شركة ميتا: كيل بمكياليْن
كانت للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة التي انطلقت في تشرين الأوّل من العام المنصرم آثارٌ مدمّرة على الصعيد الإنساني والعمراني والاقتصادي والاجتماعي، وأيضًا على الصعيد الرقمي الافتراضي. فقد تأثرت الحقوق الرقمية للفلسطينيين على العموم، ولسكان قطاع غزّة على وجه الخصوص، بشكلٍ سلبي وغير مسبوق. ولعلّ أبرز التحديات الرقمية تمثّلت بانقطاع الإنترنت المتعمّد، والرقابة المكثّفة على السكان خلال الحرب، وأيضًا انحسار سبل تحويل الأموال بشكلٍ رقمي، ناهيك عن الرقابة المفرطة للمحتوى العربي للمستخدمين الفلسطينيين والمناصرين لحقوقهم حول العالم من قبل المنصات المختلفة، ومن ناحية أخرى استشراء الخطابات العنيفة وخطابات الكراهية ضدّهم على منصات التواصل الاجتماعي.
على الرغم من غياب إدارة متناسبة للمحتوى العربي عن سياسات وإجراءات شركات منصات التواصل المختلفة، إلّا أنّ شركة ميتا؛ بمنصاتها فيسبوك وإنستغرام، تشكّل نموذجًا خاصًا بهذا الصدد. ويعود ذلك لحجمها، وعدد مستخدميها حول العالم وفي البلاد، وأيضًا بسبب إمكانياتها وقدرتها على التأثير، وادعائها الالتزام شكليًا، على الأقل، بحقوق الإنسان.
فكيف بدأت القصة؟ ولماذا تقيّد شركة ميتا المحتوى الفلسطيني بشكلٍ غير متناسب وغير عادل؟ وكيف يتم ذلك؟
إدارة المحتوى العنيف
لدى شركة ميتا الإمكانيات والموارد البشرية والماديّة والتكنولوجيّة التي تمكّنها من ضبط ما يتم نشره على منصاتها باللغات المختلفة من خلال آليات "إدارة المحتوى"، سواء بشريًا أو باستخدام نماذج لغوية تقوم على الذكاء الاصطناعي ويمكنها تقييم كل محتوى ينشر واتخاذ إجراء بالإزالة أو معاقبة الحسابات والصفحات بشكلٍ آلي. وتستند هذه الإجراءات العقابية على سياسات ومعايير مجتمع كل منصة من المنصات.
طوّرت شركة ميتا عددًا من السياسات النافذة لحماية الفضاء الخاص بمنصاتها من المحتوى العنيف وخطابات الكراهية، أبرزها سياسة "العنف والتحريض"، و"المنظمات الخطرة والأفراد الخطرون"، و"الخطاب الذي يحض على الكراهية". من المفترض أنّ تمنّع أي دعوات أو تهديدات بالعنف أو تعليم صناعة المتفجرات مثلًا وغيرها. في حين أنّ سياسة خطابات الكراهية تمنع انتشار محتوى يستهدف أفرادًا ومجموعات على أساس سمات متأصلة، أو خطابات تجرّد الأشخاص من إنسانيتهم أو تدعم العنف، وتمنع السياسة السخرية من الضحايا، أو أيّ تعبيرات دونية أو دعوات للكراهية. أما سياسة المنظمات والأفراد الخطرين، فتمنع أي محتوى يمجّد هذه المنظمات أو الأفراد أو يدعمها ويدعم أفعالها، وتستند هذه السياسة إلى قوائم الولايات المتحدة الخاصة بالإرهاب.
يُفترض أن تنطبق هذه السياسات على كافة اللغات بشكل متناسب، إلّا أنّ شركة ميتا استثمرت على مدار الأعوام المنصرمة بشكلٍ كبير باللغة العربية لا سيّما في إدارة المحتوى والرواية حول القضية الفلسطينية، وفي المقابل لم تستثمر الموارد والجهود اللازمة لإدارة اللغة العبرية. وعلى الرغم من إعلان ميتا التزامها بتطوير مصنف لغوي خاص باللغة العبرية من أجل إدارة المحتوى العنيف، إلّا أنّها لا زالت لم تطوّر مصنفًا مكتملًا قابلًا للتطبيق.
