بشوارعها ومبانيها العالية وبيوتها التي يعلوها الصفيح، وأتربتها وغبارها الذي أتنفسه بدل الأوكسجين، مدينة تبتلع حزني وشهقتي الأخيرة وتقفز إلى السماء بأطفالها تخبئهم من الملاعين القتلة، صوت أنفاسها يكبر حد اللهاث تركض وهي تختطف الأطفال من ذويهم، وبعضهم تختطفهم مع ذويهم كلهم، تجري فوق الركام وتعلو على الردم توقف ملائكة السماء وتقذف لهم الأطفال فزعا.. وتعود لتحمل المئات دفعة واحدة، مدينة بأسمال بالية لكن جذعها صلب تنزف كلما التفتت نحو الأرض، تعود كشجرة يابسة لا أمل فيها تقف شامخة في وجه القنابل تحمي أهلها وتنزف وتقع وتقف وترفع ذراعيها للسماء تخاطب ربا واحدا تثق به وحده..

تلهج بالدعاء في الصباحات الأولى، وتبكي دون أن يراها أحد تجزع من أكوام اللحم في غزة، وأكوام الأشلاء في جباليا ورفح والنصيرات والبريج، تهرع إلى المغازي وتقف عينيها في خان يونس، تعود لتبكي بصوت مرعب وهي تنظر لبيت حانون وبيت لاهيا.. تبكي أحياءها وأصحابها.. يا ويلي مدينة نازفة مكلومة منكوبة تتكئ على قلبي الآن...!!

وقلبي بات مدينة انهارت كل أسوارها، حجرا حجرا صار ترابا وغبارا، غدت شوارعه حجارة صلبة تقطع مزيدا من شراييني، أوردتي تتفجر في الطرقات، تنتشر في مدينة قلبي رائحة الموت تتجذر بفعل الأشلاء والأجساد التي تشبثت بالبيت المدفون تحت الأرض بأمتار عميقة بعد أن كانت فوق الأرض، لقد قتلوا جميعا في بيوتهم، ولم يكن من رفاهية في الوقت لإحراجهم ودفنهم، فرفاهية الموت لا تتوفر في مدينة غزة إنها تركض ليل نهار كل ساعة وكل دقيقة موت جديد، غربان تتسلق عيون المدينة وتشرب الدم الممتد في شرايين قلبي المنفطر، يركض الأحياء لنجاة مؤقتة يركضوا بين الشوارع المبقورة وبين المنازل المهدمة وبين الجثت، ينام الناجون في أروقة المشفى لا يكاد يتسع المكان للشهداء ولا الأحياء معا.. يا ويلي رائحة الموت تتسع تتحلل جثت الشهداء مع أنقاض بيوتهم تنتشر الرائحة فتصبح موتا آخر، يفر الأحياء من جوارها يهلعون من هول قيامة غزة..!!

الصرخات الفزعة تصلني تقرع نبضات قلبي المكلوم، أسمعهم يصرخون، أسمعهم بوضوح تحت قبور بيوتهم الحيطان تتمدد مع تمدد أجسادهم تكاد تلتحم فوق أجسادهم الضئيلة..

 لا هواء لا ماء فقط عتمة واختناق وفزع كأنها قبور للأحياء يذكرون الله، فزعهم عظيم شهقتهم عظيمة تصلني فتصم صوت العالم الملعون، ليست مأساة وليست نكبة، إنني أعرف أن بعضهم لا زالوا أحياء تحت الأرض التي تمشي عليها، نحن نمشي فوق جثت الأحياء، نمشي بين أنفاس أخيرة لأحياء ناجون مع وقف التنفيذ، تصلني بحة الصوت، طعم الغبار في فمي، لون السواد يملأ وجهي، إنني مدينة مدمرة بفعل الحرب بفعل الظلم بفعل الاحتلال الإسرائيلي، بفعل خذلان العالم المتحضر.

 إنني لاأزال أسمع الأنين يقهرني من كل صوب، يحيط بي كأنني غيم يفتتني الوداع، لهفة الناجين لهفة الشهداء للركض للسماء، لهفة الحياة ماتت أي حياة يمكن أن تزهر بين قبور وأشلاء لا تجد قبرا واحدا، كفنا واحدا، يا الله ما أسهل الموت في غزة وما أفدح ثمن الحرية، لكنها كرامات نشم رائحتها إلا أن قلبنا منفطر في مدينة باتت خرابا بفعل صمت العالم المتشدق بالجنون بالأكاذيب.. الخيانة مرة أخرى مدينتي تعرضت للخيانة من الأصحاب قبل الأعداء.. من يلهجون باللغة العربية يتكلمون بصوت المجرم السادي المتعطش لدم أطفالنا..!! خائن كل من تجاهل غزة اليوم وهي تذبح ذبحا وعلى مرأى ومسمع الكل..!!

مدينة تتلفع بالغبار والموت ورائحة الدم تسير بين قطع قلبي المذبوح، وأنا بقلبي أتكئ على مدينة تعتصر الدم والألم وتقف وحدها في معركتها وحيدة وحيدة إلا من ابتسامة طفلها المذبوحة..!!

لكنها تبقى مهما علت الحرب ومهما عانت ويلات الحرب كل أسلحتهم وفجورهم لن يمحو غزة من قلوبنا فأرواحنا باتت تتنفس كرامة وفخر وعزة، وشهداؤنا قوافل ويد التاريخ لن تنسى دم الشهداء، مدينة الدم الطازج تظل شبحا ووجعها وجعنا وحلمها حلمنا وسنبقى ما بقى الزعتر والزيتون..!!


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا