الغزو الثقافي كشكل من أشكال التثاقُف - محاولة للتشخيص من خلال التعريف

الثقافة هي مُجمَل ما أبدعه العقل البشري من قِيَم ومفاهيم وإدراكات وإنتاجات مادية وغير مادية من أجل التعامُل مع العالَم. فالثقافة بهذا المعنى هي نمط وجود الإنسان في العالم، وهذا ما يميِّز الإنسان عن كل الكائنات الحية الأخرى. والثقافة بحسب هذا التعريف تشمل اللغة، والعقائد، والمفاهيم، والطقوس، والزيّ، والطعام، والموسيقى، والفنون على اختلاف أنواعها، وأنماط السلوك والمعيشة، وكذلك الاقتصاد والسياسة والمبنى الاجتماعي من حيث توزيع القوة.

وحيث أن الثقافة هي أسلوب تعامُل الإنسان مع العالم، فهي دائماً وحتماً تتشكَّل بناءً على الظروف في العالم المحيط، أي البيئة، وتشمل هذه البيئة البشر الآخرين والجماعات البشرية الأخرى.

من هنا يأتي التشابه والاختلاف في الثقافة فيما بين الأفراد وفيما بين الجماعات البشرية، فالثقافة تكون دائماً على شكل حلقات أحادية المركز، وكل حلقة تحدِّد التشابُه بين مَن في داخلها والاختلاف عمَّن في خارجها. ولذا فإن لكل ثقافة وجهين؛ وجه فرديّ وهو الشخصية، ووجه جمعي وهو الثقافة. فكل ثقافة تحدد شخصيات الأفراد الذين ينتمون إليها، وفي نفس الوقت تحدد أوجُه الاختلاف بين هذه الشخصيات، ومُجمَل القواسم المشتركة بين الشخصيات هو الذي يحدد شكل وهيئة الثقافة. فالثقافة إذاً ليست كائناً قائماً بذاته، وليست موجودة في فراغ أو في عالم ميتافيزيقي، وإنما هي مُجمَل ما يحمله الأفراد المنتمون إليها في عقولهم ونفوسهم وشخصياتهم.

هذا التشابُه والاختلاف المتدرِّجان على مُختلف المستويات الثقافية، هما اللذان يرسمان الحدود بين مجموعة ثقافية وأخرى؛ الحدود التي تميِّز التشابُه في داخلها والاختلاف عمَّا في خارجها. هذه الحدود الثقافية لا تكون أبداً مُحكَمة الإغلاق صمَّاء تماماً، وإنما دائماً تَرشَح بالاتجاهين، إلى الداخل وإلى الخارج، بمعنى أن العناصر الثقافية تنتقل دوماً بين الثقافات من جماعة بشرية إلى أخرى، وهذا ما يكفل ميزة التغيُّر والتطوُّر في الثقافة.

والتغيُّر الثقافي لا يأتي إلا على خلفية الثبات. فكل ثقافة تتغيَّر بتغيُّر عناصرها، بيد أنَّ هذه التغيُّرات لا تؤدي إلى فقدان الجماعة البشرية لهويتها الثقافية. من هنا تأتي جدليَّة التغيُّر والثبات في الثقافة، فالثقافة تموت إذا لم تتغيّر، وتموت إذا تغيَّرت إلى حد فقدان الهوية. فكل الثقافات البشرية تُراوح بين هذين القطبين؛ قطب التغيُّر على خلفية الثبات، وقطب الثبات على خلفية التغيُّر. وكلما كانت الثقافة أكثر قوةً واستقراراً وثقة بالنفس والهوية، كلما كانت أكثر انفتاحاً على الثقافات الأخرى وأكثر جرأةً على الأخذ والعطاء وتبادُل العناصر الثقافية مع جماعات أخرى، والعكس صحيح بالطبع.

هذا التبادُل الثقافي، وهذا الرَّشح للعناصر الثقافية بالاتجاهين، هو ما نسميه "التثاقُف" (Acculturation)، أي تأثر ثقافة ما بثقافات أخرى وحركة الإكساب والاكتساب للعناصر الثقافية بين الجماعات البشرية.

