تنوع استهداف الصحافيين والصحافيات في قطاع غزة للحد الذي نالت فيه آلة الغدر الإسرائيلية من الجسم الصحفي وبات مستهدفا فقد قتلت قوات الاحتلال 120 صحفي وصحافية منذ السابع من أكتوبر، نالت منهم ومن أرواحهم فإما أصابتهم قذائف الدبابات رغم وضوح شعار الصحافة على زيهم أو سياراتهم، وإما بصواريخ إسرائيلية أطلقتها الطائرات الإسرائيلية لأجسادهم مباشرة، وإما نالت منهم في بيوتهم مع عائلاتهم قصدا وعمدا، وإما دمرت حياتهم وحياة عائلاتهم وتركتهم بلا حماية ولمستقبل مجهول...!

تنوعت مرارة الفقدان لدى المئات من الصحافيين والصحافيات فقد ينجو بعضهم بينما لم تنج عائلاتهم أو أفراد منهم، وإما دمرت مكاتبهم الإعلامية ومؤسساتهم فمادت بها الأرض وفقدوا معداتهم وأجهزتهم وكاميراتهم، وفي أحيان أخرى تركتهم بلا مأوى ولا بيوت وجعلتهم يفترشون الخيم كباقي الأهالي والنازحين في قطاع غزة، وإما أجبرتهم على أن ينزحوا عن عائلاتهم فلا هم بقادرين على الوصول لعائلاتهم، ولا هم قادرون على ترك واجبهم الوطني والإنساني بإيصال أصوات شعبهم الذي يذبح على مرأى من العالم. 

إنهم يعانون كما أبناء شعبهم إلا أنهم يتحملون المسؤولية ويضعون التغطية الإعلامية في المقام الأول قبل أولويات أسرهم واحتياجاتهم الشخصية لا بل وأمانهم الشخصي لا تلتفت له دولة الاحتلال، بل تستهدف صوتهم ووجودهم فهم من تبقى من فرسان وفارسات في الميدان، ناهيك عن خطاب الكراهية والتحريض المستمر بحقهم والتهديدات التي يتلقونها باستمرار طيلة فترة الحرب على غزة.

الدحدوح جبل فلسطين

عاد لعمله مساء يبث رسالته الإعلامية كي لا يقتل صوت الحقيقة بعد أن دفن زوجته وابنه وابنته وأفراد من عائلته إثر استهدافهم في قصف المنزل الذي أوت إليه عائلته في النصيرات. لم يخطر ببال الدحدوح أن عائلته ملاحقة رغم نزوحها من مدينة غزة، قالها بوجع كلمته الشهيرة "معلش، بينتقموا منا في الولاد"، استشهد من عائلة الدحدوح اثنى عشر فردا في الخامس والعشرين من أكتوبر العام المنصرم، ولم يتوقف الاستهداف لجبل فلسطين، ففي 15 ديسمبر نجا وائل الدحدوح من استهداف مسيرة حربية للاحتلال الإسرائيلي له ولزميله الصحفي المصور سامر أبو دقة "قرب مدرسة فرحانة بخان يونس" التي كانت تأوي النازحين، أصيب وائل بيده وخاصرته واستشهد سامر بعد أن ظل ينزف لأكثر من 6 ساعات متواصلة لم تسمح قوات الاحتلال الإسرائيلي خلالها لأي إسعاف من الاقتراب منه رغم ارتدائه الخوذة والدرع الصحفي حتى استشهد في مكانه!! كما واستشهد ثلاثة من طواقم الإنقاذ أثناء محاولتهم إنقاذ الصحفي الشهيد أبو دقة!

ولم يكتف الاحتلال الإسرائيلي استهدافه لعائلة الصحفي وائل الدحدوح لينال من "حمزة" الابن البكر له فيقتله كأول صحفي يتم استهدافه مع بداية العام 2024 واستشهد معه الصحفي مصطفى ثريا وقد كان اغتيالا مقصودا أيضا وفق رواية الاحتلال فيما بعد.

