بين يافا وغزة: النكبة مستمرة

 اكتب هذه المقالة وقد مضى على حرب الإبادة على أهلنا في قطاع غزة مئتي يوم. أكثر من ستة أشهر من المجازر، الدمار، التهجير، القتل، التجويع وكافة أشكال جرائم الحرب على شتّى أنواعها. بالأرقام، ما جرى منذ السابع من أكتوبر هو أصعب بكثير مما جرى لأبناء شعبنا في نكبة عام 1948. عدد الشهداء والجرحى أكبر بكثير، كذلك عدد المهجّرين والبيوت المدمّرة ولكن الفرق الأساسي والجوهري هو بقاء أهلنا في قطاع غزة وأمل إعادة الإعمار والنهوض من جديد.

لنكبة عام 1948 أبعاد ونتائج كثيرة على شعبنا الفلسطيني وعلى محيطنا العربي في كل مجالات الحياة، لكني في هذه المقالة اخترت التركيز على إحدى أهم هذه النتائج وهي منعنا من العودة الى وطننا وحرماننا من إمكانية إعادة الإعمار والتطوّر في وطننا كباقي شعوب الأرض.

النكبة كانت شاملة وأثّرت علينا في كل شيء، خلال حرب عام 1948 تم تهجير نصف أبناء شعبنا وهم ما زالوا لاجئين وممنوعين من العودة حتى يومنا هذا. هم يعيشون ويتطوّرون خارج حضن الوطن أو كما سمّاها إدوارد سعيد في مذكراته "خارج المكان"، وأيضًا في حالة من "المؤقت الأبدي" وغير المعروف، أي أننا نتطوّر ايضًا بمفهوم معيّن خارج الزمان. حلم العودة موجود لدى جزء منا ولكن بدون أي مشروع سياسي يحوّله إلى حقيقة. أغلب أبناء شعبنا ما زالوا يعيشون بحالة دائمة من عدم الاستقرار النفسي والسياسي بسبب حالة "اللجوء المؤقتة" او في انتظار حل سياسيٍّ للقضية الفلسطينية يأتي من حيث لا يدري من أجل أن نعود الى الحياة داخل الزمان والمكان من جديد.

لقد اعتدنا أن نتحدث عن نكبتنا بشكل عام وبالأرقام الجافة دون التطرّق إلى قصص حياة أبناء شعبنا المنكوبين. نتحدث عن عدد القرى المهجرة، سرقة الأملاك، عدد اللاجئين، المخيمات، الدول العربية، الحركة الصهيونية، وعد بلفور، الاستعمار، الامبريالية وكل ذلك صحيح ومهم. ولكننا لا نتحدث بما يكفي عن تأثير النكبات المتتالية على حياة الأفراد. كأننا ننسى أن النكبة هي نكبتنا نحن، أبناء الشعب الفلسطيني. النكبة هي قصة وائل الدحدوح، وقصة الطفلة هند وقصة الأكاديمي والشاعر رفعت العرعير وقصة كل واحد وواحدة من أبناء شعبنا. علينا أن نعمل بشكل جماعي على "أنسنة" النكبة وعلى تعميم قصص الأفراد وتأثير النكبة على كلٍ منّا.

كما أنّ النكبة هي حدث مستمر لم ينته مع وقف إطلاق النار عام 1948، ولم يؤثر فقط على الجيل الذي عاشها مثل جدي أبو صبحي إسماعيل أبو شحادة. لقد وصلت إلى هذه الاستنتاجات بعد سنوات طويلة من القراءة والبحث والتفكير في هذا الحدث الهام في تاريخ شعبنا الفلسطيني، بالإضافة إلى الاستماع الى عشرات القصص لأبناء مدينة يافا الذين عاشوا نكبة عام 1948 وإجراء مئات الجولات الميدانية لتعميم قصة نكبة مدينة يافا وأهلها على عشرات آلاف الناس. مع التجربة، علمت أنّ قصص الأفراد وتأثير النكبة علينا نحن كبشر، كان أهمّ وأقوى من الحديث عن النكبة بالأرقام وبالعموميات لأنّ قدرة أي إنسان على الارتباط بقصة إنسانية والتعاطف معها أكبر بكثير من قدرته على الارتباط بالأرقام والأمور العامة. لذلك، أقترح على كل من يعمل على دراسة وتعميم النكبة، وخاصّة على الفنانين ومخرجي السينما، أن نكثّف عملنا وأنّ نركز روايتنا التاريخية على قصص الأطفال والنساء والرجال، وإعطاء أسماء وشخوص وحياة لهذه الأرقام.

لقد وُلدت عام 1975 ودرست بحسب مناهج التعليم الإسرائيلية التي عملت، وما زالت، على تجهيلنا ومحو روايتنا التاريخية وزرع الرواية الصهيونية في عقولنا. بعد سنوات من البحث والعمل الشاقّ، بدأت أدرك أنّ النكبة أثّرت عليّ في كل مجالات الحياة. النكبة حدّدت مكان ولادتي في مدينة اللد وليس في مدينة يافا التي وُلد فيها أبي وأمي وأجدادي، وذلك لأنّ دولة إسرائيل لم تكتفِ بتهجير جزء من أبناء العائلة وإنّما صادرت أرضنا وبيارتنا مما أدخلنا في صراع قانوني طويل مع الدولة، أدّى في نهاية الأمر لتعويضنا في أرض في مدينة اللد داخل حيّ غير معترف به يفتقر إلى البنى التحتية والخدمات الأساسية كالماء والكهرباء. جدي خليل أبو شحادة (أبو حسين)، لأنّه كان فلاحًا، اختار أن يترك مدينة يافا بشكل مؤقت ليعمل في الأرض حتى يكون هناك حلّ عادل وأن يعود إلى أرضه وبيارته. صراعه مع الدولة على الأرض حوّله إلى مناضل من أجل حقوق شعبنا في العودة والاستقلال، مما أدخله إلى السجون والمعتقلات لعدّة سنوات وغيّبه عن عائلته، وبدوره اضطر أبي الى ترك مقاعد الدراسة التي أحبّها والخروج إلى العمل في الصف الثامن لكي يعمل على إعالة أمه وأخوته الثمانية.

