الأدب الفلسطيني في ظل النكبة: سؤال الهوية الاجتماعية ما قبلها، ومحاولة ترميم الذات بعدها
لعبت النكبة بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها، على إحداث انكسار عميق داخل البنيات الأصيلة للمجتمع الفلسطيني، التي جاءت نتيجة تراكم تاريخي عميق، حيث وجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة واقع يتم خلقه بشكل قسري وفرضه عليهم، مقابل ذاكرة مرتبطة بماض قريب لهم فيه امتداد ثقافي، واجتماعي، وسياسي، واقتصادي.
بسبب تلك المتغيرات الثقافية عاش الفلسطينيون في حالة من الصدمة التي لم يستطيعوا أن يعبروا عنها بشكل حقيقي إلا بعد عقود لاحقة، كما أدت تلك الصيرورة الزمنية إلى التأثير في حالة التعبير تلك، وكان لها الدور الأكبر في صياغة سؤال الهوية ومعنى الانتماء لدى الفلسطينيين اليوم، ومن أجل فهم هذا التحول للذات، وجب علينا فهم حالة الصدمة التي عاشها الفلسطيني بعد النكبة مباشرة من أجل فهم تطور الهوية ومركباتها في الوقت الراهن.
باعتبار أن السردية الأدبية ناتج تفاعل اجتماعي بين المبدع ومحيطه، فهي تحمل في طياتها ارتباطًا وثيقًا بكافة تلك المتغيرات والمؤثرات التي أحاطت بالكاتب، ليس فقط في ظل التحولات الكبرى، بل عبر مراحل نموه، وعبر فترات انتقاله من حالته الطبيعية إلى حالة التفاعل الاجتماعي، حيث تعمل عملية الكتابة في حد ذاتها على امتلاك مفاتيح فهم العلاقة المعقدة بين البناء الاجتماعي بتحولاته مع السرديات الأدبية المنبثقة عنه.
والسؤال هنا كيف عكست السرديات الفلسطينية تلك التحولات العميقة التي انبثقت عن نكبة احتلال فلسطين عام 1948؟
ضمن هذا الطرح لن يتم التطرق إلى الأدبيات التي أرّخت للنكبة، من خلال وصف عمليات التهجير وما آل إليه السكان وما آلت إليه الفضاءات المكانية للفلسطينيين في مدنهم المحتلة، وفق سرد عام يحكي عن أحوال اللاجئين والمدن الفلسطينية، وأحاسيسهم الملتهبة للتحرر والعودة، وفق طرح للرؤية المأساوية من ناحية، والرؤية البطولية من جهة أخرى. بل اعتمدت على نماذج عبرت عن عمق التغير والتشوه والتشرذم، في البنية الاجتماعية للسكان الفلسطينيين، الذين ظلوا في أراضيهم، وعانوا من أثر النكبة على العلاقات الاجتماعية في محيطهم المكاني والزماني، وعلى بوصلة الانتماء والهوية، ومواجهة الذوبان والاندماج والتشويه من قبل سياسات الدولة الإسرائيلية الوليدة.
ولم يظهر سؤال الهوية في الأدب الفلسطيني بعد النكبة فقط، بل كان هناك تصورات مختلفة عن مفهوم الهوية التي ظهرت في الأدب، في ظل المتغيرات التاريخية والسياسية التي مر بها المجتمع الفلسطيني، منذ بدايات القرن العشرين، والتي تأثرت بحركات وأيدولوجيات مختلفة منها: التحررية والدينية والبعثية والشيوعية والقومية وغيرها الكثير.. ويمكن تتبع هذه التحولات في مفهوم الهوية من خلال تتبع المراحل التي مر بها المثقف الفلسطيني بوجه الخصوص والمجتمع الذي ينتمي إليه بشكل عام، وتلك المراحل يمكن تصنيفها بمرحلة المخاض من 1920-1948، ومرحلة التأسيس الفني 1948- 1967م، ومرحلة الواقعية التي سادت بعد عام 1967م بعد فشل التيار القومي العروبي.
الهوية وأدب ما قبل النكبة
في المرحلة الأولى ظهرت لدينا صور عن الهوية الفلسطينية بشكل ضمني في أعمال أدبية عديدة، مثل رواية (الوارث)، والمجموعة القصصية (مسارح الأذهان) لخليل بيدس، ورواية (مذكرات دجاجة) لإسحق الحسيني، والمجموعتين القصصيتين (الحياة بعد الموت) لإسكندر الخوري، و (أول الشوط) لسيف الدين الإيراني.