والثقافة هي في الأساس مُكتسَبة وليست موروثة. فالإنسان لا يولَد كائناً ثقافياً، وإنما يكتسب الثقافة تدريجياً من البيئة الثقافية الإنسانية المحيطة به، وبهذا تتكون شخصيته وتنمو وتتطور، ويصبح كائناً اجتماعياً بقدر ما يصبح كائناً ثقافياً مندمجاً ومتناغماً مع ثقافة الناس المحيطين به. وكلما تغيَّرت الثقافة، تتغير شخصيات الحاملين لها، وبالتالي يتراكم تغيُّر الشخصيات حتى يتجسد على المستوى الجمعي بتغير الثقافة عموماً.

هذا التغيُّر الثقافي عن طريق التثاقف، يحدث على مستويات مختلفة، وبالتالي يأخذ أشكالاً مختلفة حسب أنماط التفاعل وأشكال توزيع القوة بين الجماعات البشرية:

1) التثاقف بالانتشار:

حين تتجاور جماعات بشرية وتتفاعل فيما بينها من حيث الاقتصاد أو التجارة أو التشارك في استغلال المصادر الطبيعية، تأخذ ثقافات هذه الجماعات بالتأثير في بعضها البعض، فتنتقل عناصر ثقافية من جماعة إلى أخرى. ويحدث هذا الانتشار الثقافي حسب الخاصية التي تدعوها الأدبيات "هيدراولية الثقافة"، بمعنى أن العناصر الثقافية تنتقل كالسوائل من أماكن التركيز العالي إلى أماكن التركيز المنخفض، فالعناصر الثقافية تنتشر من الثقافة الأغنى إلى الثقافة الأفقر، ومن الثقافة المتطورة إلى الثقافة الأقل تطوُّراً.

أول ما ينتشر من العناصر الثقافية هي العناصر المادية الملموسة كالزيّ، وأنواع المواد الغذائية، وأشكال تحضير الطعام، والأدوات والأوعية المستخدمة للمعيشة. بعد ذلك تأتي عناصر أكثر أهمية كالحِرَف وخبرات تصنيع الأدوات وممارسة الفنون على اختلاف أنواعها. ثم تأتي لغة الجسد، كالتعبير بملامح الوجه (الإيماء)، والإشارات باليد، وأنماط تحريك الأطراف كالمشي والعدو والرقص، وأشكال الجلوس والوقوف والانحناء. ثم تأتي اللغة من حيث المُفردات والمصطلحات والمفاهيم، وربما من حيث قواعد الاشتقاق والتصريف، حتى أن الجماعات البشرية تؤثر في بعضها البعض من حيث نبرة الكلام، ومخارج الحروف، وأساليب السرد والخطابة. ثم يأتي انتشار معايير السلوك ومعايير الحُكم على سلوك الآخرين، ومن ضمن ذلك الذوق والأفضليات الجمالية، ومنظومات الأخلاق والقيم الأخلاقية. ثم تأتي أخيراً أكثر العناصر الثقافية مقاومة للانتشار وصعوبة في الانتقال من جماعة إلى أخرى، ألا وهي العقائد والمعتقدات التي يبتدعها العقل البشري من أجل تفسير أسرار الكون وحل ألغاز الوجود ومحاولة الإجابة على الأسئلة الوجودية العظمى التي لازمت الإنسان عبر تاريخه. وقد كان انتشار العقائد والمعتقدات أسهل بكثير في حقب تاريخية ماضية عمَّا هي عليه الآن، ففي عصور هيمنة تعدُّد الآلهة كان من السهل على الجماعات البشرية أن تُطَعِّم دينها بعقائد من دين آخر، وأن تكتسب طقوساً جديدة للطهارة والتقديس والعبادة، وحتى أن تستعير آلهة من جماعات أخرى أو تتنازل عن آلهتها لمن يرغب في تبنّيها، أما في عصر التوحيد فقد انحسرت هذه الإمكانية وأصبحت العقائد والطقوس والديانات تكاد لا تنتشر بين الجماعات البشرية إلا بحدّ السيف. 

