تفاقم الصراع على المناهج التعليمية في القدس الشرقية
ما زالت الصراع على المناهج والهوية مستمرًا ويتفاقم في مجال التعليم عند المقدسيين الواقعين تحت الاحتلال. إنّ التّغيرات التي حدثت في السنوات الخمسة الأخيرة لتطوير التّعليم العربي في البلاد، بصدد "الخطة الخماسيّة" قرار الحكومة 3790 على تطبيق هذه الخطة في شرقيّ القدس عام 2018، لمحاولة من أجل تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وتطوير وضع التعليم، حيث كان جوهر هذه القرارات وأهمها المذكورة متعلق بالتعليم ويهدف إلى الاستثمار في تحويل التعليم في مدارس القدس الشرقية من مناهج السلطة الوطنية "نظام التوجيهي" إلى المناهج الإسرائيلية " نظام البجروت" وتعلم اللغة العبرية.
تتجاوز أهمية المناهج التعليمية المضمون التربوي، بل تعتبر مجالًا للسيطرة السياسيّة. حيث إن مناهج وكتب التّعليم في المواضيع الأدبيّة والاجتماعية والفكرية، تمتلك تأثيرًا كبيرًا على مسار بناء شخصيّة وهُويّة الطّالب ورؤيته المستقبليّة. بدورها أداة قويّة ومؤثرة جدًا بيد صناّع القرار في أي دولة في العالم، وخاصةً تلك الدّول التي تشرف بنفسها على جهاز التّربيّة والتّعليم. نستنتجُ من ذلك على أن الصراع المستمر حول مناهج التدريس في القدس الشرقية بين السلطة الفلسطينية ودولة إسرائيل، هو صراع سياسي.
منحت السلطة الفلسطينية وفقًا لاتفاقيات أوسلو، عام 1994 المسؤولية عن كتابة محتويات المنهاج الدراسي الخاص في فلسطينيّي القدس. تمّ تطوير الكتب الدراسية الفلسطينية الأولية على مراحل متتالية، قامت السلطة في تطوير محتوى المناهج الدراسية منذُ عام 2000 تقريبًا، كما كُتب هذا المنهج وفقًا لإطار أوسلو وفلسفتها السياسية المبنية على السلام بين الشعبين وعلى إقامة دولتين، واحدةً بجانب الأخرى، وسمح الاحتلال لكتب السلطة الوطنية الفلسطينية بإدخال بعض المواد عن فلسطين في الكتب المدرسية مع المبادئ التوجيهية المقبولة فيما يتعلق بتقديم الإسرائيليين ودولة إسرائيل. حيث تعرّفت الكتب المدرسية على الخطّ الأخضر وخطة التقسيم وعرضت باختصار تاريخ اليهود في أرض فلسطين. ونجحت هذه الكتب في فصل اليهودية كديانة عن الأيديولوجية الصهيونية ، بحيث عرضت الصراع على أنه صراع مبني على الأيديولوجيا وليس على أساس الدين.
رغم الاتفاقات المنصوصة، حاولت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية أن تفرض المناهج الإسرائيلية على طلاب ومدارس القدس الشرقية - محاولات التي باءت جميعها بالفشل - ولهذا استخدمت سياسة القوة وممارسة صلاحياتها في داخل القدس الشرقية في فرض آليات الرقابة على كتب السلطة الفلسطينية حيث تشرف على المضامين التي يتم تدريسها وتحذف ما هو غير مرغوب لنهجها وفكرها ومصالحها.
ويظهر من دراساتي المتعددة أن هذه الرقابة حول المناهج الدراسية لا تتعلق فقط بمحتويات المنهج ومضامينه فحسب، وإنما بإثبات القوة والسيطرة على التعليم في القدس الشرقية. إلى جانب استمرار الرقابة على الكتب المدرسية وتمرير مضامين خالية من تاريخ وهوية الطالب الفلسطينية، أو تبديل هذه المضامين بمضامين أخرى تتعلق بالمجتمع الإسرائيلي وكيان الدولة اليهودية، كل هذا الكمّ من الضغط والطرح الممنهج أدى إلى تغيير سياسات تربويّة عند السلطة في القدس، علمًا أن جميعها كُتب في ظلال اتفاقيات أوسلو، نحو تعديل كامل لجميع الكتب المدرسية ومضامينها وفق سيرورة بدأت في عام 2017 ونفذت في جميع مدارس القدس في عام 2018. والسؤال المطروح أمامنا، هل هذا التغيير حصل صدفة؟ أظهرت الدراسات أنها ليست صدفة توزيع هذهِ في جميع مدارس القدس الشرقية في نفس الفترة التي قررت الحكومة الإسرائيلية تنفيذ الخطّة الخمسية بالتزامن مع فرض المناهج الاسرائيلية.
