حتى كتابة هذا المقال، فلا ضمانات أو أي مساحة أمان لأني يبقى الناجي ناجي، ولا الجريج على قيد الحياة، ولا مكان آمن في سماء قطاع غزة...! لذلك كل ما نقوله مشروط بفعل الزمن وحرب الإبادة المستمرة في غزة قد يتغير المشهد ليكون موتا جماعيا وقد يكون كامتصاص الدماء من عروق الأحياء ...!!

كم مرة شهدنا مجازر إسرائيلية على الهواء مباشرة لمواطنين تجمعوا قرب دوار الكويتي في غزة في محاولة لسد رمقهم والحصول على كيس طحين يقيهم من جوع يبطش بهم، وكم من أب أو أم خرجوا ركضا للحصول على حفنة من الطحين لينقذوا أطفالهم وأولادهم من تجويع مستمر ومتواصل، بينما غراب الموت يحوم حولهم من كل صوب واتجاه، كم مرة شهدنا الطحين المتناثر على الأرض وقد غطت الدماء بياضه الناصع بالحقيقة، وكم من بريء لم يحميه كيس الطحين من الموت بعد أن ذاق فرحة الحصول على شيء يقيه وعائلته جحيم الجوع، تساءل الكثيرون في شمال غزة يا أهل الأرض أفيدونا هل يمكننا أكل القطط؟! أكلنا الشعير وطحنا الذرة وبدلا أن نطعم الدواب أصبحنا نراها وجبة طعام تقينا الموت جوعا...!! يا أهل الأرض افتونا في عيشتنا الضنك فقد بتنا نقع أرضا ولا نقوى على فعل شيء من الهزال والشحوب الذي أصابنا فهل أنتم تسمعون.! وهل أنتم تفقهون أننا أكلنا حشائش الأرض، أصبحت أرض غزة جرداء وكأننا في صحراء لا يوقظنا إلا صوت الانفجارات ولا يجعلنا نشعر أننا على قيد الحياة إلا انهيار البيت فوق رؤوسنا بفعل الانفجارات المتتالية من الطائرات الحربية الإسرائيلية، لينقذنا الله بطريقة لا نعرفها ويمنع تناثر دماؤنا.!

روايات وشهادات مريرة عاشها أهلنا في غزة وشمال غزة، لكن هنالك رواية أخرى للعاملين في قوافل المساعدات الإنسانية الذين ينتمون للعمل الإنساني ويرغبون في انقاذ حياة من يتضورون جوعا، فقد قتل منهم الكثيرون إذ ارتقى منهم 55 شهيدًا وأكثر من 312 مصابًا من العاملين والعاملات بالدفاع المدني والهلال الأحمر والطواقم الشرطية أثناء قيامهم بتوزيع وتنظيم وتأمين المساعدات الإغاثية. ومع ذلك لا يمكن معرفة العدد الحقيقي لضحايا الهجمات على العاملين والعاملات الذين أصيبوا أو قتلوا، لأنّ العديد منهم كانوا متطوعين مجتمعيّين بعد أن تخلت العديد من المؤسسات الدولية عن واجبها الإنساني في تأمين وصول المساعدات الإغاثية نتيجة خضوعها لتهديدات الاحتلال.

يقول أحد المنسقين الميدانيين في غزة ممن يسيرون ضمن قوافل المساعدات الإنسانية في شهادته:

"بعد أن يقوم الاحتلال بتفتيش الشاحنات، يأمرنا دون سابق إنذار بالمرور عبر شارع الرشيد أو شارع صلاح الدين، ولأنّ الاحتلال يقوم كل يوم بتدمير هذه الشوارع سواء بالجرافات أو من خلال بناء السواتر الرملية أو بإلقاء القذائف والقنابل الكبيرة في وسط هذه الشوارع فلا نستطيع العبور إلا بضعة أمتار عند دوار النابلسي أو دوار الكويت، كذلك يستهدف أي محاولة لإصلاحها، ويطلب منا وفي أثناء العبور بالتوقف إما عند دوار النابلسي أو دوار الـ 17 أو دوار الكويت، مع تأكيدي أنه لا توجد أي جهة تنسيق لاستلام تلك المساعدات. والشيء الخطير في الموضوع أنّ الطائرات بدون طيار (كواد كابتر) والدبابات التابعة للاحتلال تتقدم أثناء عبورنا لتلك المناطق وتقوم بإطلاق النار على الناس المتجمعين لاستلام المساعدات، وغالبًا ما يسقط العشرات من الشهداء والجرحى."

كمائن الطحين في غزة

 ويضيف المنسق الميداني أنه في إحدى المرات،

"قام الاحتلال بتهديد ثلاثة من الزملاء السائقين وإجبارهم على العبور في شارع الرشيد بسرعة كبيرة وعدم التوقف وإلا سيتم قصف الشاحنات، وهو ما أدى لدهس بعض الناس الذين لم يتمكّنوا من الابتعاد عن طريق الشاحنات. علمًا أنه ليس لدينا أي جهة نتوجه إليها لتسليم مواد الإغاثة، بل على العكس، تم استهداف كل الجهات التي حاولت التنسيق معنا لاستلام المساعدات سواء من الشرطة أو متطوعي جمعيات الهلال الأحمر أو الهيئات المدنية." 