ولذلك، فإنّ الشركة تطبقّ هذه السياسات بشكلٍ مفرط وغير متناسب على المحتوى العربيّ، في حين تدير بالحد الأدنى المحتوى العنيف باللغة العبرية وتسمح بانتشاره على نطاقٍ واسع. ونتيجةً لذلك، على سبيل المثال، تزيل وتقيد محتوى وصفحات تعود لوسائل إعلام فلسطينية، بل ربما معظم وسائل الإعلام الفلسطينية، أو وسائل إعلام عالمية تغطي المظلومية الفلسطينية تغطية إخبارية دون انتهاك لهذه السياسات، وعلى الرغم من أنّ وسائل الإعلام تحظى بالقدرة على تغطية الأخبار باستخدام مفردات أو الإشارة إلى حركات سياسية أو رموز وقيادات، حتى لو كانت ضمن القوائم المصنفة بالإرهاب، باعتبار وسائل الإعلام تنشر تحديثات إخبارية ولا تنضوي على تمجيد أو تمثيل ودعم، وفقًا لمعايير مجتمع منصات فيسبوك وإنستغرام.
وقد أجرى مركز "حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" تجربة على منصّة فيسبوك، حيث جدول للنشر والترويج المدفوع منشورين عنيفين يدعوان للقتل، أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة العبرية، وفي حين تمت الموافقة على المنشور العبري، تم رفض المنشور العربي لمخالفة معايير مجتمع فيسبوك. تظهر التجربة بعمق الفجوة في تطبيق سياسات ميتا بعدالة ومساواة على اللغتين، وبالتالي تقصير الشركة في حماية المستخدمين الفلسطينيين.
أحداث أيّار 2021
كانت أحداث أيّار 2021 لربما الحدث الأبرز الذي أظهر مدى الانعدام الصارخ للعدالة في إدارة منصات ميتا للمحتوى العربي لا سيّما على صعيد الخطاب السياسي الخاص بالقضية الفلسطينية. ففي ذلك العام، لجأ سكان حي الشيخ جرّاح المهددون بالتهجير إلى منصات التواصل الاجتماعي من أجل النشر حول ممارسات جيش الاحتلال ونقد سياساته وإظهار فداحة القمع لأي ممارسات احتجاجية فلسطينية.
ولأول مرّة بهذا المستوى، انضم نشطاء منصات التواصل الاجتماعي حول العالم للنشر حول القضية الفلسطينية، ومحاولات تهجير سكان حي الشيخ جرّاح في مدينة القدس، وظهر بوضوح تأثير وأهمية منصات التواصل الاجتماعي والنشاط الرقمي في الدفاع عن حقوق الإنسان ولا سيّما حقوق الشعب الفلسطيني. إلّا أنّ شركات منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيّما منصات شركة ميتا، سارعت إلى سياسات وممارسات هدفت إلى الحد من انتشار المحتوى الداعم للحقوق الفلسطينية من خلال إجراءات تمثّلت بحذف وإزالة وتقييد وتقليل وصولية إلى هذا النوع من المحتوى سواء باللغة العربية أو الإنجليزية.
خلال 12 يومًا، وثّق مركز "حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" أكثر من 500 انتهاك إزالة وتقييد بحق المحتوى الداعم للحقوق الفلسطينية، 85% من هذه الإجراءات بحقّ المحتوى كانت على منصات إنستغرام وفيسبوك، منصات شركة ميتا. وفي الوقت ذاته، لم تكن استجابة شركة ميتا لطلبات مركز حملة بإعادة المحتوى وإزالة القيود في قسم كبير من الحالات إيجابية، وفشلت الشركة في توضيح الأسباب. ولا يعني ذلك أنّ السياسات لم تكن تمييزية قبل ذلك، لكن غياب العدالة في إدارة المحتوى ومستوى القمع ظهر وبرز بشكلٍ غير مسبوق خلال الأحداث.
وعلى إثر ذلك أوصى مجلس الإشراف حول إدارة محتوى منصات ميتا، إثر ضغط مؤسسات حقوقية، على إجراء تحقيق عناية واجبة حول إدارة المحتوى الفلسطيني/الإسرائيلي خلال الأحداث. وافقت ميتا على التوصية وأوكلت المنظمة من أجل المسؤولية الاجتماعية (BSR) مهمة إجراء العناية الواجبة، الذي جاءت نتائجه بشكلٍ متماثل مع ما تقوله منظمات حقوقية تعنى بالحقوق الرقمية حول التمييز ضد المحتوى الفلسطيني، ونصّت النتائج على أنّ شركة ميتا تدير المحتوى العربي بشكلٍ مفرط في حين لا تدير المحتوى العبري بشكلٍ كافٍ. وبذلك فإنّها تسمح بانتشار العنف والكراهية ضد الفلسطينيين باللغة العبرية، في حين لا تسمح بحرّية التعبير للضحايا الفلسطينيين.
