غزة علبة السردين ورفاهية السياحة!
في عام 2012 كنت قد حصلت على تصريح يخول لي وفقا لاشتراطات الاحتلال الإسرائيلي الانتقال عدة أيام، وساعات مشروطة للانتقال من غزة إلى رام الله، ولسبب معلوم هو الحصول على تدريب متخصص وعبر مؤسسة دولية، كنت قد حرمت من الحصول على تصريح رغم العديد من المحاولات لأكثر من 15 عاما في ذلك الوقت لم أعرف طعما للنوم فقد كانت أمنية وحلم كل غزاوي أن يزور باقي مدن فلسطين، أي بلاده المحتلة والمغتصبة منذ الـ 48، يزورها ليس من منطلق السفر والسياحة كمفهوم متعارف عليه ضمن تكاملية حقوق الانسان واحتياجاته المشروعة بالتنقل والسفر بل يزورها من منطلق أنها جزء من بلده، ومدن بلاده، يزورها ليس رفاهية بل حقا أساسيا في التنقل في أرجاء فلسطين، لكن فلسطين الكبيرة محتلة، ويفرض المحتل ممارساته البغيضة حتى في فكرة السياحة الداخلية ليجعلها حلم صعب المنال للغزيين..!
كان الأمر أشبه بحلم حقيقي فقد عايشت ارتجافه جسدي ودقات قلبي العنيفة حين أصبحت في قلب القدس، نعم إنها القدس التي رأيت صورها مرارا وتكرارا، وكانت صورتها هي واجهة جهاز اللاب توب كل يوم صباحا مساء أتغزل بأميرة فلسطين، هأنذا أخيرا في حضرتها..
وقفت طويلا في باب العامود، إنها 15 عاما من الحرمان لرائحة بلادي، رأيت كم سهل على الأجانب ذوي الجنسيات المختلفة والوفود أن يزوروا بلادنا التي نحرم من زيارتها، يتوجهون للكنائس والمسجد الأقصى والأديرة وسائر أنحاء البلاد يافا عروس البحر، وحيفا والناصرة والجليل، ونحن بالكاد أهل البلاد توقفنا الحواجز المنتشرة في أنحاء البلاد لتمنع مرورنا الآمن إليها، فحتى حلم التصاريح هو حلم مشروط بأماكن محددة وأيام معدودة وساعات محسوبة لا تتجاوز السابعة مساء، عليك أن تكون حذرا بأن تتلقفك حواجز الاحتلال وقد تتعرض لاعتقال فقط لأنك من غزة، وغير مسموح لك التواجد بحرية مطلقة، الأمر ليس بعيدا عمن يقطنون في نابلس وجنين والخليل فأيضا لديهم تصاريح، لكن لكل منطقة لون تصريح مختلف، فالتصريح الغزي أزرق على سبيل القهر رغم أن البحر أزرق والسماء زرقاء وأرض الله واسعة إلا لدى الغزاوي ..!
في القدس تركت قلبي متأرجحا بين شوق سنوات طويلة وبيني أنا.. تلك الصغيرة التي كانت تتعلق بكل رحلات يوم الجمعة للأهل في غزة ولم تكن تصلي حينها لكنها لم تترك مساءا إلا أعدت عدتها لتفاجئ أمها وأبيها بأنها مستيقظة في الرابعة صباحا وقد ارتدت أبهى حلتها.. تمشى في طرقات المخيم، والناس نيام لتصل حيث نقطة تجمع لمن قام بالتسجيل لرحلات القدس.. للصلاة ربما.. للعشق ربما.. كانت تلتصق بهم وهم يصعدون الحافلات، تطمئنها أحضان أمها وقبلاتها.. نامي يا صغيرة لازال الوقت طويلا لازال الوقت مبكرا لتري القدس.. لكن جافاها النوم خشية أن يتركوها مرة أخرى بالمخيم وتبكي وتظل تبكي.. خافت أن تبكي لذا بقيت مسهدة العينين حتى يغلبها النعاس.. بين جبلين تدير رأسها بقوة لترى كل التفاصيل الصغيرة وتبقى محفورة للأبد وكأن اللاوعي يدرك كم القدرة على الوصول للقدس أمرا عسيرا وصعبا ومستحيلا في أغلب الأحيان ... أذناها تطن كثيرا تقف.. تجلس.. تلتصق بنافذة الحافلة.. همسات حولها تعبر عما في قلبها الصغير.. هناك في المسجد الأقصى يصلون، ويتركون خلفهم هموم المخيم وقلوبهم المكلومة.. يقفون صفا للصلاة وقد اختلطت يافا بحيفا بالرملة والفالوجة وغزة.. تركوا خلفهم حياتهم وجاؤوا زائرين.. لكن زائرين لبلدهم على ما يبدو كان وقتا للرفاهية غير المفهومة أبدا إلا لنا نحن المحرومون من زيارة مقدسات بلدنا فلسطين...!!
