حين يصبح الطبيب قمرا ليضيء عتمة غزة

تنهش الكلاب لحم الشهداء أمام أعين الأطباء في الساحة الأمامية من مستشفى الشفاء.. صوت الزمجرة تعلو وتتقطع الأجساد الطاهرة التي قصفت لتصعد الأرواح إلى السماء بينما يبقى الجسد على الأرض، لا رفاهية للدفن في غزة لا رفاهية بجنازة تليق، لا قبلة وداع، لا أحد يعرف من هم الشهداء الملقون أمام بوابة المشفى، وفي الطرقات، وفي ساحة المشفى، وبين سيارات الإسعاف الجاثمة دون وقود أو حياة، يتناثر الدم الطازج في الساحة وعلى أبواب السيارات، ويسيل كنهر يبكي دون توقف، تزداد الكلاب شراسة وتتكاثر يفرقها صوت الرصاصات المنهمرة من كل ناحية صوت الرصاص كأزيز يلفح وجهك العاري، وتنتشي هلعا بأنك لازالت على قيد الحياة/الموت ..!! 

تعود في سكون لا يكاد يتسع الكون من صمت قاتل تعود الكلاب الأربعة وقد زادت خامسا تركض منتشية ما بين الجثث المسجاة في كل مكان تنهش اللحم الذي كان حيا بعضها قبل ليلة وبعضها قبل ساعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. بينما دموع القهر والهلع قد بلغت ذروتها في عين طبيب لم يعد يرى من نظارته المكسورة الزجاج، عاجزا عن طرد الكلاب عن الأجساد الطاهرة ...!! لا رفاهية للتلفع بتراب الأرض، وما يسمونه قبرا لا شاهدا على القبر، ولا قبر إنما القبر فوق الأرض فوق الحياة، إنه الموت يتربص بكل مظهر للحياة في غزة.. 

قلب الطبيب المقهور يبدو كخريطة المدينة المشوهة، يعلو بعضها فوق بعض تتكسر طرقها فتبكي الشوارع قبل البيوت، يتلفع الشهداء وحدهم الآن بجدران بيوتهم وحيدون يبقون لا أحد يقترب. لا أحد.. المصابون لا أحد يقترب، إنه الموت إنه القهر إنه عهر عالم يزداد بشاعة...!!

الدبابات الضخمة بجنازيرها العريضة تكاد تشبه ثعبانا كبيرا بشكل مربع تمتد بلسانها القبيح لتطيق القذائف في وجه البيوت من أمامها، تلقي القذائف واحدة تلو الأخرى يتلون وجه الحي بالغبار الذي يعمي القلوب والعيون، تقترب رغم شابورة الهواء الملوث بالحجارة وبقايا رائحة القذائف المتفجرة تمشي برتل، واحدا تلو الآخر لتدوس بكل قسوة على ذلك البيت الذي بات يترنح من هول انفجاراتها، تتكوم الحجارة ليقع اللحم الحي الذي لازالت فيه بقايا حياة لتمضي عليه الدبابات غير آبهة بقاطني البيوت، الشهداء يتساقطون.. الأم القعيدة تصرخ غير أن جنازير الدبابة تقلع رأسها فيخبو الصوت الناجي، تمضي دبابة أخرى تلو الأخرى يصبح البيت كالطحين المنثور في الطرقات، الصرخات لا تتوقف يمينا ويسارا تبكي الطيور التي كانت شاهدا على قتل العوائل الفلسطينية، تهرع لبلاد بعيدة تحدث مثيلاتها من الطيور عما لم يقال بعد...!!

الأسر تتساقط بعد أن أصبحت بيوتها ساحة حرب، لم يتبق أحد من الجيران.. الصرخات تخبو شيئا فشيئا، تختبئ الدبابات العشرون خلف بناية لا زالت مأهولة بصوت الحياة تتراجع قليلا، ترتفع الراية البيضاء، تخرج إحدى قاطنات الحياة تعاجلها رصاصات الغدر الإسرائيلية، ترتفع صرخات الفتيات والفتيان الصغار، يعلو صوت الأب للغادرين العابرين على أجساد البيوت، تتراجع الدبابات أكثر فأكثر، يعلو صوت الصرخات يسحب الأطفال جسد أمهم إلى البيت من جديد، لم يكد الصغار يحتضنون جسد أمهم يبكون رحيلها المباغت حتى تتفجر القذائف واحدة تلو الأخرى على البناية، يلتحم اللحم البشري مع جدران البيت وذكريات الطفولة، الأصوات المتفجرة والشظايا المتناثرة تحملق بهم ثم تنشطر بجنون ملعون لتقطع الأجساد والرؤوس والأعمدة، عشرات القذائف تخترق البيت الذي يئن وتطغى على صوت الناجين، تمضي الدقائق المسعورة والبيت بات هباء بينما وقعت كافة آمال الحياة التي كانت ترجو أن تنتصر على الموت..!! تتقدم الدبابات المسعورة لتمسح ما تبقى من حياة وتعلو على ركام البيت وأصحابه بينما يد ترتجف بالشهادة لازالت تعلو يخفت الصوت إلا من صوت الموت...!!

