النزوح من ثالث أقدم كنيسة في العالم في غزة: كلنا في الإبادة سواء مسيحي أو مسلم وقاتلنا واحد!
"يارب ارحمنا، يارب كن معنا واحمينا واحمي شعبك في غزة وتحنن علينا وأعطنا السلام"
هذه الكلمات رددتها بسمة عياد صاحبة الابتسامة الهادئة- طيلة أيام الحرب بينما كانت تحتمي بالكنيسة من القصف الإسرائيلي المستعر، وقذائفه الملتهبة التي لم تتوقف منذ السابع من أكتوبر حتى الآن.!
بسمة عياد ذات الأربعون عاما كانت تعيش في غزة، متزوجة ولديها ثلاثة فتيات الكبرى (جوانا) سنة ثالثة في جامعة الأزهر "تخصص تكنولوجيا المعلومات"، والوسطى (ميرا) سنة أولى جامعة "تخصص ملتيميديا" والصغرى (ناتالي) في الصف الثامن، بيتها يقع مقابل ميناء غزة، وهو المكان المفضل لها ولعائلتها.
بسمة وعائلتها
تستذكر الأيام والسنوات الجميلة التي عاشتها في مدينة غزة، وكيف على حد وصفها أصبحت من أجمل المدن في السنوات الأخيرة، خاصة على كورنيش بحر غزة التي أصبحت منطقة سياحية تنافس المدن المتكئة على خاصرة البحر الأبيض المتوسط، تستذكر روح المكان وعشقها وبناتها لغزة وتصفها "بغزة الجميلة" قائلة: "قد نكون خرجنا منها لكنها لم تخرج منا، ونشعر بالقهر والألم واللوعة كلما استمرت حرب الإبادة، فقد كنا في مثل هذه الأوقات من كل عام نتزاور مع الأصدقاء والأقارب نقوم بالصلاة في الكنائس، ونحرص على تأدية الشعائر الدينية ونشارك الجميع يومنا ومناسباتنا وهم بالمثل"
وعلى أبواب شهر رمضان المبارك واستمرار حرب الإبادة الجماعية على غزة تقول بسمة: "رمضان مناسبة جميلة بالنسبة لنا أيضا كمسيحيين إذ نتزاور مع جيراننا وأصدقاءنا المسلمين في طقوسه وزينته ونهنئهم بالشهر الكريم، وكم أحببنا أجواؤه في غزة إذ نكون جميعا كأسرة واحدة فيها المسلم والمسيحي، فغزة تجمعنا على الحب والتوحد فمصيرنا جميعا مشترك وواحد "
الفرار من كنيسة إلى كنيسة.!
وعن تجربتها وعائلتها في الحرب المتواصلة على غزة تقول بسمة:
"في تمام السادسة والنصف من صباح 7 أكتوبر ذعرت غزة بأكملها على صوت الانفجارات والقصف، وفوجئنا جميعنا بحرب تبدو مختلفة عن سابقاتها التي عشناها فشدة القصف جعلتنا نشعر بذلك، تمنينا ألا تطول الأيام الصعبة لكنها جاءت بغير ما تمنينا، وفي 10 أكتوبر فزعنا على صوت مئات وآلاف من النساء والأطفال والرجال وضجيج السيارات والحافلات يملأ المنطقة حولنا قرب ميناء غزة، هرعنا لمعرفة سبب نزوح الناس بهذه الأعداد باتجاه الجنوب خارجين من مدينة غزة، فالجميع يخلي المنطقة رغما عنه وسط بكاء الأطفال والنساء، وقد امتلأ المحيط بالصراخ والفزع والخوف مما يجهلونه، أسرعنا نحن أيضا نعد ما يمكننا من أغراض أساسية لكل فرد من عائلتي، وما كدنا نخرج حتى تم قصف العمارة التي تجاور بيتنا، لم يكن هنالك وقتا لفهم ما يدور حولنا، كنا نركض ونمسك بأيدينا بعض الحقائب، وقد ملأ الخوف والرعب قلوبنا من شدة الانفجارات والقذائف التي لم تتوقف، والتي تبدو كأنها يوم القيامة مع مشهد الناس النازحين والهلع كان سيد الموقف"