بعد أكثر من 15 عاما وقفت كسائحة في بلدي.. علقت في الذاكرة أنسام بلادي.. هأنذا أقف وأنا شابة سائحة في ربوع بلادي مذهولة...! أحدق في الهواء.. في الأرض.. في جدران المسجد.. قبة الصخرة، كنيسة القيامة ومسجد عمر، البلدة القديمة، أبواب القدس العملاقة...! أعتلي حيث مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم.. توقف قلبي عن النبض حيث رأيت إحدى النساء تبكي بقهر فوجئت أنها من غزة أيضا ولم تر القدس منذ طفولتها ورفيقتها مثلها إذ جاءت كمرافقة أختها المريضة وجاءت لتصلي.. كانت تبكي تريد صورة واحدة كي تصدق لاحقا أنها زارت المكان.. وأخرى لم تأت منذ 7 سنوات رغم أنها تقطن في جنين، وأمل لا يمكنها المحاولة فأهل الضفة الغربية بحاجة لتصريح لزيارة القدس.. والنساء قلوبهن تنزف قهرا فقد رحلت طفولتهن وذاكرة لا تنمحي بعبق بلادهن.. والآن يحدثن أطفالهن عن القدس وباب العامود وعن الحب في شوارع تتألم وتئن تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي..
"جواهر" لم تطأ قدماها أرض القدس إلا بعد 40 عاما من الحرمان.. وقفت متسمرة الأقدام حين دخلنا للصلاة في ذلك الوقت.. ظلت تحدق في كل ما حولها دون أي مشاعر، ثم بعد برهة انفجرت باكية فقد كان حلمها يتحقق وهي لازالت مذهولة لا تصدق...!! ما أقسى أن تعيش الحلم ولا تصدق أنه حقيقة!! جسدي يقشعر مرارا كلما تذكرت تلك اللحظات إنها لحظات قاهرة تذكرني دوما بسوط الاحتلال الدامي الذي ينخر أرواحنا قبل أجسادنا، يتحكم حتى في حلمنا ودقات قلبنا.!! زخرفات الجدران والأسقف تتربع في كينونتي، ما أن أغمض عيناي حتى تتألق في مخيلتي تلك الأيام البعيدة.!! الدفء والسكينة والحب والإيمان يلفني.. أغمض عيناي كلما اشتقت لعبق المدينة المقدسة، أستطيع أن أجول الأسواق وأبحث عن الخبز ذي النكهة المميزة في باب العامود، أجول في وجوه النساء والرجال الصامدون هناك دون تصريح ودون حواجز ودون أذونات...!! لكنه يبقى حلما ما أن أفتح عيناي حتى تتربع المكيدة الإسرائيلية أمام ناظري وناظر جيل بأكمله ...!!
جيل تحت الحصار لازال عالقا في سجن كبير
غزة وما أدراك ما غزة...! الحصار ينهش كبدها، ويمضغ سنوات شبابها على مهل، حصار ينال من عمرها 18 عاما من الحصار البري والبحري والجوي على سكان قطاع غزة، يزيد من الفقر والبطالة ويفاقم العنف المجتمعي، يغذي التناقضات ويمتص طاقات شبابها وشاباتها، يزيد الحواجز الثقافية والفكرية، ويمعن الضغط على قلوب نسائها ورجالها وأطفالها...!
في إحدى السنوات القريبة أي قبل ثلاثة أعوام قررت أن أسافر وعائلتي الصغيرة إلى تركيا لسببين الأول أن نتنفس ونعيد تجديد طاقتنا وقدرتنا على الاستمرار في حياة قاسية وظروف بالغة التعقيد وبعد عدوان إسرائيلي غادر نال منا ومن صحتنا وسلامنا الداخلي، والسبب الأهم أن أولادي كبروا في ظل انعدام القدرة على الحرية في السفر، وكي لا أسمع ما سمعته من الكثير من الشباب والشابات بجيل العشرينات والثلاثينات في الكثير من التدريبات أو اللقاءات التي كنت فيها على تماس معهم وكانت الجملة تقتلني حقا " نفسي أركب طيارة" قال أحدهم ذات يوم، وقال آخر "عمري ما سافرت ولا بأعرف كيف شكل الناس لبسهم طريقة حياتهم خارج غزة سواء بفلسطين أو برة فلسطين" وقالت أخرى:" انولدت وعشت بغزة، بأشوف كثير أشياء على النت لكن ما بأتخيل كيف هي معقول أقدر أسافر"
الحقيقة أني وعائلتي لم نكن محظوظين بشكل كبير جدا إذ اضطررنا أن نسجل للسفر قبل عدة أشهر تتجاوز الأربعة، وكادت تنتهي اجازاتنا من العمل قبل أن يخرج اسمنا على كشوفات المعبر المصري، فهنالك وقت معين وساعة معينة ولا يعرف المسافر أنه سيسافر إلا قبل بساعات فقط من سفره، لذلك كان بيتنا عبارة عن حقائب مفتوحة البطن في قلب الصالون على مدار شهر على الأقل ونحن ننتظر، وأمر مضحك ومبكي أيضا أنه قد يتصل بك نصف معارفك ليخبروك أن اسمك قد أعلن في الكشوفات عبر الانترنت، وأنت ذاتك لم تعلم بعد، فلا خصوصية لأحد فالفضاء العام يعرف أكثر منك عنك..!