قلب الطبيب كالمطر

قلب الطبيب ينهمر كمطر أسود صوت نحيبه يعلو وعين تراقب الجرحى الذين يذوون أمامه بلا قدرة على إنقاذ حياة يغالبه الوجع وصوته يعلو بالقسم لإنقاذ الحيوات وعين أخرى تصرخ بالكلاب الضالة التي تنهش أجساد الشهداء.!! ينسى في خضم الموت المسعور أمامه من عشرين ساعة وأكثر صوت بطنه الجائع وعطشه المتعاظم، بينما قلبه قد انطفأ وهو لا يعرف بأي مكان نزحت عائلته هل ظلوا على قيد الحياة/ يرفع يديه للمنجى ويبكي كطفل تنهار قواه حين يفقد أمه...!!

.. قلب الطبيب كالقمر مضيء. يتلهف لتأدية واجبه على أكمل وجه، يراقص الموت يغافله لينقذ جريح ويعيد أنفاس الحياة لمن كاد أن يفقدها فالله اختاره ليكون هنا، هنا كحمامة بيضاء تنثر الرحمة والسلام لكل من يعاني، يخفف عن المكلومين أوجاعهم ويسكن الألم، القمر ينطفئ شيئا فشيئا بعد أن سرقوا منه سلامه الداخلي، تطاولوا وقصفوا الأطباء في غرفة العمليات الجراحية، لتتناثر شظايا آلاتهم القاتلة تناهل الرمال والغبار والحجارة فوق رؤوسهم وهم يؤدون عملهم، يخيطون الجراحات بما تبقى لديهم، لا مسكن ولا بنج يحيطهم لا نظافة تذكر لا معقمات ولا أي معايير إنسانية كي يؤدوا ما أقسموا عليه.. 

القمامة تنتشر في كل مكان، ممنوعون من الحركة لا يعرف الأطباء حال نظرائهم في باقي مباني مشفى الشفاء، إنهم يحدقون في المجهول، الموت ينتشر في كل مكان، الطائرات المسيرة ناشرة الموت تحلق في ساحة المشفى تحول أي حركة في المحيط إلى أشلاء، تنطلق شيفراتها القاتلة وقد تعاجله قذيفة الدبابة التي تغلق باب المشفى، الدبابات تحيط بالمشفى من كل الأماكن تحاصره وتحاصر المرضى، في عالم فاضل لا تجدي مناشدات الأطباء المحاصرين بداخله، إنه القتل المتعمد والجميع شريك، لا ماء للتعقيم ولا لنظافة الأيدي ولا للشرب لا ماء للطبيب الإنسان لقد نال التعب والقهر والوجع من جسده وقلبه وروحه حتى نحلت أجسادهم، يرسلون كلمات نداء واستغاثة لنظرائهم في العالم، المرضى يموتون أمامهم، يلفظون أنفاسهم الأخيرة بين أيديهم العاجزة عن الإنقاذ، الأطفال الجرحى يصمون آذانهم صراخا من الألم والوجع، الجراح تتعفن، والجثث في طرقات المشفى وفي الثلاجات التي لم تعد ثلاجات بفعل انقطاع التيار الكهربائي فقد بدأت تتحلل وتذوب ورائحة الموت المتحلل أشد قسوة على الناجين الأحياء..!! مشفى يصبح مكرهة صحية ومقبرة بلا سقف أو غطاء.. 

طبيب إنسان كان على قيد الحياة يبتسم يسير بين الجرحى يرسم ابتسامة وقلبه يتقطع يداوي جراحا ويهب تعبه لوجه الله ووجه السماء، طبيب انسان اسمه همام كان ناجيا حينما ركض ليصل للجرحى ليداوي آلامهم، يحتضن صراخهم ركض ليحمل طفلة جريحة ركض لغرفة العمليات، هو مسعف وطبيب ومداوي وممرض في لحظة، يقول بصوت حزين عبر وسائل الإعلام الأجنبية مجيبا على سؤال المذيعة: لماذا لا تغادر أنت وأسرتك إلى جنوب القطاع؟ فيجيب إذا غادرت من يعالج المرضى؟ إنهم بشر يستحقون الرعاية الصحية وليسوا حيوانات.. هل تعتقدين أنني درست الطب لأكثر من 14 عاماً لأفكر في حياتي وأترك المرضى؟ لا لن أغادر...!

