعة قتله بدم بارد لازالت حاضرة في يومنا، لكن الحزن والفقد أيضا يجعلنا نزيد اشتعالا بأن واجبنا الإعلامي بات مضاعفا في ظل الاستهداف للصحفيين الذي يكاد يصل لمئة إعلامي وإعلامية قتلوا في حرب الإبادة التي لم تتوقف حتى اللحظة..
سامحناك يا عادل فقد أدركك الموت كما توقعت وعرفت.. فلتسامحنا أنت فلا زلنا على قيد النجاة...!
تصوير: هاني الشاعر.