الشرافي: لا قبور ولا وداع 

مؤمن الشرافي المراسل في قناة الجزيرة يقول "نحن نحرم من النظرة الأخيرة لمن يستشهد من أقاربنا ونحرم من دفنهم" ومعاناة الشرافي لا توصف فقد استشهدت عائلته بعد إلقاء برميل متفجرات من الاحتلال الإسرائيلي على منزل نزحت إليه عائلته والمنازل المجاورة، ما أدى إلى تدمير كافة المنازل المستهدفة بشكل كامل، واستشهد كل من تواجد في هذه المنطقة في جباليا. الشرافي فقد 21 شخصا من أسرته بينهم الأقربون إلى قلبه والده ووالدته وعدد من أشقائه وأقاربه، وحتى الآن لم يتمكن من وداعهم أو دفنهم لأنهم لازالوا تحت الأنقاض حتى الآن...! كيف يمكن لقلب الشرافي أن يحتمل عدم قدرته على إخراج عائلته من تحت الأنقاض وأن يبقوا عالقين تحت الأرض والدمار ولا يتمكن من انتشالهم ولا دفنهم، ورغم ذلك يتصدر الشاشة كل يوم برسائله الإعلامية على مدار الساعة...!

نتابع جميعنا وجه الشرافي الذي يحمل كل آيات الحزن والفقدان وحيدا ورغم ذلك يقف معتدا بنفسه، ويملأ الشاشة ليقول لنا ما تخفيه قوات الاحتلال الإسرائيلي من تفاصيل إبادة لا تكاد تذكر، أصغي جيدا لصوته المرتجف وهو ينقل رواية طفلة نجت بأعجوبة من بركس كانت تتواجد فيه مع أبيها وعائلتها في خان يونس، حيث داست الدبابة على أبيها وأخيها وهم نائمين فتهب فزعا ورعبا من النوم لتهرب وسط الرصاصات الغادرة، ويجدها مؤمن المكلوم ليداوي صوتها ويروي قصتها وصوته يتقطع من الألم عليها وعلى أخيها الصغير. كل غزة أهلك يا مؤمن ورفح وخان يونس تدعو لك بالصلابة والقوة فقد علمتنا معنى القوة والصمود لأجل المكلومين ولنقل صوتهم، فلولا بقاءك وزملائك في الميدان لدفنت غزة وأحيائها وأهلها بصمت كما القبور التي باتت في كل متر حولك!

آيات: حتى الرمق الأخير

آيات خضورة صحفية تسبقها ابتسامتها وحيويتها وهي مقدمة بودكاست قتلت مع عدد من أفراد عائلتها حين استهدفت بيتهم ومنطقتهم قذائف الغدر الإسرائيلية في بيت لاهيا، عاشت أيام قاسية في الحرب وجسدتها بالفيديوهات والريلز وكتبت كثيرا تشعر وأنت تتابعها أنك في قلب الحرب، فأصوات القذائف تغطي على صوتها المنهك، ورغم بشاعة الغارات الإسرائيلية التي تواصلت على منطقتها واستمرار الظروف القاسية التي عانت منها بانقطاع تام للكهرباء وصعوبة الانترنت إلا أنها كانت تصعد لسطح المنزل تحاول أن توصل صوت الحقيقية، وتقول ما لم تقله النشرات الإخبارية، ورغم خوفها الشديد إلا أنها ظلت تواصل نقل رسالتها الإعلامية حتى استشهدت في العشرين من نوفمبر.

قالت خضورة في رسائلها الأخيرة: "رسالتي الأخيرة للعالم"، "اليوم أحلامنا إنه لو استشهدنا، إنه الناس تعرفنا، نستشهد جسد واحد وما نكون أشلاء" لقد تحققت أمنيتك يا آيات فقد استشهدت لكن لا أعرف حتى اللحظة إن كانت آيات قطعة واحدة أم أشلاء...!! ما أقسى الحرب وما أبشع ويلاتها للناجين ولمن ظلوا ليقولوا ما لم يقله الشهداء بعد...!

