خطة الله الجيوبوليتيكية

 ربما يذهب الظن ببعض من سمع أقوال القس السابق، وعضو مجلس النواب الأمريكي الجمهوري عن ولاية ميشغان تيم والبيرغ حول ضرورة جعل مصير غزة مشابها تماما لمصير هيروشيما وناكزاكي. ربما ذهب بهم الظن إلى أنه مجرد شخصية متطرفة غارقة بالعنصرية، أو أنه شخص مهووس أوصلته الظروف إلى المناصب العامة، كما يحدث في بعض الأحيان، لكن هذا في الحقيقة ليس موقفا فرديا تدفعه الحماسة للبروز على السطح، إنما يأتي في سياق متنامي لأسطرة المعتقد الطائفي، منذ انطلاق الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر، والذي تحول في وقت قصير إلى ثلاثة تيارات دينية رئيسة في الطائفة البروتستانتية، هي: اللوثرية، والكالفينية، والإنجيلية الإنكليزية. ثم تفرعت بها الطرق فيما بعد إلى الكثير من الجماعات التي يصعب حصرها في عرض سريع.

ما يخدم سياق الحديث هنا، هو تمهيد السرد التاريخي من الحالة الإنكليزية على وجه الخصوص منذ القرن السادس عشر، حين استلم العرش هناك الملك هنري الثامن في العام 1509م. هذا الملك الذي استهل اندفاعه الديني بالعداء لمارتن لوثر، حتى أنه وضع كتابا يفند فيه ردودا على إصلاحات مارتن لوثر. إلا أن وضع العائلة الملكي لاحقا، اضطره إلى الزواج من أرملة أخية الأميرة الإسبانية الأصل كاثرين، وفقا لإرادة الأسرتين الملكيتين في إسبانيا وإنكلترا. لكن هذا الزواج لم يثمر عن مولود ذكر، فقد أنجبت له كاثرين ابنة تدعى ماري، مما حدا بهنري لحث السعي وراء زواج جديد يأمن له إنجاب وريث للعرش، فاصطدم هذه المرة بمعارضة البابا للطلاق من كاثرين، وكان ذلك بالتحديد، هو الدافع الرئيسي لانشقاق هنري الثامن عن الكنيسة الكاثوليكية، والقيام بتأسيس الكنيسة الأنغليكانية، جاعلا من الملك رأسا لهذه الكنيسة، بدل من رجل دين يتمتع بمنصب كهنوتي.

 كان هذا الانقسام في حقيقة الأمر شكليا إلى حد كبير، لكنه أتاح لهنري الزواج عدة مرات، كان أشهرها زواجه من آن بولين ومن جين سيمور أيضا، والتي أنجبت له أخيرا الذكر الوحيد إدوارد. وفي آخر المطاف مات هنري مخلفا وراءه ما يقارب السبعين ألف قتيل، وورثة عرش أفناهم المرض إلى أن استقرت الأمور للوريثة الأخيرة ابنته إليزابيث الأولى، أو كما يلقبونها الملكة العذراء التي دام حكمها أربعا وأربعين عاما. ومن الناحية الدينية برز في هذه المرحلة على الساحة الإنكليزية ثلاثة تيارات رئيسية: الكاثوليكية، والأنغليكانية، والبروتستانت الخُلّص، مما أدى للكثير من الاضطراب، ودفع إليزابيث لاستهلال عصرها بعمل توفيقي في كانتربري، بحيث جعلتها كنيسة بروتستانتية المبادئ وكاثوليكية المظهر، لكن هذا لن يكفي فيما بعد لاستتباب الهدوء والطمأنينة، لأن مجلس الكنيسة الأعلى عمل على اضطهاد مجموعة دينية بروتستانتية كانت قد بدأت تتبلور منذ عهد هنري الثامن. هذه الجماعة هي البيوريتانية أو التطهيرية المؤمنة بالكتاب المقدس بحرفيته. انتشرت هذه الطائفة في المدن الصغيرة والأرياف على نطاق واسع، وأسست لنفسها كنيسة مستقلة عن كانتربري، مما جعل ملوك إنكلترا المتعاقبين ينزلون بها الاضطهاد على الدوام، فاندفع منتسبوها إلى هجرة أولى فاشلة باتجاه هولندا في العام 1620م، تبعتها بعد عشر سنوات هجرة ثانية في العام 1630م إلى مستعمرة نيوإنغلند في أمريكا الشمالية، ليتقصى أثرها فيما بعد أغنياء هذه الطائفة المؤسسة لولاية مساتشوستس.

