عمارات تحاصر عينيّ

يخبرني صديقي السوري أن لا شيء في الدنيا يعادل أن تجلس وحيدًا بين الجبال وأن تترك فضاؤها يملأ عينيك. غاظني حديثه، فلا جبال في غزة، وجبال فلسطين المحتلة أبعد بكثير من أن يصل إليها أهالي غزة المحاصرين، وأنا مهووس في تجريب كل شيء. ألقيت ملاحظتي: تقصد لا شيء يعادل أن تجلس قرب البحر أو فوق سطح مرتفع وأن تحدق في الغروب! مزهوًا بما أعرفه، فردت سجادة تأملاتي الطويلة: لا تغرب الشمس في الشتاء، بل يغمى عليها كأن الغيم يلتف حول عنقها فجأة فتهوي كذبيحة مسائية، هكذا، يندلق بهدوء لون الغروب القاتم في السماء، ويتبدد مرة واحدة كأن ماء داهمته.

وفي الربيع، أكاد أسمع في كلمة مرة أحدق فيها في السماء، صوت رضيع، ألوان الغروب التي تحبو بهدوء في أطراف السماء تذكرني بطفل رضيع يتعلم المشي. وفي الصيف يستعيد الغروب كثافته وحضوره، ألوانه الصاخبة تشدّ العيون، هكذا، تتكدس العيون المحدقة في السماء. أسحب نفس، وألخص درسي عن الغروب: لهذا، أحب غروب الصيف، غروب طويل وبطيء، يدفع الناس في هذه المدينة الصغيرة والمسورة بجدران المبان السكنية، للنظر إلى السماء وإلى أعلى لاستعادة شيئًا من الهدوء والراحة في زحام الضيق الذي يلاحقهم. غمز صديقي بعينه وقال بنبرة متهكمة: هذا مونولوج غزاوي بصوت عال يفضح رغبة الغزاوية في التعلق بأي شيء فسيح!

كُشف سري وهزمني، أتذكر هذا الحوار الذي جرى قبل عامين. كان ذلك المونولوج كما أسماه صديقي امتيازي الذي خسرته، فسحتي اليتيمة التي تبددت بعد أن حاصرت جدران العمارات السكنية كل نوافذي.  حتى وقت قريب كان السطح مساحتي للتنفس، أقف، وأحدق في المدى المفتوح وأهمس في نفسي مُشفقًا على الآخرين: لحسن الحظ بيتنا مرتفع، لا تحاصر عيني العمارات. لكنه الآن لم يعد كذلك. ولم يعد يطل سوى على حائط لعمارة سكنية جديدة، وأساقيل بناء لعمارات سكنية جديدة تصعد بشكل مهول من كل مساحة ممكنة. الغروب صار أقصر من ذي قبل، والعتمة صارت تلتهم فضاء غرفتي في وقت أبكر بكثير مما كان عليه قبل عامين. صار شعور الضيق مضاعفًا واحساس الأفق المحاصر حاد مثل سكين وأشد قسوة مما توقعت. فهمت بعد أن حاصرتني الجدران، لماذا يهرب صديقي الذي يسكن حي الشجاعية شرق قطاع غزة، من بيته إلى البحر كل يوم. أتذكر حين قال إن جدران بيوت جيرانه التي تحاصر نوافذ غرفته، تشعره بالخنقة: "كأني محبوس والله ما بقدر أقعد في البيت أكثر من ساعات النوم". وآمنت أكثر في أمنيته الوحيدة: " أن أفتح شباك غرفتي وأشوفلي شجرة أو أي شيء يفتح نفسي".

منذ أكثر من خمسة أعوام بدأت الحالة العمرانية في غزة تأخذ شكلًا أكثر جنونًا، فأمام أزمة الإسكان الحادة وضيق مساحة قطاع غزة التي لا تتجاوز الـ 365 كيلو متر مربع. بدأ الاستثمار في مشاريع الإسكان يلقى اهتمامًا مفرطًا في عيون المستثمرين والناس الذين لا يجدون خيارًا سوى التوسع عموديًا في بيوتهم. هكذا، استباحت مشاريع الإسكان كل المساحات الممكنة، وتحديدًا الأراضي الزراعية التي بات تحويلها إلى مشروع عمارة سكنية أكثر المشاريع قبولًا. ومن خلف هذا المسرح كله تتمترس سياسات الاحتلال في الحصار ومنع الفلسطينيين في غزة من التنقل إلى الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية، والحروب المدمرة على قطاع غزة، تسبب وتدير كل هذه التحولات.

يقول وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان في قطاع غزة ناجي سرحان إن قطاع غزة الذي يسكنه أكثر من مليوني و 300 ألف نسمة، يعاني من أزمة إسكان وعجز في الوحدات السكنية بنحو 120 ألف وحدة. فالقطاع لا يضم حاليًا سوى 400 ألف وحدة سكنية وهو عدد قليل ولا يلبي حاجة السكان، إذ يحتاج القطاع سنويًا إلى نحو 14 ألف وحدة سكنية لمعادلة النمو السكاني. غير أن سياسة البناء الحالية، دفعت سرحان للقول إنه بحلول عام 2030 لن يتبقى في غزة متسع لبناء المزيد من الوحدات السكينة، إذ ستبدأ الأزمة بالتفاقم بشكل كبير حال لم يتم إيجاد حلول.  يشرح سرحان أن مساحة غزة تستوعب بحد أقصى بين 4 و5 ملايين نسمة. لكن، في حال جرى إعمار كافة الأراضي لتلبية الخدمات الإسكانية للمواطنين فإن ذلك يعني نشوء مشاكل زراعية وبيئية واجتماعية، فالناس بحاجة لوجود مناطق ترفيهية ومساحات خضراء وملاعب للترويح عن النفس، لكن في هذ الحالة من الصعب توفير هذه الخدمات.

مجبرًا، تخليت عن عادة التحديق في الغروب فوق سطح بيتي. صرت أهرب عصر كل يوم إلى شاطئ البحر، المكان الوحيد الذي يمكن أراقب فيه الغروب وأفكر في المشهد الذي تبدل من فوق سطحي وأسقط عني لقب "مهووس الغروب"، الذي منحتني إياه عائلتي: كيف ستكون غزة بعد سنتين، ثلاثة؟ شيئًا فشيئًا تتحول إلى كتلة معتمة من الحجارة، لا شجرة خضراء، ولا مساحة للتنفس. كيف سأعيش في بيت لا يطل سوى على حائط يحجب كل شيء عني؟  وما الذي تعنيهّ تلك العبارة التي قالتها أختي الصغيرة باطمئنان مفرط: "على الأقل البيوت إلي بتحاصرنا بتحمينا من القصف؟".


أنتجت هذه المادة ضمن فترة الدراسة في “الأكاديمية البديلة للصحافة العربية” الذي تشرف عليه فبراير، شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة وينشر بالتعاون مع “فارءه معاي - المنصة الإعلامية العربية المستقلة.

نشر في منصتنا يوم 1 تموز 2023.

عمر موسى

صحفي فلسطيني من قطاع غزة

محمد
السماء بيرق الامل
الاثنين 3 تموز 2023
شاركونا رأيكن.م