تُعد الوارث ومسارح الأذهان والحياة بعد الموت من أوائل السرديات الفلسطينية التي نُشرت بعد ظهور أول مجلة فلسطينية تعنى بالأدب سميت (النفائس) عام 1908م، وقد لامست تلك السرديات الهموم الاجتماعية، وصورت واقع المجتمع وما يعاني منه من مشكلات مرتبطة بالفقر والعلاقات الانسانية، وفق منظور يصور التراصف الطبقي الموروث من حقبة الحكم التركي للبلاد، وتجلى سؤال الهوية في هذا السياق فيما يتعلق ببروز دور المدينة الفلسطينية كمركز لبقية الأطراف، وللبنيات الاجتماعية الأخرى.
حيث كانت المدينة هي نقطة الارتكاز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي خاصة للريف الذي يشكل أكثر من نصف تركيبة المجتمع الفلسطيني آنذاك، فالمسارح والنوادي والأحزاب السياسية والحركة الوطنية الذي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت مرتكز أحلام الشباب الريفي من أجل الولوج إلى عالم الخيال في المدن.
وهذه الرغبة في الانعتاق من موروث الأرض الإقطاعي في الريف احتل السؤال المركزي الأكبر في السرد الأدبي، وكانت ملامح الهوية متعلقة في الانفتاح على الآخر ومحاولة مواكبة سلّم الحضارة التي بدأت تهيمن على المدينة، وهذا الاندفاع الثقافي قلل من حضور هوية سياسية وطنية لدى المجتمع -كما ظهر في تلك السرديات- والخطير في هذا الطرح أن هذه الأدبيات تطرقت لمواضيع سياسية متعلقة بالهجرة اليهودية لفلسطين والتصادم السياسي مع حكومة الانتداب، وكأنها كانت تحصيل حاصل لواقع معاش وفضاء مكاني تجري فيه الأحداث، كما تم التعامل مع ذلك الصراع بهامش كونه صراع اجتماعي واقتصادي لمجتمع يهودي ثري يحاول تمكين نفسه في البلاد، ومجتمع فلسطيني في المدن يحارب ذاك التمدد المنافس في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ومجتمع ريفي يحاول اللحاق بذلك التطور ويشتبك معه أيضًا.
ويأتي هذا الطرح لتأثر الأدب في تلك الحقبة بالأدب الروسي، والرومانسية الإنجليزية، والتركيز على ظاهرة الصراع الطبقي الاجتماعي كملمح أساسي في تلك الأعمال، هو انعكاس للبرجوازية الصغيرة التي أنتجت الحياة الثقافية والأدبية في فلسطين تلك الفترة، فأبطال تلك الأعمال كانت تنتمي للبرجوازية الصغيرة المسيطرة في المدن، أو نقيضها تمامًا.
الهوية وأدب ما بعد النكبة
مع حلول عام النكبة 1948 حدثت تغيّرات وتحولات سياسية واجتماعية شملت جميع مناحي الحياة، حيث فرغت المدينة الفلسطينية ذات الإشعاع الممتد نحو الأطراف الأقل إنتاجًا من سكانها وسقط ذلك النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فمع سقوط حيفا ويافا وعكا وتهجير أغلبية القرى المحيطة بتلك المراكز، ودمج ما تبقى من العرب في أحياء ومناطق محددة كالجيتوهات، حدث تصدع وانهيار مدمر لبنية المجتمع الفلسطيني، ظهر جليًا في السردية الفلسطينية في تلك الفترة.
حيث سببت حالة الصدمة التي تلت النكبة حالة ركود في الإنتاج الأدبي الفلسطيني بشكل أساسي في فلسطين المحتلة عام 1948، حيث دخل الكاتب الفلسطيني في حالة من الانهيار، وهذا الانهيار يتضح من العدد المحدود من الأعمال الأدبية التي ظهرت في تلك الفترة.