لم يغادر الطبيب همام اللوح المشفى أبدا ظل بجوار والده الطبيب حتى آخر رمق من أنفاسه لم يترك مرضاه، بل قتل معهم بفعل قذائف الاحتلال الإسرائيلي على المشفى، ظلا ينزفان وهما على اتصال مع أطباء آخرين في مشفى الشفاء يطلبون الإسعاف والنجدة لجراحهم، الحياة لا تمهلك لتفهم كيف تخون سيارات الإسعاف أطبائها وهم الجرحى وهم المصابون!! لكن سيارات الإسعاف أيضا قتلت بفعل رصاصاتهم وسائقها قتلوا وهم يحملون الجرحى، حصار في حصار وقتل في قتل ووحشية في وحشية تمضي ساعات الليل بدقائقها وثوانيها الدقيقة لتقتل الأمل رويدا رويدا، يزداد نزف الدماء، يزداد الألم يزداد الصراخ يزداد الموت إمعانا في أجسادهم، تمتزج دماء همام الابن الطبيب بدماء أبيه الطبيب وفي مشفاهم وبين مرضاهم ولا يخذلون القسم الطبي ولا يتخلون عن مرضاهم لا يتخلون عن أمانتهم، ليستلم الله أماناته دفعة واحدة...!!

الطبيب القمر ينطفئ ليطفئ قلوبنا لقد أصبحت قلوب الغزيين كمشكاة في زجاجة، كفتيل مشتعل بزيت الزيتون حتى لو قتل فهو لا ينطفئ انطفاء الموت بل انطفاء الاشتعال من رماد وجمر يصبح قلبه جمرة متقدة حين تلمسها تحترق في وجه الظلم والاستبداد والوحشية، يسيل الدم النقي الطاهر بين أروقة المشفى دماء أصحابه وحلمهم بأن يكونوا منارة للحياة.

الشهداء يبقون كما هم في الطرقات في البيوت في القلب. المصابون والجرحى يبقون كما هم في الطرقات في بقايا البيوت في القلب المنفطر.. المرضى يبقون كما هم على الأسرة على الأرض بين طرقات القلب المدمرة. العجائز يحدقون في الزمن المتوقف على نزوحهم فجيعتهم فمن نجا من دير ياسين لم ينجوا في غزة . 

الأطفال.   يا ويل قلبي!!!

الناجون من نهر الدم الذي لا يتوقف تقرقر بطونهم.. يجف حلقهم عطشا..

الناجون قتلت أرواحهم قبل أجسادهم أيديهم مرفوعة إلى السماء كمشكاة في زجاجة تتأرجح قلوبنا هلعا وجعا يا لبشاعة هذا العالم...! الشفاه نال منها الجفاف ...! العيون غائرة سقط من حدقتها العالم...!!الفم تحجرت فيه الكلمات المكلومة...! الوجه أصابه السهد بعد أن نحلت الخدود وأصبحت سهلا لا قمة حمراء تظللها ...!! 

لا عالم اليوم نراه لا مدن حية لا مدينة تعلو فوق مدينتي النازفة.

طبيب راوي

طبيب راوي يروي حكايات الناجين من حوله.. يدخلون منزل بعد أن يقتلون بوابته بقذيفتهم المدوية، يدخلون كما التتار المتعطشين للدم والجبناء الذين يريدون أن يسطوا على كل شيء بعد أن سطوا على أرضنا، ينكلون بالأحياء ينالون من الرجال والشباب يضربونهم ضربا مبرحا ثم يقتادون العائلة نساءنا وأطفالنا يجعلونهم دروع بشرية أمامهم كغيلان لم يعد لها صلة بالإنسانية، دبابة يتقدمها طفل بالكاد يحبو وأمه تتكئ على جراحها وتمشي وأب مكلوم تنزف جراحه من تنكيلهم، وجدة تمشي وقلبها قد رحل بعد أن هاجرت من أرض البلاد الكبيرة، يمشون وبقية الأطفال يبكون وأقدامهم العارية تصاب بجروح ما بين حجارة مدببة وأسلاك وشظايا لينزف الدم من أقدامهم الصغيرة، كان الألم لا يطاق إلا أن صوت جنازير الدبابات من خلفهم تجعلهم يتمنون أن تبلعهم الأرض قبل أن تدوسهم دبابات الكفر البشعة..

 ماذا حدث؟

هل فروا إلى السماء أم فروا بأرواحهم ونجوا؟

هل داستهم دبابات الكفر بعد أن جعلت منهم دروع بشرية أم ماذا؟؟ 

من يجيبنا بعد أن انقطعت السبل وباتت الحكاية المجروحة كجرح أرواحنا مناشدة.. وشاهد عيان.. وطبيب يروي الحكاية.. الطبيب الإنسان الذي أصبح قمرا ليضيء ليل غزة المعتم كالح السواد، ينثر حبه وإيمانه بواجبه إنه الطبيب البطل الذي لا مثيل له في العالم...!!


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م