تضيف بسمة: "انتقلنا إلى بيت أهلي في منطقة حي النصر بغزة، ولم نفكر أننا مجبرون على الخروج من غزة في ذلك الوقت المبكر من الحرب، وفي 12 أكتوبر قامت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بإلقاء عشرات الآلاف من المنشورات باللغة العربية تطالبنا بإخلاء منطقة غرب غزة والتوجه نحو جنوب القطاع، لم نكن نعرف أحدا هناك، ولم ندرك أين يمكننا الذهاب في الجنوب، كنا في حيرة من أمرنا ولا نملك رفاهية الوقت للتفكير أو الاختيار فكما أسلفت شعرنا أن هذه الحرب ليست كباقي الحروب والعدوانات السابقة، وتزامنت هذه الأوامر العسكرية الإسرائيلية مع فتح الكنائس أبوابها لاستقبالنا والحماية إليها فكانت بالنسبة لنا كطوق النجاة، وسارعنا بالانتقال إلى كنيسة القديس بارفيريوس الموجودة في منطقة الزيتون بغزة، وهناك احتمينا نحن وقرابة الـ 400 مسيحي في الكنيسة من الحرب"
وتكمل بينما تلتقط أنفاسها فكأنما المشهد ماثلا أمامها كأنه يحدث الآن مرة أخرى:
"في 19 أكتوبر تم استهداف مبنى تابع لكنيسة القديس برفيريوس وهو مبني بجوارنا تماما، فزعنا وقتها فقد كان صوت الانفجار مخيفا مع الفوضى التي خلقها، وصوت هلع وصراخ وبكاء الأطفال والنساء، تجمدنا في أماكننا مع سماع دوي انفجار ثاني في نفس المكان بجوارنا بعد أقل من 30 ثانية من الصاروخ الأول، تدمر المبنى وانهار على مئة نازح ونازحة فيه.!"
الملحق المدمر لكنيسة برفيريوس
وتضيف بحزن بالغ: "جاء الدفاع المدني ليحاول انقاذ من هم تحت الأنقاض لساعات طويلة استمرت لليوم التالي، وبسبب انقطاع الكهرباء زادت المشقة والمعاناة لإنقاذ ناجين وتضاءلت فرص من يمكن انقاذهم ليخرجوا من تبقى شهداء وقد أسلموا الروح كان معظمهم من النساء والأطفال، واستشهد 18 انسان نازح برئ في الكنيسة التي لجأوا إليها "
"ومع الدمار الذي لحق بالكنيسة لم يعد المكان آمنا ولا ملائما للبقاء لأحد، اضطررت وعائلتي للنزوح إلى مكان آخر وتوجهنا لكنيسة دير اللاتين الموجودة في حي الزيتون بالبلدة القديمة بغزة، بقينا فيها 23 يوم تحت الحرب المستمرة"
وتضيف بسمة: "تضم كنيسة دير اللاتين مدرسة وكنيسة بداخلها، وفيها صفوف منفصلة، فلجأنا وباقي النازحين للصفوف المدرسية كمعيشة ومنام، وتوفرت فيها -في ذلك الوقت -مياه للشرب، وطاقة شمسية لتوفير الكهرباء بالحد الأدنى لاحتياجات النازحين، لكنا جميعا فقدنا مفهوم الأمان، حتى في أماكن عبادة الله إذ لا مكان آمن في غزة من صواريخ وقذائف الجيش الإسرائيلي."
كنيسة دير اللاتين
يقع دير اللاتين شرق غزة، وهو مجمع مسيحي يتبع للطائفة الكاثوليكية، له أسوار غير مرتفعة، ومبني منذ ستينيات القرن الماضي من الحجر الجيري، ويضم داخل حرمه كنيسة العائلة المقدسة، ومدرسة ابتدائية وروضة، وكذلك بيت راهبات الأم تريزا، ومجمع الرعية، وتعد كنيسة العائلة المقدسة هي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في قطاع غزة، وتديرها بشكل مباشر البطريركية اللاتينية في القدس، وينتسب لها نحو 80 كاثوليكي، أما مجمع الرعية، فهو موطن للمبشرين الخيريين، وهي جماعة أسستها الأم تيريزا مخصصة لخدمة المرضى والمعاقين، وفي ذلك المكان يعيش 54 شخصاً من ذوي الإعاقة تقوم على رعايتهم راهبات من مختلف الجنسيات.