حرب أكتوبر على قطاع غزّة
لا زالت شركة ميتا تميّز ضد المحتوى العربي على الرغم من دعوات منظمات حقوقية على مدار أعوام لتغيير السياسات، وعلى الرغم من اعتراف ميتا بنتائج تقرير العناية الواجبة، وتبنيها لتوصيات المنظمة من أجل المسؤولية الاجتماعية. وتبيّن ذلك بشكلٍ صارخ مرّةً أخرى خلال عام 2023 ولا سيّما في الشهور الأخيرة عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة.
فقد وثّق مركز "حملة - المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي" من خلال المرصد الفلسطيني لانتهاكات الحقوق الرقمية "حُر" 4400 انتهاك بحق الحقوق الرقمية الفلسطينية خلال عام 2023، غالبيتها خلال فترة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر حتى نهاية العام. بلغت حصّة ميتا من الانتهاكات الرقمية 2675 انتهاكًا، أي حوالي 61% من مجمل انتهاكات منصات التواصل الاجتماعي للحقوق الرقمية الفلسطينية، سواء أكان ذلك تقييدًا وحذف محتوى/حسابات أو انتشار خطابات عنف وكراهية باللغة العبرية دون إجراءات حقيقية من الشركة لحماية مستخدميها الفلسطينيين والمناصرين للحقوق الفلسطينية.
ويعزى ذلك إلى الإجراءات والسياسات القائمة للشركة فيما يتعلّق بإدارة المحتوى باللغة العربية، وغياب هكذا سياسات وإجراءات خاصة بخطابات العنف باللغة العبرية، ومجموعة أخرى من الأسباب سنوضحها في القسم التالي، وأيضًا إلى مجموعة الإجراءات الخاصة التي اتخذتها الشركة في سياق الحرب.
عقب اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، اتخذت الشركة مجموعة إجراءات تدعي أنّها تهدف إلى حماية المستخدمين لمنصاتها وأيضًا لتخفيف حدّة التوتر والصراع وإذكائه رقميًا. إلّا أنّ كثيرًا من هذه الإجراءات أفضت إلى قمع أصوات الضحايا بدلًا من إبرازها.
ومن أبرز الإجراءات التي حدّت من انتشار المحتوى حول فلسطين، تغيير الإعدادات الافتراضية للتعليقات بحيث يمنع أي متابع جديد لحساب ما من التعليق إلّا إذا كان على قائمة الأصدقاء أو متابع لمدة تزيد عن 24 ساعة. وأيضًا استبدال خاصية المشاركة على المحتوى بزر إرسال رسالة للتخفيف من المشاركات، وأيضًا غيّرت الشركة إعدادات الظهور الافتراضية للمحتوى من عام إلى "الأصدقاء" فقطـ وخفض الحد الأدنى للثقة بالمحتوى الذي قد يصنف على أنّه عنيف من 80% إلى 25%، بمعنى أنّ أي محتوى يشك المصنّف اللغوي بأنّه عنيف بنسبة 25% ستتم إزالته، وفي هذا السياق أزيل محتوى عربي بشكلٍ غير مسبوق. أدى مجمل هذه السياسات وغيرها إلى تقليل الوصولية إلى المحتوى على نحوٍ واسع، وهو ما يسمى حظر الظل shadowbanning.
ساهمت هذه الإجراءات في الحد من وصولية المحتوى الفلسطيني، وأيضًا قدرة الضحايا على إعلاء أصواتهم والكشف عما يتعرضون له خلال الحرب باستخدام منصات ميتا الأوسع استخدامًا ونشاطًا بين المستخدمين الفلسطينيين.
أسباب التمييز: خصوصية الحالة الفلسطينية
تعود خصوصية الحالة الفلسطينية إلى وجود احتلال يجمع المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة على ضرورة إنهائه. يقوم الاحتلال للأرض الفلسطينية المحتلة على العنف في إخضاع الشعب والأرض الفلسطينية المحتلة، وهو ما يولد احتجاجات ومقاومة وردود فعل تخفو وتعلو بين الحين والآخر. وكلما اندلعت حرب أو احتجاجات واسعة، يصاحبها قمع إسرائيلي عنيف، كما في أحداث الشيخ جرّاح عام 2021 أو الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزّة منذ نهاية عام 2023، يلجأ الفلسطينيون والمناصرون للحقوق الفلسطينية إلى منصات التواصل الاجتماعي لكشف جرائم الاحتلال وتوصيل رسالتهم وروايتهم للأحداث للعالم.
