هل يستوي صحافيو غزة مع غيرهم؟

أثيرت زوبعة واسعة، في الاسبوع الأخير من كانون أول المنصرم، بمعنى بعد مرور نحو 80 يوم على الحرب، حول المصور معتز عزايزة، الذي تحول من مصور هاو إلى مصور صحفي خلال فترة الحرب على بلده، غزة. زوبعة وموجة من التخوين ضد معتز بسبب إجرائه ونشره مقابلة مع شخص قال "لا مشكلة لدينا بالتعايش مع اليهود". وبسبب قوله-معتز- في مقابلة على الجزيرة "حياتي أغلى ما أملك".

علقت وقتها في منشور بصفحتي، أن عبارة "حياتي أغلى ما أملك"، هي عبارة شرعية وطبيعية، نعم، حياته أغلى ما يملك، وكل واحد فينا حياته أغلى ما يملك، وأن محاولة تصوير أهل غزة بأنهم لا يهابون الموت ويتمتعون بصمود أسطوري حتى لو كانت في سبيل الوقوف بجانبهم، تسلب منهم شيء من انسانيتهم، تقلل منها، وأن هذا تحديدًا ما تريده اسرائيل، أن تبدو أرواح الناس في غزة أقل قيمة ويبدو موتهم أقل أهمية!

أما بالنسبة السبب الرئيسي للهجمة، فهو نقل رأي شخص ضمن نقله لآراء آلاف الأشخاص منذ بداية الحرب وآراء الناس متفاوتة وهذا طبيعي وواقعي. ثانيًا، أن يقول الرجل "لا نريد إبادة اسرائيل بل يمكننا التعايش لكن مع الحفاظ على كرامتنا"، هذه رسالة مهمة ضد ما تحاول اسرائيل تصويره للعالم بأن الغزيين متوحشين ومتطرفين ويريدون إبادتها، وقد عززت ادعاءاتها ببعض مشاهد أحداث السابع من اكتوبر، رسالة مهمة ونشرها مهم. وأن ما يقوم به معتز عزايزة وزملاء آخرين، منذ بداية الحرب بنقل كل ما يحصل وكشف حجم الدمار والاجرام الاسرائيلي مع شرح بالانجليزية، ساهم بنقل الحقيقة الى العالم الغربي كما لم تفعل أي وسيلة إعلام من قبل، ونعم الرأي العام الغربي مهم، لأن ضغطه على الحكومات يؤدي في النهاية إلى تغيير في موقف هذه الحكومات ضد اسرائيل مما قد يؤدي الى ضغط ينهي الحرب أو يخففها، خصوصًا في ظل عدم وجود أي تأثير للدول العربية في هذا المضمار، فهي لن تحارب اسرائيل ولن تهددها حتى.

والأنكى من كل هذا أن معظم المعلقين ضد معتز عزايزة هم أشخاص من خارج غزة، يعني أشخاص، مثلنا، يجلسون في بيوتهم بأمان وأكثر ما يفعلونه هو كتابة بعض الكلمات ومقاطعة بعض الشبكات، وهذا ليس مؤكدًا حتى، يفتون ويزاودون على مصور يعيش تحت القصف والحصار منذ 80 يومًا ولم يتوقف للحظة عن نقل ما يحدث في غزة للعالم.

كتبت الزميلة الصحافية اليسارية أورلي نوي في مقال كتبته بموقع "سيحاة مكوميت" (محادثة محلية)، أنه في الوقت الذي ينقل الصحافيون الاسرائيليون رسائل الجيش من الستوديوهات أو من داخل الدبابات، يخاطر الصحافيون الفلسطينيون في غزة بأنفسهم لنقل الأهوال التي يتعرض لها شعبهم، وبعضهم يُقتلون فعلًا، ثم تساءلت "هل فعلًا يمارسون المهنة ذاتها؟"