وإذا عدنا إلى طروحات عضو مجلس النواب الأمريكي تيم ويلبرغ، فسنرى أنه لا يقدم مجرد أفكار آنية أو رغبة شخصية متحيزة، بل هو يجسد معتقدا دينيا بدأ يتبلور منذ ذاك الفاصل الزمني الذي ظهر فيه البيوريتانيون في إنكلترا، ثم الكويكرز في الولايات المتحدة، وتطورت التنبؤات على لسان كهنوته من حرب هار مجيدون بالبندقية والمدفع، وصولا إلى حرب هار مجيدون  بالأسلحة النووية. لقد بدأ انتشار هذه الطوائف الدينية في القرنين السادس والسابع عشر، ومع انطلاق العلوم تأثروا أيضا بنظرية داروين فيما يخص البقاء للأفضل تحديدا، لكن الفكرة الأساسية انطلقت من القول بأن السيد المسيح كان يهودي المنشأ أصلا، فسعى إلى الإصلاح داخل الديانة اليهودية نفسها، وكان المستجيبون الأوائل له من اليهود، لذا فهم أيضا شعب الله المختار، أو بالتحديد، إن الخُلّص من المسيحين هم شعب الله المختار الذين سيأخذهم المسيح بعد عودته الثانية إلى ملكوته. وفيما يخص الطريقة المرتقبة لعودة السيد المسيح من أجل الخلاص، فإن مدرس علوم الدين جون نلسون دربي يضع تصوره الكامل على الطاولة بتقسيم التاريخ إلى سبع مراحل متتابعة، ينطلق الفصل الأول منها بخلق العالم، يلي ذلك مرحلة آدم وحواء، ثم مرحلة نوح... وتختم هذه المراحل بعودة المسيح التي تمهد لها معركة هار مجيدون الطاحنة، لهذا يتنبأ دربي أن رجوع اليهود من الشتات إلى أرض الميعاد، كبديل لدور الكنيسة، سيؤدي لقيام دولتهم المنشودة، فيتكاثر عليهم الأعداء، ويختار اليهود من بينهم مسيح كاذب يشيد الهيكل الثالث، مما يقود لنشوب معركة هار مجيدون تمهيدا لظهور المسيح، فحلول الساعة الأخيرة. جون نلسون دربي هذا كان قس إنكليزي من أصول إيرلندية. عاش بين الأعوام 1800 – 1882م، وكان عضو في جماعة بروتستانتية انفصالية، لكن تأثيره وصل أبعد من ذلك بكثير، إذ أنه قام بعدة رحلات إلى كندا والولايات المتحدة، وترك أثره القوي على راعي الكنيستين الكبيرتين في سانت لويس بميزوري جيمس بروكس، وبعدها انتقلت هذه الأفكار إلى سايروس إنجيرزون سكوفيلد الذي عقد في العام 1875م عددا من المؤتمرات حول النبوءات في الكتاب المقدس، مستخلصا أن " مخطط الله على الأرض من أجل إسرائيل، ومخطط الله في السماء من أجل المسيحيين المخلصين ". وفي العام 1909م طبع سكوفيلد أول مرجع إنجيلي له، وأصبح أكثر الكتب تداولا حول المسيحية، حيث بيعت منه ملايين النسخ.

هذه القاعدة الإيمانية التي زرعها دربي في أمريكا، كانت بمثابة السهم الذي انطلق، ولم يبلغ هدفه بعد، فقد ظهر جيل بعد آخر من المبشرين بمعركة هار مجيدون، كل واحد منهم يطلق اجتهاداته في تفسير سفر الرؤيا لزكريا أو سفر الرؤيا ليوحنا، ويضيف شيئا هنا أو هناك على تصورات دربي، فالكاتب التوراتي الأمريكي هال ليندسي يذكر في كتابه ( الكرة الأرضية العظيمة السابقة ): " إن دولة إسرائيل هي الخط التاريخي لمعظم أحداث الحاضر والمستقبل... ". وفي كتابه ( العالم الجديد القادم ) يقول: " إن عيسى المسيح سوف يضرب أولا أولئك الذين دنسوا مدينة القدس، ثم يضرب الجيوش المحتشدة في هار مجيدون. فلا غرابة أن يرتفع الدم إلى ألجمة الخيل مسافة مئتي ميل من القدس... ".