2) التثاقف بالامتصاص:

يحدث الامتصاص حين ينتقل أعضاء من جماعة بشرية للعيش في جماعة أخرى لأسباب مختلفة، كالتجارة أو العمل أو التعليم أو التبادُل الدبلوماسي أو الهجرة أو التهجير القسري، وحتى في الأسر والسبي. في مثل هذه الحالات يضطر الأفراد المنتقلون لاكتساب ثقافة المجتمع المضيف من أجل التأقلُم، وحين يعودون للعيش في مجتمعهم فإن العناصر الثقافية التي اكتسبوها من المجتمع المضيف تبدأ بالتسرُّب تدريجياً إلى المجتمع المحلي، ولا يلبث المجتمع المحلي أن يشحذ آلياته للتحكم في هذه العناصر المُتسرِّبة، فإما أن يقبلها كما هي ودون أي تعديل، وإما أن يرفضها كلياً ويمنع الجماعة من امتصاصها في الثقافة المحلية، وإما أن يعدّلها ويحوِّرها حتى تتلاءم مع العناصر الأخرى في الثقافة المحلية. وكلما كان الأفراد الذين تتسرَّب هذه العناصر الثقافية من خلالهم أعلى مكانةً وأرفع منصباً وأكثر قبولاً واحتراما وتقديراً، كلما كان تأثيرهم أكبر وكان امتصاص المجتمع المحلي لما يأتون به أسهل وأكثر وأعمق.

لقد كان هذا التثاقف من خلال الامتصاص إحدى الآليات المهمة جداً في التغير الثقافي في حضارات الشعوب الكبرى المعروفة في التاريخ، وكان الألية الأهم في انتقال كثير من التيارات الفكرية وأطر الانتماء والمفاهيم من الثقافة الأوروبية الغربية إلى ثقافة المشرق العربي، كالوطنية والعلمانية والليبرالية والمنهج التجريبي في العلوم، خصوصاً منذ عهد محمد علي باشا في مصر في منتصف القرن التاسع عشر.

3) التثاقف بالاستعارة:

تحدث الاستعارة الثقافية حين تقرر جماعة بشرية معينة أن تغطّي العجز أو النقص أو الفراغ في ثقافتها من خلال استعارة عناصر ثقافية من جماعات أخرى، وهذا لا يحدث إلا للجماعات القوية المهيمنة الواثقة من نفسها، والتي تتجرأ على التعلُّم من الآخرين من خلال الاستعارة الثقافية، كما فعلت الثقافة الكنعانية الإبلاوية (حوالي 3500 ق.م.) في استدخالها لعناصر الثقافة السومرية من بلاد الرافدين، وكما فعلت الحضارة الرومانية اللاتينية في استعارتها لعناصر الثقافة الإغريقية قبل الميلاد، وكما فعل العرب المسلمون في استعارة عناصر الفلسفة والمنطق والعلوم من الثقافتين الفارسية والإغريقية في العصر العباسي الأول.

الأمر المختلف في نمط الاستعارة هذا، هو أن الجماعة المستعيرة هي التي تقرر ماذا تستعير وكيف تستعيره ومتى، وكيف تدمجه في ثقافتها المحلية لتغطي على العجز فيها، فتظل الجماعة ماسكة بزمام الأمور فيما يتعلق بما يحدث فيها من تغيُّرات ثقافية.

4) الغزو الثقافي:

يحدث الغزو الثقافي حين تقوم جماعة بشرية معيَّنة بفرض ثقافتها على جماعات أخرى بالقوة وبحدِّ السيف. والغزو الثقافي يكون دائماً متزامناً ومتزاوجاً مع الغزو العسكري، كما حدث في الحروب الإمبراطورية التوسعية الكبرى، وكما حدث داخلياً في أوروبا المسيحية في عصور الظلام، وكما حدث في الاستعمار الأوروبي الإحلالي المبني على الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأمريكتين وأستراليا وجزر المحيط الهادي، وكما حدث في حملات الحركات التبشيرية التي كانت دوماً تستظل بظل القوى الاستعمارية، وكما حدث  في الاستعمار الأوروبي المباشر لأقطار العالم الثالث في أفريقيا وآسيا، حيث كان فرض القوى الاستعمارية العظمى لثقافاتها على شعوب العالم الثالث يتراوح بين الفرض الكلي التام كما فعلت فرنسا في لبنان والجزائر، وبين الفرض الجزئي المحدود كما فعلت بريطانيا في الهند والعراق وفلسطين.