تعتبر رواية "صراخ في ليل طويل" لجبرا ابراهيم جبرا الصادرة عام 1954م، ورواية "المشوهون" لتوفيق فياض الصادرة عام 1963م من أبرز الأعمال الأدبية القليلة جدًا التي ظهرت في تلك الحقبة، وهذا التباين في تاريخ صدور العملين يفضح حالة الصمت التي تلت النكبة.
في رواية (صراخ في ليل طويل/ 1954م) بدأت ملامح ولادة جديدة للهوية الفلسطينية التي بدأت تعي الآخر المُحتل وتهديده لاستمرارية بقائها ووجودها، خاصة عندما انتقلت في محيطها الجغرافي من دور الفاعل إلى الهامش المطلق، والمهم هنا في هذه المسافة التي أبعدت الفلسطيني عن قلب التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في محيطه، هو تبلور البعد النفسي الذاتي للأبطال، نتيجة ذلك التفسخ في البنية الاجتماعية، وهذا "التمظهر" في النص الأدبي يشي بظهور حالة من وعي الذات، وهذا بالضرورة يعني اللبنة الأساسية في بدء بناء مفهوم الهوية، وهذا برز بوضوح من خلال النص، فالشعور العام للفلسطينيين تبلور من خلال فكرة الفرد مقابل جماعية الآخر المحتل، إلى جانب بزوغ طابع تأملي صامت يدل على البحث عن الذات في إطار المحيط الجديد.
كما طُرح سؤال يتعلق بماهية الهوية في مضمون النص أكثر من مرة، كما تميّز السرد في تلك الفترة بطغيان مفهوم الزمن اللا خَطّي، الذي يدل على وجود تشوه أو فراغ في التاريخ، يستوجب العودة إليه ومعالجته من أجل استعادة الاستقرار والتطور الطبيعي داخل الحيّز المكاني، الذي غاب فيه الزمن الجمعي المرتبط بالبنيات الاجتماعية المترابطة فيما بينها.
هذا الشعور بالاغتراب وبالقطيعة الزمنية في التاريخ، ولد مشروعًا ضخمًا يتعلق في سؤال الهوية احتاج لما يقارب من عقدين في ظل الاحتلال من أجل أن يبدأ في التعبير عن نفسه، وهذا ما ظهر في رواية "المشوهون" لتوفيق فياض بعد أكثر من عقد من الزمن.
رواية المشوهون لتوفيق فياض 1963م
حمل السرد في هذه الرواية على بعدين أساسيين، ارتبط الأول بالبُعد العام الذي ناقش فضاء حرب النكبة بتحولين اجتماعيين كبيرين في الشكل والمضمون، على مستوى الشكل: حمل النص حالة التشتت التي أصابت السكان ما بين مهجرين في الداخل والخارج، وواقع الحكم العسكري في الأحياء المخصصة لسكن العرب، وهنا تبرز الهوية المتصارعة مع الآخر.
أما فيما يتعلق بالمضمون: فقد ارتبط بالنزاع والصراع العرقي والديني داخل بنية المجتمع الفلسطيني الجديد- صراع مع الذات- سببه احتمال الخسارة ، وهذا وثق عمق الشرخ الذي فتت البنية الاجتماعية للسكان الفلسطينيين، فالنكبة واحتمال الخسارة والتهجير، كرس ظهور تلك النزعات العرقية والدينية خاصة في الشمال الفلسطيني (بين الدروز والبدو والمسيحيين والمسلمين)، وهذا الانقسام لم يظهر قبل قرار التقسيم، بل بدأ بشكل فعلي بعد بدء العصابات اليهودية بتهجير القرى العربية، وما لحق بتلك العمليات من تحالفات بين بعض الطوائف الفلسطينية والعصابات، وهذا أدى فيما بعد لزعزعة بنية المجتمع الفلسطيني المتعدد فيما بينه، وسبب تشوه في ولادة مفهوم الهوية في الداخل الفلسطيني، وهذا ما تم طرحه تحت مفهوم احتمالات الخسارة والفقدان.
في هذه الرواية يمكننا فهم أحد جوانب سؤال الهوية، الذي برز في ملمح تعدد الأصوات، حيث يتناول تعدد الأصوات الانزياح عن قضية عامة يلتف حولها الكل، إلى قضايا فردية وذاتية، فأصبح كل صوت يدافع عن كيانه لاستمرار وجوده، وهذا التعدد في الشخصيات لم يظهر بشكل يوازي عمق صوت الشخصية الرئيسة، بل بشكل يوضح التباين في وجهات النظر بما يتعلق بالقضية الرئيسة في النص، وهذه نزعة فردانية شكلت سمة من سمات الهوية.