من جهته، أشار سائق ومنسق عبور شاحنات المساعدات الإغاثية القادمة من معبر رفح إلى محافظتي غزة والشمال إلى عمليات الاستهداف الممنهج والمتعمد لقوافل المساعدات الإغاثية، حيث يؤكد أنه من بين كل 10 قوافل إغاثية يتم استهداف 7 منها على الأقل:

"نحن نعمل في وضع خطير للغاية، العديد من زملائنا استشهدوا أو أُصيبوا أثناء عبور القوافل، حيث تقوم طائرات بدون طيار (الكواد كابتر) بإطلاق النار بالقرب منا، وأحيانًا تقوم الدبابات أو الطائرات الحربية بقصف الشاحنات بشكل مباشر كما حدث في دير البلح وسط قطاع غزة في ٢/٢/٢٠٢٤، أو بقصف تجمعات الناس بالقرب من الشاحنات، كما أننا نتعرض للإصابة أو للقتل كما حدث في مرات عديدة، فبعد أن ننتظر ساعات طويلة عند حاجز البيدر في شارع الرشيد، وعند عبورنا الحاجز.. يقوم الاحتلال بإطلاق النار على الناس الذين ينتظرون المساعدات الإغاثية، حيث نصبح جميعنا في مرمى إطلاق النار".

سائق آخر يقول:

"الشاحنات التي تنقل المساعدات تخضع لتفتيش دقيق وعراقيل وقيود وفرض سيطرة عليها قبل وأثناء سيرها في الطريق المخصص لها، كذلك يتعمّد الاحتلال استهدافها"

ويضيف السائق:

"لقد عانيت من الهستيريا والقلق الشديد لأيام طويلة أثر الأحداث الصادمة بعد ليلة ٢٠٢٤/١/١٧، تم استهدافنا أثناء نقل وتفريغ المواد الغذائية والطحين إلى شمال القطاع، حيث يقوم جيش الاحتلال بإجبارنا على الدوران حول مشارف وسط قطاع غزة بالقرب من منطقة (جحر الديك) وصولًا إلى دوار الكويت بالقرب من مدينة غزة لمسافة طويلة تصل الى ٣٢ كيلو متر، ما يؤخر عملية إيصالنا لتلك المساعدات في ضوء شح الوقود، ما يعرّض تلك الشاحنات لعمليات النهب من خلال مجموعات محلية مسلحة".

الاحتلال يتعمد نشر الفوضى في غزة

أكثر من نصف عام مضت على حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وما زال جحيم الموت يخيّم على السكان.  ولازال الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى خلق واقع اجتماعي منفلت يخدمه في تمرير مخططاته السياسية، وذلك عبر استهداف الأطر الرسمية والشعبية التي تؤدي أدواراً ذات أهمية كبرى في إغاثة المواطنين وإدارة وتنظيم عمليات ايصال المساعدات وتوزيعها وتحقيق النزاهة والعدالة والكفاءة في إدارة هذه الملفات، الأمر الذي من شأنه أن يعزز صمود الناس على الأرض وإحباط محاولات الاحتلال الرامية لتدفيع المواطنين ثمنًا باهظًا على صمودهم وصبرهم، ومن خلال الاستهداف المتكرر والمنهجي فإن الاحتلال يسعى إلى صناعة الفوضى، والتشكيك بقدرات تلك اللجان والهيئات أو الأجهزة على السيطرة وإدارة المساعدات وتقديم استجابة إنسانية لاحتياجات الأهالي تحديداً في شمال القطاع.

انتهاكات ومخالفات جسيمة

يستمر الاحتلال الإسرائيلي في جرائمه المروعة في الإبادة الجماعية وتجويع السكان وتدمير مقومات الحياة في غزة، بل ويمعن بارتكاب مخالفات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، الذي يعتبر حماية العاملين الإداريين والشرطة المدنية المكلّفة بحفظ النظام والأمن وتوصيل الإمدادات الأساسية مسألة أساسية، ويخالف تلك المبادئ التي نصّت على احترام وحماية العاملين المدنيين والعاملين في مجال الغوث الإنساني بما فيهم الشرطة المدنية الذين لا يشتركون في القتال ويقومون بأعمال مدنية وإغاثية، حيث ينتهك الاحتلال اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977، التي تحدد حقوق المدنيين أثناء النزاع المسلّح، بما في ذلك العاملين الإداريين ورجال الشرطة المدنية، والتي تنص على حمايتهم واتباع مبدأ الاستهداف التمييزي في الهجمات المباشرة وغير المباشرة، وتمكينهم من القيام بمهامهم بأمان ودون تعريضهم للخطر.

وقد خالف الاحتلال المادة 51 (2) من البروتوكول الأول الإضافي لمعاهدات جنيف "بقيامه بأفعال أخرى تهدف لإرهاب المواطنين المدنيين"، حيث قام الاحتلال بنشر الرعب عن طرق القصف المستمر، وتدمير واستهداف أركان حماية النظام والقانون مما أدى لانهيار النظام المدني، وانتشار الرعب والفوضى وسط السكان. [1]


[1] عن ورقة حقائق أعدها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) بالتعاون مع مركز بيسان للبحوث والإنماء بتاريخ 8 أبريل 2024

 https://www.aman-palestine.org/activities/24414.html

الصورة: للمصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م