التقيت أحد الأصدقاء في تركيا وقال لي معبرا عن فرحته من صعود الطائرة أخيرا في عمر بات في منتصف الثلاثينات، "أول ما ركبت الطيارة ما غمضت عيوني لحد ما وصلت كل لحظة وثقتها وأنا مش مصدق، وبعدها وعلى مدار شهرين أي مكان بدي أنتقل له بتركيا إذا متاح فيه الطيران بأحجز طيران علشان أشبع حرماني الطويل سنوات كثيرة من فكرة التحليق في السما، وأنه أنا صرت حر." صديقي محظوظ بعد سنوات حرمان طويلة لكن هنالك جيل كامل لازال يرزح تحت الحصار، لازال لا يعرف إلا صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تنكل به وبأبناء بلده، ولا يعرف إلا الطائرات التي تقذف الصواريخ على اللحم البشري الحي والبيوت الآمنة، فكيف سيسمح هؤلاء لأراوحهم أن تحلق، ما هي ضمانة التحليق في السماء؟ ما أدرانا أن طائرات إسرائيلية ملعونة ستكون لنا بالمرصاد...!
لقد تجاوزت تبعات الحصار الإسرائيلي الانسان وتقييده وشل حركته ووضعه في علبة سردين بالكاد يتمكن من العيش بداخلها إلى المساس البالغ في جميع القطاعات الإنسانية والاقتصادية، وأدت إلى أضرار طويلة الأمد ما يتطلب التعافي منها وقتا طويلا، إن خروج الأفراد من غزة يقتصر بشكل أساسي على الحالات الإنسانية التي تحصل على تصاريح المرور بعد فحص أمني مطول، هذا الحصار امتد منذ العام 2006 ولازال متواصلا تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي المتعامي عن حقوق الإنسان الفلسطيني في قطاع غزة، وفي كل أنحاء فلسطين.
السياحة لا يعترف بها رجل الأمن
في رحلة عودتنا من تركيا أوقفنا أحد أفراد الأمن الفلسطيني على معبر رفح، وسألني أين كنتم فأجبت: في تركيا، فسأل مجددا لماذا؟ فابتسمت قائلة: سياحة، فقال مستغربا كيف يعني سياحة؟ فأعدت الإجابة بنفاذ صبر: ذهبنا سياحة يعني تجوال واكتشاف أماكن لا نعرفها في إجازة عائلية...!
لم يقتنع رجل الأمن وعاد مرة أخرى يحدق في جواز السفر قائلا وهو يغض النظر لأرض الصالة الكبيرة التي تضج بالعائدين إلى غزة، يعني شو كنتو تعملوا ومين شفتوا؟! هنا لم أتمالك أعصابي بعد رحلة طويلة وشاقة ما بين مطارات وطريق بري يتجاوز الـ 8 ساعات بالإضافة للمبيت في العراء، وفي سيارة الأجرة انتظارا لفتح المعبر في اليوم التالي وقلت وقد علا صوتي كثيرا: نعم أنت محق يا رجل الأمن...!!! فالغزي لا يملك رفاهية أن يكون سائحا كما باقي البشر، ولا يعقل أن أشارك أولادي الذين كانوا أطفالا وشهدوا ثلاثة حروب طاحنة، وجولات لا حصر لها من العدوانات على قطاع غزة، وعاشوا طفولتهم تحت حصار جائر لمدة تقارب أعمارهم فعليا وقد أصبحوا الآن شبابا.!! لا يعقل بعد كل النجاة من الموت عدة مرات أن أتحدث بسخافة في حضرة مدينة الموت الصامتة، وأجيب أننا قد سافرنا للسياحة، ولكي نتنفس حرية ونعود لنواجه سلاطين غزة، وسلاطين الوطن الذين تربعوا على حياتنا، ومن قبلهم الاحتلال البغيض الذي نكل بأحلامنا وحرمنا أبسط حقوقنا في التنقل والسفر والسياحة داخل فلسطين، كل فلسطين...!! ليس رجل الأمن وحده من لا يعترف بالسياحة للغزي، بل أيضا الصورة النمطية التي تكرس للغزي الضحية والمحاصر والمراقب والمسفوك دمه على الطرقات في كل تصعيد، ليست الصورة النمطية فقط بل أيضا نحن لا يمكننا أن نفكر بأننا قادرين فعلا على أن نكون سائحين في بلاد جميلة وبعيدة بينما بلادنا الأجمل على قاب قوسين أو أدنى من قلوبنا إلا أننا لا نملك رفاهية زيارتها لأننا جميعنا ودون استثناء ممنوعون من السياحة والسفر والانطلاق في بلاد تحمل رائحتنا وملامح وجهنا...!