وفي المقابل ما يميز الكتب الفلسطينية الجديدة ليس فقط مضامينها وإنما أيضا غلافها الذي يحوي ألوان العلم الفلسطيني والحطة الفلسطينية وتوحيدها لجميع الصفوف وفي جميع المواد، حيث شطبت من مضامينها كل ذكر لدولة إسرائيل والصهيونية، وعرضت في مضامينها فقط موضوع الاحتلال وتدمير الاستيطان لأراضي الشعب الفلسطيني. حيث هدفت السلطة بتمرير هذه الكتب من أجل تعزيز الهوية السياسية والدينية للطلبة الفلسطينيين، وتقديم أكبر قدر من تاريخ قضية فلسطين. هذه الخطوة من قبل السلطة الفلسطينية جعلت من السلطة الاسرائيلية الإسراع في فرض وتنفيذ مشروعها السياسي في مدارس القدس والعمل على تطبيق مناهجها في أكبر عدد من المدارس في السنوات الخمسة الأخيرة. حيث قامت السلطة الإسرائيلية بتحقيق الخطة الخمسية وبتمرير ميزانيات كبيرة باهظة لمدارس القدس الشرقية التي تقوم في تمرير المناهج الإسرائيلية وقامت بدعمها مع ميزات وميزانيات كبيرة لتحقيق هدفها ونجاحه في أقرب وقت.
ما يحدث في جهاز التعليم في القدس الشّرقية هو صراع البقاء والهيمنة على عقول الطّلاب، ومن المستحيل فصل ما يحدث في جهاز التعليم في القدس الشرقية عن السياسة الإسرائيلية القائمة. فقد حاولت دولة إسرائيل، مرّات عديدة منذ العام 1967، فرض منهاج التعليم الإسرائيلي على المدارس في القدس الشرقية، لكن تلك المحاولات أدت إلى معارضة شديدة من السكان الذين رفضوا قبول المنهاج واعتبروه خيانة للوطنية الفلسطينية.
جهاز التعليم الرسمي في القدس الشرقية يعاني من مصاعب عديدة : نقص في الصفوف التعليمية، وضع اجتماعي واقتصادي متردٍّ، نسبة مرتفعة من التسرب ومستوى متدنِّ من الإنجازات التعليمية، الاحتلال واخلالهِ في أمان الطلبة داخل المدرسة وخارجها. وفوق هذا كله، إدخال منهاج التعليم الاسرائيلي إلى القدس الشرقية يخلق مشاكل إضافية أخرى ويضع المقدسين في حيرة وبلبلة في قراراتهم وتقرير مصير أبنائهم.
حيث أن المقدسين من ناحية يريدون الحفاظ على هويتهم الفلسطينية وعلى انتمائهم الوطني وهذا يتمثّل في اختيارهم لامتحانات التوجيهي ورفضهم لامتحانات "البجروت" الإسرائيلية، لأنه استمرار لعمليّة أسرلة القدس بأكملها. كما أن فئة أخرى من الطلبة أصبحت تلجأ لخيارِ المسار الاسرائيليّ التعليميّ، كي تستطيع أن تؤمن عملًا تعيش منهُ بعدما حاصرهم الاحتلال من جميعِ الجهات الأخرى.
إن التعليم في القدس وتركيبته المعقّدة لا يختلف بالكثير عن الأوضاع المركبة لأهالي القدس العرب تحت الاحتلال وما يعايشونهُ من عدم استقرار وأزمة هويّة بسببِ محاصرة الاحتلال لكلّ مظهر من مظاهر هويّتهم، كما أنّ الأوضاع الاقتصادية الصّعبة التي تمرّ على أهالي شرقي القدس حسب ما ورد من معطيات تم سردها في العديد من الأبحاث التي قدمتها وأشرفت عليها في الآونة الأخيرة، هي الأسباب الرئيسية التي تجعل من بعض المقدسيّين أن يلجأ إلى المناهج الاسرائيلية، بمعنى آخر أصبحت حالتهم تقترب من أوضاع فلسطينيين أراضي الـ48 الذين لا يملكون إلّا خيار التعليم مع مناهج تربويّة اسرائيليّة.
ويبقى الصراع قائما في المدينة المقدسة، ويبقى الطرح والمنهاج محور الخلاف والتناقض الفكري، المنعكس على الطالب بمدينة القدس، بل على المعلم\ة والمسار الأكاديمي، كل هذا على حساب بناء الشخصية وإثراء التفكير والمعطيات التكنولوجية والإبداعية، والسؤال المطروح: إلى متى سيستمر صراع المقدسيّ على المنهاج وحريّته وهويّته ولمن الغلبة في نهاية المطاف، هل تكتمل الأسرلة، أم سيستطيع الفلسطيني التغلّب على مضطهديه؟
د. سميرة عليان
محاضرة في قسم التربية في الجامعة العبرية في القدس وفي كلية التربية الاكاديمية دافيد - يلين في القدس. تحمل لقب الدكتوراه في مجال علم الاجتماع التربوي والبوست دكتوراه في مجال المناهج وتحليل الكتب في العالم