عاشت سلام تحت الأنقاض

ظلت الصحفية سلام ميمة تحت أنقاض بيتها الذي تعرض للقصف في مخيم جباليا في غارة إسرائيلية بشعة انهارت البناية عليهم في العاشر من أكتوبر، ظلت سلام على قيد الحياة مع أطفالها أحياء يناجون من ينقذهم ويصرخون مضت أربع وعشرين ساعة، ظل والد سلام يتصل على رقم ابنته غير مصدق أنها استشهدت ليجيبه رقمها ويسمع أنينها، يركض للدفاع المدني ليجد الجيران يتصايحون بأنهم يسمعون صوت أحياء، جاهد الجميع ليصنعوا فتحة ويتمكنوا من إخراج ابنها الطفل "علي" المصاب ذي الثماني سنوات، إلا أن الفتحة كانت صغيرة لم يتمكنوا من إخراجها منها أيضا، وغاب صوت أنينها وباقي أطفالها، ثلاثة أيام متواصلة ولانعدام المعدات الثقيلة لإزالة الردم وأنقاض البيت عن اللحم الذي كان حيا، ولقلة حيلة الدفاع المدني والإسعاف لم يعد أمامهم إلا الحفر في الحجارة الأسمنتية بأيديهم، صوتها وباقي أطفالها يغيب رويدا رويدا ثلاثة ليال ونهار يتلو نهار، حتى خبا صوت الحياة وقتلت سلام وطفليها وزوجها، فأي قتل هذا الذي تريده قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأي جرائم هذه التي تمارس في العلن وأمام الجميع، وتستمر حتى تتجاوز المئة يوم من عدوانها وتستمر باستهداف الصحافة الفلسطينية لقتل الصوت.

هبة صوت حر آخر يباد

"دعواتكم الصادقة لنا الزميلات العزيزات.. أنا وأهلي ومعنا 5 عائلات حوالي 30 سيدة و10 أطفال و20 شابًا ورجلًا موجودين في منطقة السطر الغربي شارع 5 والدبابات تحيط بنا.. ندعو الله السلامة لنا جميعاً ونُحملكم أن تنقلوا صوتنا في حال كتب الله لنا الشهادة". قبل استشهاد الصحافية هبة دّونت هذه الكلمات تناشد بإنقاذها ونحو 60 فردا من عائلتها، بعد أن حاصرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي. هبة كانت صحافية جسورة عملت في إذاعة جامعة الأزهر وكانت من أقوى الشابات في دوري مناظرات فلسطين، عاشت هذه التجربة المريعة التي فقدت فيها أعز من تملك وفقدت حياتها بعد أن سكت العالم عن إبادتنا في غزة، فبتنا نقف مشدوهين طويلا من طرق الموت القهرية التي تتكرر وتستمر في أرواح وأجساد من نحب...!

قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزل أخوالها الذين لجأت إليه من عائلة الأسطل حيث ارتقت هبة العبادلة وابنتها جودي ووالدتها رويدة الأسطل وأخوالها عائلة الأسطل وكانوا حوالي 59 شهيدًا في مذبحة مروعة كيف عاشت هبة هذه الأيام واللحظات الأخيرة للمجزرة كيف لقلبها أن يبقى يقظا وخوفها على ابنتها التي في حضنها وأمها التي تستند على كتفها، كيف يمكن أن تقتل الفراشات في ذات الدقيقة تحصد أرواحهم كأنهم لم يكونوا هنا ولم تكن ضحكاتهم تصدح...! قتلت هبة وعائلتها وأقاربها في التاسع من يناير للعام الجديد وكأنها تأبى أن تكمل مسلسل الإبادة الجماعية فكانت أحد المذبوحين وصوتها وقلمها وروحها وعائلتها...!

بيت للصحافة وأمل لازال نازفا

الصحفي القدير بلال جاد الله المدير العام لبيت الصحافة والذي ساهم في انشاء وكالة سوا الإخبارية، جمع الكل الفلسطيني الصحفي وكان بيت الصحافة بيتا لكل الصحافيين ساهم خلال سنوات طويلة على تعزيز الشراكة مع العديد من الأطر لما يخدم الصالح الصحفي وقوانين حماية الصحافيين، وتطوير الجيل الشاب من الصحافيين والصحافيات، الصديق الجميل بلال كان بيته مفتوحا للجميع، استهدفته ضربة إسرائيلية أثناء نزوحه من غزة على الجنوب وهو يقود سيارته التي يتضح عليها شعار الصحافة Press لكن لم يعد هنالك أي حصانة للصحفي في غزة، فكل روح مستهدفة في قطاع غزة. استشهد في 19 من نوفمبر ليرحل وقد ترك قلوبنا دامية غير مصدقة لكل هذا الحقد الإسرائيلي.