إن ما يقوم به الصحافيون في غزة منذ اندلاع الحرب، لا يمكن وصفه بأقل من الجهاد أو العمل المقدس، فبينما يختار الصحافيون في الداخل الفلسطيني كلماتهم بحذر خوفًا من الملاحقلات السياسية والتهديدات المخابراتية بل ينأى بعضهم عن الكتابة نهائيًا عن الحرب، وبينما ينقل الصحافيون في الضفة أخبار غزة وأخبار المواجهات التي تحصل، ولدى غالبيتهم رفاهية التواجد بأماكن آمنة نسبيا، كما الصحافيين في مختلف أرجاء العالم، يفتقر الصحافيون في غزة لهذه الرفاهية، فقد وجدوا أنفسهم فجأة بعد السابع من تشرين في ساحة حرب كبيرة، لا يمكن الهروب منها أو نجنبها أو حتى الاختباء منها، وتحول المصورون الهواه الى صحافيين ينقلون ما يحصل حولهم، كما الناشطين لا سيما في شبكات التواصل الاجتماعي، تحولوا في ظل هذه الظروف المأساوية إلى صحافيين، خسر العشرات من بينهم حياته، وتم استهداف بعضهم بشكل شخصي، كالمصور سامر أبو دقة الذي فضل البقاء في غزة ونقل الحدث على أن ينضم الى عائلته في بلجيكا، فقتل خلال تأديته لعمله مع زميله الصحافي وائل الدحدوح الذي أصيب بجراح في ذات الواقعة. وائل الدحدوح، مراسل الجزيرة الذي سبق وفقد زوجته وابنه وابنته وحفيده فضلا عن أفراد آخرين من عائلته باستهداف لمنزل نزحوا إليه في مخيم النصيرات وسط القطاع يوم 25/10 وبعد كل هذه الأحداث المهولة، يأتي أحدهم لينتقد هذا الصحافي أو ذاك لأنه نقل مقابلة لم تعجبه أو لم تنسجم تماما مع فكر المقاومة.

الحرب الاعلامية التي تشنها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والتي تشمل حملات بروباغندا المعروفة اسرائيليا باسم "الهسبراه"، لا تقل خطورة عن الحرب العسكرية، كونها تسعى الى تبرير أفعال الجيش والقيادتين السياسية والعسكرية الوحشية وما يتضمنها من قتل وتدمير واعتقالات وتجويع وتعطيش وتشريد. ففي بداية الحرب بعد السابع من اكتوبر / تشرين الأول، حققت "الهسبراه" انجازات كبيرة في هذا المضمار، ونجحت في استمالة الرأي العام العالمي بشكل كبير، خصوصًا عقب تكثيف نشر المشاهد من منطقة "غلاف غزة" وما حصل فيها عقب هجوم كتائب القسام على عدد من بلداتها؛ الأمر الذي فسح المجال لاسرائيل لتوسيع قصفها وغاراتها وعملياتها العسكرية بشكل غير مسبوق بلا أي ضوابط أو كوابح! ومع توسع هذه الجرائم التي طاولت كل أنحاء القطاع وكل شكل من أشكال الانتهاكات والفظائع التي يندى لها الجين، كانت لكاميرات الصحافيين الغزيين ولهواتفهم النقالة التي نقلت الحقائق من الميدان وبشكل مباشر، التأثير الأكبر في تغيير التوجهات الدولية حيال الحرب وتحريك أحرار العالم في كبرى العواصم لا سيما في الدول الغربية للخروج الى الشوارع لتنديد بها ومطالبة حكوماتهم بوقفها والتراجع عن دعمهم لاسرائيل.. ولا شك أن هذه التحولات بدأت تلمس ونراها باتساع في الآونة الأخيرة، وكل ذلك ما كان ليحصل لولا الصحافيين الغزبين وعملهم المقدس؛ ما يفسر انقطاع شبكة الانترنت المتكرر عن القطاع الى جانب استشهاد أكثر من 100 صحافي حتى اللحظة في حرب شرسة لم تتجاوز الثلاثة شهور بعد ولا أفق لانتهائها في الوقت القريب.

أنا على يقين أن عين الحقيقة لا تفقأ ولا يمكن تغطية الشمس بغربال، ولكن ينبغي علينا في أقلها ألا نزاود على زملائنا الصحافيين الغزيين لا سيما في ضوء ما يقومون به من عمل مقدس لنقل الحقيقة بالرغم من كل المخاطر والمشاهد المأساوية التي يتعرضون لها.

بكر جبر زعبي

كاتب وصحافي ومحرر موقع "بكرا"

رأيك يهمنا