 ويقوم الكاتب جيري فولويل، مستلهما عن إصحاح زكريا وإصحاح إسحاق، بتحديد مساحة المعركة التي تغطيها موقعة هار مجيدون، كما يستلهم أعداد جيوش المهاجمين الأشرار. إضافة له، فهناك الكاتب بات روبرتسون وجيمي سواغارت، وغيرهم من كتاب اليمين المسيحي الذين بشروا بالعودة الثانية للمسيح بعد حرب نووية  هذه المرة، فيرفع فيها المسيحيين المخلصين من الأرض ليجتمعوا به فوق الغيم، ومع نهاية المحنة ينزلون برفقته لخوض معركة هار مجيدون، وتدمير أعداء الله، ومن ثم ليحكم الأرض ألف عام قبل يوم الحساب. ولم يقتصر التبشير على الكتب المطبوعة والمنشورات وعضات الكنائس، بل انتشرت بشكل غير مسبوق برامج الوعظ التلفزيوني أو في محطات الراديو، حتى أن شبكات إعلامية كاملة أسست لهذا الغرض، منها على سبيل المثال الشبكة التلفزيونية المسيحية ( سي. بي. إن ) التي امتلكت نادي السبعمائة، ومحطة راديو، ومحطة تلفزيون ( سي. بي. إن )، بالإضافة إلى محطة تلفزيون جنوب لبنان الميدل إيست. وانبرا المبشرون فيها لتطوير سلاح المعركة في هار مجيدون وصولا إلى السلاح النووي الذي سيدمر الأرض، ووسعوا أيضا نطاق المعركة وفقا لترجمتهم الجديدة لفصول سفر حزقيال التي تتحدث عن ياجوج وماجوج، لتشمل من الأعداء شيطانا أكبر متمثلا بالاتحاد السوفييتي إلى جانب بعض الدول التي لم يأتي جون نلسون دربي على ذكرها، من مثل ليبيا وإثيوبيا وإيران، وغيرها من الدول الشريرة، تبعا للصراع الدولي القائم في كل مرحلة سياسية. والحصيلة لهذا الموج العالي الذي نفخ به المبشرون الإنجيليون، وصل في الولايات المتحدة وحدها عدد الأتباع المتحمسين إلى عشرات الملايين، منهم من يقدره اليوم بسبعين أو ثمانين مليون إنجيلي، معظمهم لم يزر هار مجيدون، ولا يعرف أنه مجرد تل منخفض شكّله تراكم السويات الأثرية لاستيطان قديم كان يتجدد من حين إلى آخر، ولا يشبه في تضاريسه وارتفاعه أصغر جبل في العالم.

الخطر الأعظم في هذا التيار الغيبي الذي صار يطلق عليه تسمية " التدبيريين "، يتضح جليا في تشابكه مع السياسة. فعندما يكون رئيس أعظم دولة في العالم كرونالد ريغان متشبع بكل طاقته بتنبؤات هذا التيار، عندها يصبح الخطر داهم، وتطفو تصريحات شخص مثل تيم ويلبرك كتعبير مخلص وواقعي عن حالة هرمية يقف على رأسها أكبر الشخصيات المتنفذة على وجه الأرض. 


الإحالات:

[1] من أجل صهيون _ فؤاد شعبان

[2] النبوءة والسياسة _ جريس هالسل

[3] الكتاب المقدس والسيف _ باربارا توخمان 

الصورة: من موقع https://walberg.house.gov/abou.

نضال عارف الشوفي

درس المسرح في الجامعة العبرية بالقدس لمدة سنتين. درس علم الآثار والمتاحف في جامعة دمشق لأربع سنوات. ودرس التصوير الفوتوغرافي لمدة سنتين في المركز الثقافي الفرنسي. والمركز الثقافي الروسي، وشارك في أربع معارض في دمشق والجولان. مارست الكتابة الأدبية. وصدر له رواية بعنوان " شجرة اسمها نعمة "، ومجموعتين قصصيتين تحت العناوين: " هكذا أتشبه بالشجر "، و" البيضة والسهم ". إضافة لمشاركة وحيدة مع مجموعة من الكتاب العرب في كتاب " أنطولوجيا القصة القصيرة ". ونشر له العديد من المواد في المجال الأدبي، وفي تاريخ الفن والتاريخ الأثري في مجلات ودوريات كتشرين الثقافي، والمؤرخ المغربية، وواتا، وفي نشرات ومواقع محلية.

رأيك يهمنا