يظهر في النص ظاهرة الصراع بين القرية والمدينة، وحالة الاغتراب لدى الفرد في المدينة الفلسطينية التي أصبحت لا تعكس حلم الشباب الريفي، فهي أفرغت من دورها القيادي للمجتمع العربي، كما في اختلاطها المسبب لتنافس كبير في تحقيق الذات، وهنا أصبحت المدينة تعاني من التشوه في مختلف مناحي الحياة.
كما شكّل الحكم العسكري بعد الحرب في إعادة خلق هوية جديدة، ضمن نطاق الأسرة العربية والحي والمدينة، حيث فقدت الأسرة الامتداد العائلي والسكاني مما أدى إلى انكسار النظام الاجتماعي الأبوي، وضرب النظام العشائري الذي كان يسود بشكل ما في فلسطين قبل النكبة، لذلك فقد الأب السيطرة الأسرية، وهذا أدى لفك بعض القيود الاجتماعية على المرأة بسبب ظهور تحول في التعليم والحياة ومؤسسات الدولة والبنى الاقتصادي.
هذا التحول الجديد في المجتمع ونمط الأسرة الفلسطينية كان له دور كبير في ظهور تيار حاول إعادة بناء الهوية الفلسطينية، فهذه التحولات لم تنل إعجاب المجتمع الأبوي الفلسطيني، الذي بدأ بإعادة إحياء الهوية الفلسطينية قبل النكبة ومحاولة الحفاظ عليها، وبالرغم من كون المطالبة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية يأتي ضمن مصلحة اجتماعية، إلا أنه ساهم بشكل مباشر في خلق وعي ذاتي، ساهم في إبراز حركة وطنية فلسطينية فيما بعد.
من خلال هذين العملين الأدبيين نستطيع أن نكتشف ملمحًا من ملامح تطور الهوية الفلسطينية بعد النكبة عبر محطات متتابعة، هذه التحولات التي لا زالت تؤثر في الهوية الفلسطينية ومركزية صراع الفلسطيني مع المحتل الذي يحاول طمس وجوده وسحقه، من خلال تشتيته وشرذمته، حيث تحول الصراع الجماعي مع المحتل في تلك الفترة إلى صراع فردي، وهذا ساهم بشكل غير مباشر في نشوء الأحزاب العربية المختلفة التي رفدت الهوية الفلسطينية وشحنتها للصمود في تلك البنية الاجتماعية الجديدة الطاردة لكل منافس.
برزت داخل السرد صورة الذات المبتورة، بتكرار طابع التقاطع (تفاعل الذات مع الزمن)، فالشخصيات تهرب دومًا نحو الماضي، أو تحاول استقراء المستقبل بالأحلام، والحالتان تدلان على الهروب من الواقع، مما يؤكد وجود صدمة تفصل بين زمنين مختلفي الملامح، وهذا يدل على ازدواجية هوياتية يغذي الواقع تجلياتها، ولا تقوم على موقف ثابت.
في علاقة الهوية بالأرض، لم تعد المنفعة الاقتصادية هي مقياس الارتباط بها بسبب استحالة منافسة الاسرائيلي وحكومته في تحقيق منفعة مادية، فأصبح التعليم يشكل بديلًا لتحقيق الذات أمام تلك الخسارة، وهنا بدأت الهوية تتجهُ نحو الذاكرة والذات والتاريخ، مما دفع إلى الالتفات للحفاظ على مكونات الثقافة الفلسطينية ومحاربة طمسها أو إلغائها.
أسست هذه الصورة للهوية مرتكزات عامة دفعت بالفلسطيني نحو فضاءات أخرى فيما يتعلق بالقضية على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكان لحرب النكسة عام 1967 دور في شحذ هذه الهوية بمتغيرات جديدة ساهمت في انتقال الفلسطيني من محاولة الثبات إلى المواجهة مع المحتل، وهذا التطور يحتاج تحليلًا آخر حسب المخرجات الأدبية لتلك الحقبة.
الصورة: من مدينة يافا لرفعت ترك - كانز معرض "وشراعي في مينا يافا".