يافا، التي ولد فيها أجدادي قبل النكبة، كانت أهمّ مدينة عربية في فلسطين من حيث عدد سكانها وكونها أهمّ مركز ثقافي واقتصادي على مدار عشرات السنوات. بينما يافا التي عشت فيها، كانت قد تحوّلت إلى حيّ فقر وجريمة داخل مدينة مختلطة فيها أغلبية يهودية تسيطر على كل شيء، بينما تحوّلنا نحن، أبناء البلد الأصليين، إلى أقلية هامشية في مدينتنا. يافا التي ترعرع بها أجدادي، كانت القلب النابض لفلسطين في التاريخ الحديث، وإحدى أهمّ مدن الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. بينما يافا التي عرفتها، كانت قد أصبحت جزءًا من مدينة تل أبيب وأصبحنا نحن نعيش على هامشها.

النكبة فرضت علينا حدودًا نرفضها ولكنها موجودة، مثل تعريف العدو والصديق. بعد حرب عام 1948، عرّف القانون الإسرائيلي عالمنا العربي "كدول عدو" وأصبحت بيروت والقاهرة ودمشق أبعد لنا من نيويورك ولندن وباريس، وحُرمنا حتى الآن من التطوّر ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا مع هذه المراكز الهامّة في تاريخ شعبنا. قبل النكبة كان جدي أبو صبحي يذهب الى شارع الحمرا في بيروت ليستمع إلى أمسيات الزجل اللبناني، وكان خاله أبو محمد يتاجر بالفاكهة السورية. أمّا أنا، فتبدو لي زيارة بيروت البعيدة عني 225 كيلومترًا فقط، حلمًا صعب المنال.

كل شيء تغيّر في يافا التي عرفتها. لقد أصبحنا نحن أهل البلد، خارج كل دوائر اتخاذ القرارات المهمة والمتعلّقة بتخطيط حاضر ومستقبل المدينة وسكانها. أصبحنا أقليّة في وطننا، ممنوعين من رفع العلم الفلسطيني، والتمسك بهوّيتنا وتاريخينا يُعتبر "تطرفًا سياسيًا". ميناء يافا والذي كان أهمّ ميناء بحري في فلسطين في التاريخ الحديث، تحوّل الى مرسى هامشيّ لرسو السفن واليخوت ويوجد فيه بعض مطاعم السمك المستورد، لأنّ صيد الأسماك الذي استمر على مدار آلاف السنوات، يُمنع بسبب السياسات الاقتصادية الإسرائيلية. برتقال يافا، الذي كان يُصدّر بملايين الصناديق إلى أهم العواصم في العالم، أصبح تاريخًا بعيدًا ولم تحتفظ إسرائيل حتى ببيارة واحدة من أجل الحفاظ على ذاكرة البرتقال.

حافظت يافا على جزء من جمالها وهي ما زالت الموقع الثاني من ناحية زيارة السياح الأجانب بعد القدس في فلسطين التاريخية. ولكن كل صناعة واقتصاد السياحة تحت سيطرة رؤوس الأموال الإسرائيلية، ونحن ممنوعون بحسب القانون من رواية تاريخنا للسياح لأنّ ذلك يزعج وزارة السياحة في إسرائيل التي تعمل ليل نهار على محو تاريخنا وهويتنا. أسماء الشوارع في المدينة تمّ تهويدها وأقلّ من 1% منها تحمل أسماءً عربية، وكلها شوارع فرعية صغيرة وغير مهمة.

بدأت النكبة عام 1948 ولم تنته هناك، هي مستمرة لأنّ المشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري في فلسطين ما زال يعمل على منع عودتنا ومنع الوصول الى أي تسوية تاريخية عادلة، لذلك نرى محاولات التهجير في غزة منذ بداية الحرب وتهجير آلاف من سكان الضفة خلال الحرب وقبلها وسياسات مصادرة الأراضي وهدم البيوت ومحاصرة الوجود في الداخل الفلسطيني. لن يتوقف هذا الحدث وتبعاته من التأثير علينا بدون أن يكون هناك مشروع وطني فلسطيني يهدف الى الوصول الى حلّ سياسي عادل وتسوية تاريخية. في ظلّ هذه الظروف وجرائم حرب الإبادة المستمرة، يبدو ذلك بعيدًا جدًا ولكن ذلك يؤكّد على أهميّة تكثيف الجهود لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية والاتفاق على المشروع الوطني الفلسطيني وعلى استراتيجيات النضال لتحقيق هذا المشروع.


الصورة: ليافا عام 1946 لرفعت ترك - كانز معرض "وشراعي في مينا يافا".

سامي أبو شحادة

أكاديمي وسياسي فلسطيني، مقيم وناشط في مدينة يافا، نائب سابق في الكنيست ورئيس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"

لبنى
نفتخر بككم
السبت 4 أيار 2024
شاركونا رأيكن.م