هل نملكُ المقوِّماتِ المطلوبةَ لسياحةٍ ناجعة؟

نتحدث كثيرا عن أهميَّة بناء وتنظيم مؤسَّساتٍ مجتمعيّة تقوم بتنظيم وهيكلة مشاريع تنموية في مجالات مختلفة، بالتعاون مع قوى مجتمعيَّة وفرديّة كبيرة موجودة وقادرة على إحداث قفزات نوعيَّة، لكنها تفتقر لمركزيّة العمل، للتصور الشامل ولبرامج عمليّة داعمة للانتقال من التنظير إلى التطبيق.

ذكرت ذلك في كثير من حواراتي ومقالاتي، أنَّ مجتمعنا مجتمع قادر، قادر على تجاوز كافة المحن والأزمات والتحدّيات للانتقال إلى مستقبل أفضل، من خلال إطلاق مشاريع عمل وحدويَّة، في الأطر الاقتصادية والاجتماعيّة التي تعمل على أساس تخطيط مهني واضح، بالتعاون مع كافة القدرات البشريّة الفرديّة والجماعية المتواجدة في مواقع مختلفة. تلك القوى التي، للأسف، تجد ذاتها أحيانا ضعيفة في مواجهة التحدّيات وتحقيق الأحلام بسبب غياب الرؤية الواضحة والأطر الشموليَّة التي تحفّز وتدير البرامج الوحدويّة التنمويّة.

إن بناء منظومات عمل وحدوي أساسُه العمل المشترك الذي يحترم الجميع، ويعطي الفرص لكافة الكفاءات ويعمل من خلال مبادئ المشاورة، التخطيط، المكاشفة، الشفافية وتقبُّل النقد للتصحيح والتغيير، وذلك يضمن إمكانية النهوض لمستقبل أفضل.

في كافة الدّول والمجتمعات تُعتبَر السياحة إحدى أهم القطاعات الاقتصادية والمجتمعيّة، فهي بالإضافة لتعزيزها للتطور والنموِّ الاقتصادي، تعمل على رفع مكانة المجموعة ذاتِ الحيّز السياحي ونشر تراثها وتاريخها وواقعها. وكم نحن بحاجة لذلك، لزيادة وعي الجيل الناشئ لدينا ولزيادة الانكشاف للمجتمع اليهودي والعالمي لما حدث أو يحدث لنا أو لَدَينا.

لذلك فإنَّ تطوير البرامج والمنشئات والفعاليات السياحيَّة له تأثير كبير على تعزيز كياننا ووجودنا وعلى نقل قصتنا وتراثنا بين الأجيال وللآخرين، وبالذات لأنَّ هناك محاولاتٍ وجهودًا كبيرة لإخفاء الحقائق أو لتزييفها من أجل تقزيم وجودنا وارتباطنا بهذه الأرض والبلاد.

في مقالتي هذه سأتطرق إلى بناء مشاريع اقتصاديّة ومجتمعيّة يمكنها تطوير مجال السياحة في مجتمعنا، مجال، للأسف الشديد، تم إهماله بشكل كبير، إما نتيجة لسياساتٍ حكوميّة ظالمة وإما لأننا كمجتمع لم نبادر لتطويره بشكل جماعي.

تحليل عام للسوق

يستثمر مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، محليًّا ودوليًّا، مبالغ طائلة للإنفاق على برامج سياحيَّة، والسائحُ يبحث عن مسارات سياحيّة مختلفة، منها الترفيهية، الاستجماميَّة، الدينية، التراثية، التاريخية، التثقيفية وغيرها، فإذا وجد السائح قيمة إضافيّة في زيارة موقع ما، أو في المشاركة بفعالية معيَّنة، فإنه يكون على استعداد لاستهلاك هذه الخدمة او المنتوج. وهنا يكمن السؤال المركزي: هل لدينا كمجتمع ما نضيفه أو نعطيه للسائح المحلي أو الأجنبي؟ والإجابة طبعا: نعم، لدينا الكثير؛ فنحن السكان الأصليين لهذه البلاد المقدسة، التي ولد وترعرع وزارها الأنبياء، تهذه البلاد التي تحمل في طياتها تاريخًا عظيمًا لحضارات ومجتمع عربي فلسطيني، لديه الكثير من الفلكلور الشعبي الذي يحمل تراثا جميلا شيقًا تجدرُ متابعته، وينعم بمناطق طبيعية وريفيَّة لَو تمَّ تجهيزها لأمكَنَها توفير الراحة للسائح من خلال أجواء طقس معتدلة نسبيا، وقدرات فنيَّة ورياضيَّة وثقافيَّة ممتازة ومناسبة لإنشاء مهرجاناتٍ وفعالياتٍ تستقطب الزائرين، ولدينا مطبخ يقدّمُ للقاصدينَ مأكولاتٍ شعبيَّةً مميَّزةً لذيذةً صحيَّةً وطبيعيَّةً. فما دامَ لدينا كل هذه المقومات لاستقطاب سياحه دينيَّة، ثقافيَّة ترفيهيَّة فنيَّة وحتى استجماميَّة، فلماذا لا نستطيع تطويرها وخلق الفرص؟