شركة ميتا هي شركة أمريكية، وتخضع للقوانين الأمريكية في إطار عملياتها حول العالم، في الوقت الذي تعادي به الإدارات الأمريكية المتعاقبة والنظام القانوني الأمريكي الأحزاب السياسية الفلسطينية وتصنفها على أنها وأيضًا رموز وقيادات فلسطينية كثيرة إرهابية، تلتزم ميتا بهذه القوائم الخاصة بالإرهاب، وتحظر التعبير عن تمجيد أو دعم هذه الرموز والأحزاب الفلسطينية. وينعكس الدعم الأمريكي اللامحدود للسياسات الإسرائيلية من خلال حظر الشركة المضامين الناقدة للسياسات الإسرائيلية وصرخات الألم والمعاناة الفلسطينية جرّاء هذه السياسات. ويبرز ذلك من خلال دمج كثير من المفردات وأسماء الأحزاب وشخصيات سياسية فلسطينية في نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية المستخدمة في إدارة المحتوى باللغة العربية. وبالتالي فإنّ السياسات وإدارة المحتوى لا تدار بشكلٍ عادل وتطبق بشكلٍ انتقائي على اللغة العربية دون اللغة العبرية.
مثلًا أظهرت تسريبات سابقة لقسم من قوائم المفردات والأسماء المحظورة على منصات ميتا أنّ غالبية هذه المفردات والأسماء تعود إلى مفردات عربية وشخصيات وأسماء فلسطينية ذات بعد سياسي لا يسمح بتداولها على منصات التواصل الاجتماعي بحجّة الإرهاب، في حين شملت القائمة فقط اليميني المتطرف بنتسي جوفشتين ومنظمة لاهفا التي ينتمي إليها.
سبب آخر يتمثّل في الضغوط السياسية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية على شركات منصات التواصل الاجتماعي من أجل كبح المحتوى الفلسطيني بحجّة دعمه للإرهاب والعنف ضد الإسرائيليين، وذلك من خلال تواصل مسؤولين إسرائيليين بشكلٍ مباشر مع الشركات، وأيضًا وجود مكتب للشركة في إسرائيل مقابل وجود مكتب واحد في دولة عربية واحدة وهي الإمارات بشكلٍ غير متناسب مع عدد السكان والمستخدمين. وتتماشى مع ذلك الطلبات العينية المتواصلة التي تقدمها وحدة السايبر الإسرائيلية التابعة لوزارة القضاء الإسرائيلية لهذه المنصات من أجل إزالة محتويات وحسابات فلسطينية أو داعمة للحقوق الفلسطينية. وتقول سلطات الاحتلال إنّ الشركات عادةً ما تستجيب لهذه الطلبات وتزيل الغالبية العظمى من هذه المضامين التي يتم التبليغ عنها.
وفي هذا السياق، ثمّة مجموعات إسرائيلية غير رسمية، وأيضًا منظمات يمينية، تعمل على مراقبة النشطاء والناشطات ووسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم إمّا بالتواصل مع الشركات والضغط عليها من أجل إزالة المحتوى الفلسطيني أو تنظم حملات تبليغ مكثفة وجماعية ضد محتوى أو صفحة ما لإزالتها. وكشف أيضًا مؤخرًا عن تشكيل مجموعة إسرائيلية طوعيّة تعمل على استغلال علاقات شخصية مباشرة مع موظفين لدى المنصات المختلفة وتبلغ عن محتوى عيني بشكلٍ مباشر من أجل إزالته.
ويساعد غياب إرادة شركة ميتا لفهم السياق السياسي والثقافي الفلسطيني، واللهجة الفلسطينية المحلية، أو أخذ سياق الاحتلال، وحقوق الضحايا، بعين الاعتبار كما تم أخذه بعين الاعتبار في سياق الحرب الروسية-الأوكرانية. إذ سُمح للشعب الأوكراني باستخدام عبارات محظورة عن المنصة من بين إجراءات أخرى، من أجل إتاحة مساحة للتعبير عن روايته للحرب، بحكم كونه يتعرض لحرب غير قانونية.
خاتمة
أثبتت الأعوام المنصرمة بشكلٍ لا يدع مجالًا للشك أنّ شركة ميتا لا تأخذ الحقوق الفلسطينية والأصوات الفلسطينية بعين الاعتبار عند صوغ وتنفيذ سياساتها وإجراءاتها في إدارة المحتوى على منصاتها المختلفة. فعلى الرغم من اعتراف ميتا بوجود عدم توازن وغياب العدالة في إدارة المحتوى العربي والعبري، إلا أنّها لم تظهر حتى الآن، كما تثبت إجراءاتها وانتهاكاتها، الإرادة الكافية للتغلب على الضغوط السياسية من أجل إدارة أكثر عدالة للمحتوى الفلسطيني.