نور وتضحية من نوع آخر

الصحافية الجسورة نور الحرازين فجعت عدة مرات في أثناء تغطيتها الصحفية باستشهاد صديقتها وآخرين تعرفهم، بكت كثيرا وتوجعت ثم عادت لتنهض من جديد وتغطي رسائلها الاعلامية باللغة الإنجليزية ولا تتوقف عن نشر الحقائق وفضح الجرائم الإسرائيلية المتواصلة على أهلنا في غزة، نور الأم اضطرت إلى وداع طفليها وزوجها ليسافروا خارج غزة عل الأمن والأمان يكون حليفهم، وعلهم يحظون بطعام وشراب ونوم هانئ، ودعتهم على معبر رفح وعادت باكية لتقول عدت إلى عملي وحدي، فالعمل الصحفي يحتاج صوت الأحرار، عادت نور أيضا لتبقى مع والدها ووالدتها وهي راضية رغم الألم الذي أصابها لابتعاد عائلتها الصغيرة عنها لكنها كقنديل يضيئ للآخرين طريقهم وهي تواجه معاناة أخرى بفعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، نور اسم على مسمى حانية قوية منيرة ومشرقة، قد تعود لها ابتسامتها حال أن تنتهي الحرب البشعة.

فارسات وفرسان الحقيقة الفلسطينية

لم تهدأ الحرب بعد، لم تسمح للصحافيين والصحافيات أن ينفضوا ألمهم وأن يعرفوا حجم ما أصابهم وعائلاتهم وبيوتهم وأعمالهم، لم تسكن الحرب للحظة ولم يتفقدوا إلا أيديهم ووجوههم وأجسادهم المليئة بالغبار والألم والسهاد، يركضون للحصول على الانترنت، ويركضون في ساعة موازية للحصول على رغيف الخبز وشربة الماء لفلذات أكبادهم، وفي الكثير من الأحيان يتركون عائلاتهم لمصائرهم فهم في مكان بعيدا عن عائلاتهم، كم قاسية هذه الحرب تفرقهم وهم في مساحة تعد بالكيلو مترات، فلا ترى الصحافيات أطفالهن لأيام طويلة تمتد لأشهر، وبعضهن جلبن أبناءهن إلى مكان العمل ليقمن ببث رسائلهن الإعلامية بينما يتشبث بهن أطفالهن، ويجلسون أرضا يحتضون أقدامهن علهم يشعرون بالأمان ولو لحين، كم من صحافي وصحافية لم يلتقط أنفاسه ويغفو في سيارة البث مقتطعين بعض السكينة في وقت باتت الأرض تتفجر في كل لحظة أمامهم وخلفهم وبينهم، يكافحون لإيصال الصوت الحر صوت الإبادة وصوت الناجين، يكافحون لإيصال الحقيقة التي تجتهد قوات الاحتلال لطمسها ودفنها مع ضحايا الحرب التي تزيد الآن عن 26 ألف شهيد، وأكثر من ستين ألف جريح ؟!!

عشرات بل مئات من الصحافيين والصحافيات كل له قصته معاناته، روايته، كل تعرض للنزوح الإجباري وللقتل وللفقدان ولفقدان البيت والأمان، كلهم مكلومون لكنهم باقون كما شجرة الزيتون يواصلون اضاءة قنديل الزيت ليبقى النور مشتعلا يقدمون وجع الناس على وجعهم ويقدمون الحقيقة ونقل الصوت الحر على آلامهم ومآسيهم، يبقون رغم كل التهديدات والتحريض ويواصلون نقل رسالتهم الإعلامية لأجل أبناء وطنهم. لن يكفي مقال واحد لتوصيف الهم الإعلامي ولن تكفي عدة مقالات، لكنهم يبقون ويبقين فارسات وفرسان الحقيقة الفلسطينية الناصعة في وقت خرست فيه أصوات كثيرة!


(استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م