وبما أن الجماعات المغزوَّة لا تكون قادرة على رفض الثقافة المفروضة عليها بالعنف والقوة من قبل الجماعة الغازية، فإننا نشهد عبر التاريخ أن الغزو الثقافي العسكري يولِّد لدى الجماعات المغزوَّة ثلاثة ردود فعل تأخذ شكل استراتيجيات للتعامل مع الموقف:

1)   في الفئات المحلية التي تكون قريبة من القوة الغازية أو منتفعة بوجودها أو لا تستطيع العيش من دون الاعتماد عليها، ينشأ نوع من الانفصام الكلي بين الظاهر والباطن، أو بين السلوك في الحيِّز العام والسلوك في الحيِّز الخاص، ففي الحيز العام يُظهِر هؤلاء الأشخاص أنهم تقبَّلوا الثقافة المفروضة وأتقنوها وتبنّوها، ولكن في الحيِّز الخاص يمارسون ثقافتهم الأصلية المحلية من وراء الكواليس وبشكل يكاد يكون نقياً تماماً من تأثيرات الثقافة المفروضة. وفي بعض الحالات، وبسبب تكرار الغزو من جماعات مختلفة، تصبح حركة الأشخاص بين الحيز الخاص والحيز العام على درجة عالية من السلاسة والحنكة والحذق والإتقان، كما هو الحال فيما يسمَّى "الشخصية الفهلوية" في مصر، وكما هو الحال في المقدرة الخارقة على الاعتياد على الظروف غير العادية لدى أبناء الشعب الفلسطيني.

2)   نشوء جيوب من الثقافة المحلية الخالصة في المناطق النائية التي لا تستطيع القوة الغازية أن تصل إليه لتفرض ثقافتها على الناس، كما كان الحال في صعيد مصر، وجنوب السودان، ومناطق الأمازيغ في شمال أفريقيا، وقبائل البدو في النقب وسيناء.

3)   نشوء حركات وجماعات من الأصوليين المتزمتين الذين يرفضون كل جديد، ويحاربون كل ما يأتي من الخارج، ويدعون إلى العودة للماضي والنكوص إلى "أيام السلف الصالح"، كوسيلة لتكريس الجذور واستعادة الثبات والمحافظة على الهوية الثقافية المهددة، وبالتالي استعادة الثقة بالنفس. ومن الجدير بالذكر أن حركات المقاومة الشعبية في ثورات التحرر من الاستعمار كانت في كل الحالات تقريباً عبارة عن تحالف وطني بين أولئك الذين تشربوا بثقافة الغازي فتبنوها وأتقنوها واستعملوها سلاحاً لمحاربة الاستعمار، وبين أولئك الذين رفضوا ثقافة الغازي كلياً فعادوها وعادوا كل جديد وانتكسوا إلى الماضي كي ينطلقوا منه في حربهم الجهادية ضد الاستعمار.

5) الاجتياح الثقافي:

هذه الجماعات الأصولية الارتدادية، تصبح خطيرة جداً حين يتحول الغزو الثقافي العسكري الاستعماري المباشر إلى زحف ثقافي سلمي تكنولوجي غير مباشر كما يحدث الآن، حيث تختفي هوية العدو وتتلاشى خطوط الجبهات التي يدور عليها الصراع، وفي نفس الوقت يزداد الشعور بفقدان السيطرة وبالعجز عن مواجهة ما يجري، فتخلق هذه الجماعات عدواً وهمياً معمّماً هو "الغرب" وكل مَن يُتَّهم بأنه يمثله أو يتماهى معه أو يدافع عنه في المجتمع المحلي، فلا تعود هذه الجماعات تحارب العناصر الثقافية الدخيلة في اللبس والمأكل وأنماط السلوك ومفردات اللغة والقيم الأخلاقية فحسب، وإنما يمتد عداؤها ليشمل مفاهيم ومذاهب التقدُّم، والحداثة، والعلوم التجريبية، والليبيرالية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وكل ما من شأنه أن يكون موجَّهاً نحو المستقبل فيُبعدهم بذلك عن الماضي الذي يريدون النكوص إليه.