السبب الأساسي هو أنَّنا نعمل عادة كأفراد أو كمجموعات صغيرة، أو كسلطات محليَّة منفردة ببرامجَ محليَّةٍ موسميَّةٍ. لكنْ، لكي يكون العمل السياحي جزءًا من مسيرة تطوير ونمُوٍّ اقتصاديّ مستمرّ يجب أن يعتمد على برامج وخطط ورؤية شاملة مفصلة وموسَّعة، بمشاركة أكبر عدد من الأفراد والمجموعات. إنَّ تنظيم فرع السياحة يمكنه النهوض بالاقتصاد بشكل كبير من خلال تشغيل وتوظيف الكثير من القدرات البشريّة وأن يزيد من الفرص التجاريّة ومن حجم المدخولات والإيرادات المجتمعية، لتكون جزءًا من عجلة اقتصاديَّةٍ تدعم الفروع الأخرى.

مثال على مشروع وحدوي واحد في مجال السياحة

"أسبوع التراث والثقافة" - فعاليات متنوعة ومختلفة تستقطب كل يوم، خلال أسبوع كامل، سياحة داخلية وخارجية من البلاد والخارج، في منطقة محدده مسبقا، من خلال برامج ترفيه سياحة ومأكولات وسهرات مميَّزة تلائم تركيبة السياحة المختلفة، وتكرّس كافة الجهود لإتاحة المشاركة لأكبر عددٍ من الناس من داخل وخارج مجتمعنا، محليا ودوليا. لذلك يحتاج الأمر لحملات تسويقية بلغاتٍ مختلفة ومواقعَ عديدة من أجل تسويق الفكرة، مع العمل على تحضير كافة المنشَآت المطلوبة لتفعيلٍ ناجع لهذا الأسبوع، مع تجهيزات مُنَظَّمةٍ لتوفير السّفر والنقل والأكلِ، وحتى المبيت.

يكون اليوم الأوَّل مثلا في النقب، هناك يلتقي الجميع لإحياء كرنفال خاصّ تقامُ فيه العروض والنزهات وتُعرَضُ المأكولات وغيرها، وفيه أيضا تُطرح القضايا المتعلقة بالأرض والمسكن. في اليوم الثاني تنتقل الفعاليات لمنطقة أخرى في مركز البلاد، في المدن المختلطة، ومنها إلى منطقة المثلث، ثم منطقة الناصرة والقرى المجاورة، ثم منطقة حيفا وعكا، ثم إلى الجليل الغربي والأعلى، وفي كل منطقة تكون هناك فعاليّات مختلفة بمراكز ومواقع مختلفة لإتاحة الفرصة للسائح كي ينتقل من فعالية لأخرى ومن موقع لآخر مع تسهيل المواصلات ووسائل النقل المريحة. يسوَّقُ الأسبوع كلُّهُ، بكامل فعالياته، كوحدة واحدة لكافة السياح، ويقوم خبراء في مجال السياحة بالتواصل مع شركاتٍ سياحة أجنبية لتسويق المشروع من خلال ضمان رحلة شيِّقة لجمهورهم في البلاد المقدسة، تشملُ زيارات نوعيَّة للتعرُّف على المجتمع العربي الفلسطيني في أراضي الـ 48.

إن فعالية كهذه ليس فقط تعزّز السياحة وتثبت وجودنا على أرضنا وترفع من مستوى المعرفة عنا دوليًّا، وإنما أيضا تكون جزءًا من منظومة تثبيت وبناء الثقة والتعاون بين طاقات كبيرة في مجتمعنا، من مناطق مختلفة. ومن خلال التعاون على مشروع مشترك وتسويقه محليًّا وعالميا نكسب الثقة ونكتسبُ دراية لبرامج أخرى تطويرية.

هذه فكره واحدة من شأن تطبيقها تشجيعُ أفكار ومبادرات محليَّة وقطريَّة لاستقبال السياحة، ليس فقط في مهرجان محدَّد إنما بشكل دائم ومتواصل. 

وللختام التأكيد على أننا نملك الكثير من المقوِّمات، كما وردَ سابقا، لنستقطبَ السياحةَ الخارجية والداخليَّةـ لتكون جزءًا من منظوماتِ عمل تنمويَّة لمجتمعنا وشعبنا.

هاني نجم

مراقب حسابات ومستشار اقتصادي

شاركونا رأيكن.م