هكذا يتكوَّن رد الفعل الارتدادي السلفي المتزمت على الزحف الثقافي الذي ندعوه "الاجتياح الثقافي". ونحن ندعوه "اجتياحاً" لعدة خصائص تدمغه وتميّزه عن الغزو الثقافي العسكري المباشر: (1) زخم العناصر الثقافية الواردة يكون أكثر وأعتى بما لا يقاس مما كان عليه في السابق، ولذا فهو (2) يشكل خطراً أشد وأصعب وأكثر جديةً على "الروح الثقافية" للمجتمع المحلي. (3) العناصر الثقافية الدخيلة لا تنتشر من الأعلى إلى الأسفل أو من مركز معيَّن إلى المحيط، وإنما تجتاح المجتمع كله، بكل فئاته، من أكثرها فقراً وتهميشاً إلى أكثرها غنًى وتأثيراً، ومن أكثرها علماً و"تقدُّماً" إلى أكثرها جهلاً و"رجعية" في نفس الوقت. (4) العناصر الثقافية الدخيلة تدخل إلى المجتمع المحلي "من الباب الخلفي" (إن صحَّ التعبير) فتتسلل إلى المجتمع وتتغلغل فيه قبل أن يعي ذوو الشأن بوجودها أو ينتبهوا إلى تغلغلها في الأذهان والأجساد والنفوس، وحين ينتبهون إليها ويتداعون للسيطرة عليها يكون قد فات الأوان للتعامل معها، وبالتالي (5) يفقد المجتمع السيطرة كلياً على ما يجري على حدوده وفي أعماقه، ولا تعود العناصر الثقافية الدخيلة تحتاج إلى أن "تقرع الباب" وتنتظر السماح لها بالدخول إلى المجتمع المحلي، بل تتسرب إليه وتتغلغل في أعماقه قبل أن يكتشفها أحد. (6) هذا بالتالي يزيد بشكل مضطرد الشعور العام بالعجز وفقدان الحَول والحيلة أمام "الأخطار المحدقة"، فتكثر الجماعات والجمعيات التي تنادي بالأصالة وبالعودة إلى الأصول في كل المجالات الثقافية وعلى كل المستويات؛ في اللغة، والموسيقى، والتراث الشعبي، ومناهج التعليم، وتطبيق القوانين، وحتى في مبنى العائلة وعلاقات القرابة، وحتى في ممارسة السياسة والتجارة والاقتصاد.

آلاف الفضائيات في الإذاعة والتلفزيون؛ شبكات التواصل اللاسلكي التي أصبحت متاحة للجميع في كل مكان؛ منصات التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها؛ برامج الدردشة بالكتابة وبالصوت والصورة؛ محركات البحث التي لا يخفى عليها شيء؛ الأجهزة الذكية المحمولة بكل ما فيها من كاميرات وتطبيقات؛ إمكانية تنزيل وتحميل كل ما يمكن أن يخطر على البال؛ اقتصاد عالمي تدويري غير مُنتِج يجري كله بالأرقام الإلكترونية؛ دعايات تجارية استهلاكية محشورة في كل شيء وتخاطب أبسط ما في المرء من غرائز ونزعات ومسلّمات... كل ذلك وأكثر منه بكثير، يعتمد مصطلحات وتقنيات ومفاهيم عالمية آتية من مكان واحد لا ثاني له، في حين أن كل شعوب العالم الأخرى تعصُر إمكانياتها لترجمة هذه المصطلحات والتقنيات والمفاهيم إلى لغاتها، أو نبش ما ينوب عنها أو نحت ما يقابلها أو اختراع ما يحل محلها على المستوى المحلي. وكل ذلك يتم استغلاله واستنزافه من قبل الطرفين؛ طرف الاجتياح الثقافي باسم "العولمة" التي تسعى إلى اختراق ثقافات العالم، وطرف الجماعات الأصولية الارتدادية التي تسعى إلى إغلاق حدودها أمام هذا الزحف الكاسح والنكوص إلى الماضي للبحث عن الأصول التي يمكنها أن تسد الطريق أمام هذا الاجتياح. بكلمات أخرى، كل هذه التكنولوجيات الحديثة المذهلة يتم استخدامها من قبل دعاة السلفية والمروِّجين للغيبيات والخرافات بقدر ما يتم استخدامها من قبل دعاة العولمة والمروِّجين للتقدم باسم الحداثة والعَصرنة.

الغريب في الأمر هو أنَّ هذا الاجتياح الثقافي باسم العولمة يسعى إلى محو الحدود بين الثقافات على المستوى السطحي الساذج، فيما يخص القيم والمفاهيم التي تتعلق بالذوق الاستهلاكي، بحيث يصبح كل البشر ينجذبون إلى نفس الأشياء ويشتهون امتلاك واستهلاك نفس السلع التي تسوِّقها الثقافة المهيمنة (كالأطعمة والملابس ومواد التجميل والأثاث وديكور المنازل والسيارات وصرعات المراكز التجارية)، وفي نفس الوقت يسعى إلى "تكليس" الحدود الطائفية والعقائدية والسياسية بين الجماعات المستهدفة وخلق حدود إقصائية جديدة لكي يزداد التشرذم وتزداد الصراعات الإقليمية والمحلية، فتنشغل الشعوب في صراعاتها الداخلية عن حقيقة ما يجري على مستوى العالم، فتغرق هذه الشعوب في الجهل والتخلف أكثر وأكثر، وبالتالي تصبح أكثر قابلية للاستغلال والاستنزاف.

هكذا ينشأ في مجتمعاتنا تياران متناقضان يُبطل أحدهما الآخر ولكنهما في نفس الوقت يتواجدان جنباً إلى جنب ويتعايشان معاً ويستفيد كل منهما من وجود الآخر؛ تيار الحداثة والعولمة، وتيار السلفية والأصولية. ويكفي أن تنظر إلى الناس من حولك في الشارع والسوق والجامعة وحفلات الأعراس كي ترى بأم عينك كيف يتواجد هذان التياران المتناقضان جنباً إلى جنب وفي نفس الزمان والمكان، الأمر الذي يجعلك تشعر وكأن المجتمع بأكمله مصاب بانفصام نفسي جماعي.  وهذا الانفصام لا ينحصر في المظاهر والشكليات فحسب، بل يتعداه إلى الفكر والفعل والسلوك كذلك، فهناك دائماً منظومتين قِيَميَّتين للحكم على سلوك الآخرين؛ ما هو مرغوب ومرفوض، مسموح وممنوع، حلال وحرام.

والأمر الأكثر غرابة في الموضوع هو أن هاتين المنظومتين القِيَميَّتين للحكم على السلوك لا تتواجدان جنباً إلى جنب في أشخاص مختلفين فحسب، وإنما تتواجدان (وتتصارعان) في داخل ذهن الإنسان الفرد الواحد نفسه، فهو يراوح بينهما في التطبيق حسب الأشخاص، والعلاقات، والظروف، والمواقف؛ كالشاب الذي يدعو إلى حرية الاختلاط بين الجنسين ولكنه يعاقب أخته أشد العقاب إذا رآها جالسة مع رجل، أو كالرجل الذي ينادي بالديمقراطية والمساواة وحرية التعبير ولكنه يقيم صرحاً للدكتاتورية في بيته، أو كالصبية التي ترتدي الحجاب لتفادي إغراء الرجل ولكنها تبالغ في إظهار مفاتن جسدها وكأنها تناشد الرجال أن ينبهروا بمفاتنها.

الأخطر من ذلك كله – وهذا ما يدق ناقوس الخطر – هو أن هاتين المنظومتين القِيَميَّتين المتعارضتين للحكم على سلوك الآخرين، لا تتواجدان معاً في داخل ذهن الإنسان الفرد في مواقف مختلفة مع أشخاص مختلفين فحسب، وإنما تتواجدان في ذهنه أثناء التعامل مع نفس الشخص وفي نفس الموقف، فهو كلما لجأ إلى منظومة شدته المنظومة الأخرى وطالبته بحقها في الوجود، وكلما طبَّقَ منظومة على شخص معيَّن في موقف معيَّن وخزته المنظومة الأخرى في صميم كيانه؛ كالأب الذي يسمح لابنته بالدراسة في الجامعة والإقامة في مساكن الطلبة ولكنه لا ينام الليل خوفاً عليها من الرجال في هذا المجتمع الذكوري، أو كالأب الذي يمنع ابنته من الدراسة في الجامعة ولكنه لا ينام الليل خشية من أن يكون قد قسى على ابنته وحرمها مما هو حق لها كما هو حق للبنات الأخريات من جيلها. ولذا فإن المرء يشعر دوماً بالتمزق والتشظي بين منظومات متناقضة كلما اضطر إلى اتخاذ قرار، ويشعر بالتوتر الشديد الذي لا تفسير له كلما أقدم على اتخاذ قرار، ويشعر بالخشية الباطنية اللاواعية التي تدفعه إلى تفادي مثل هذه المواقف والإحجام عن اتخاذ القرارات بقدر الإمكان. هذا التوتر الشديد وهذه الخشية الباطنية المزمنة في اللاوعي، لا يلبثان أن يجدا لهما متنفساً للتعبير عن نفسيهما في انفجارات سلوكية متطرفة في مواقف تبدو أبعد عن الذات وأقل إيذاءً للنفس، تجاه أشخاص أبرياء لا شأن لهم أساساً بهذه الازدواجية القيميَّة التي تزداد فتكاً بالأذهان والنفوس في مجتمعاتنا الشرقية.

د. مصلح كناعنة

باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية

شاركونا رأيكن.م