يأوي دير اللاتين نحو 600 نازح، وهؤلاء يشكلون نصف أعداد المسيحيين في غزة البالغ 1000 شخص، فيما يحتمي 400 في كنيسة الروم الأرثوذكس.
محاولة للنجاة من جحيم الحرب
وتكمل بسمة: "اضطررنا مع احتدام القصف وعدم الشعور بالأمان إلى التوجه لما سمي حينها الممر الآمن، وفي ذلك الوقت تمكنا من العثور على سائق مركبة وافق أن يوصلنا إلى دوار الكويتي عند مشارف مدخل غزة للجنوب، وفعلا عند مكان معين نزلنا ومعنا الحقائب المدرسية الخاصة ببناتي، ووضعنا فيها بعض الأشياء التي تمكنا من أخذها من بيتنا سابقا، ثم مشينا على الأقدام حتى وجدنا عربة يجرها حمار، وكان السائق "أي صاحب العربة" يوصينا ألا نلتفت لأي صوت لإطلاق النار، وإذا سقط منا أي شيء لا يجب النظر إليه أو محاولة أخذه، وأوصانا أيضا ألا ننظر خلفنا حيث كانت الدبابات موجودة ومختفية خلف سواتر رملية ونقترب منها أكثر وأكثر، وعند نقطة معينة أيضا اضطررنا أن نمشي كما باقي آلاف من النازحين سيرا على الأقدام، وصوت مكبرات الصوت تنطق باللغة العربية من الجنود الإسرائيليين يلقون بأوامرهم على النازحين الذين أجبروهم على ترك مدينة غزة، فحينا يطلبون شابا معينا، ويقومون باعتقاله أو يطلبوا من امرأة القاء ما تحمله، وهكذا كان الخوف والقلق يسيطر علينا، ومشيت وزوجي بطريقة معينة في محاولة لحماية بناتنا، بحيث تكون بناتنا الثلاثة يسرن بيننا، خوفا وخشية من فقدانهن بسبب الأعداد الكبيرة من النازحين أو خشية من تعرضهن لأي إيذاء من جنود الاحتلال الذين لم يراعوا حرمة أحد طفل أو امرأة أو شيخ أو مسلم أو مسيحي، كانت ساعات قاسية جدا لا يكف فيها قلبنا ولساننا عن الصلاة واللجوء إلى الله لينجينا من هول ما يحدث حولنا..!"
"شاهدنا الدبابات الإسرائيلية أثناء سيرنا تحيط بالنازحين من كل مكان، كان المشهد مخيفا خاصة وأن كثير ممن أجبروا على النزوح كبار في السن ومرضى، ونساء يحملن أطفالهن ويسير الجميع مسافات طويلة وصوت الرصاص والانفجارات لا يتوقف، كان الجميع يرفع يديه إما بالرايات البيضاء أو بالبطاقات الشخصية وفق ما يطلبه الجنود عبر مكبرات الصوت، وفعلنا بالمثل، كان كل شيء كأنه كابوس كلما أتذكره لا أصدق أننا نجونا منه...!"
وتكمل بسمة: "بحمد الله وفضله تمكنا- بعد عناء شديد من الوصول لرفح، وتوجهنا مباشرة لمعبر رفح، حيث أن زوجي لديه الجنسية المصرية ما ساعدنا على الخروج مجبرين من غزة، تاركين خلفنا أهلنا وأحبابنا وبيوتنا ومدارس وجامعات بناتي التي قام الاحتلال الإسرائيلي بتدميرها والقضاء على مستقبلهن التعليمي، تركنا خلفنا أحلامنا وحياتنا ونحن الآن لا نكف عن الشعور بالخوف والقلق على من تبقى من أهالينا والخوف والرعب من مستقبلنا كيف يمكن أن نتصور حياتنا بدون غزة؟؟! صوت القصف يلاحقنا في منامنا وصحونا، نواصل الليل بالنهار للاتصال مع أمي وأختي وأخوتي وعائلة زوجي لنطمئن عليهم يوميا، لقد قتلتنا الحرب نعم لقد نجونا بأجسادنا، لكنا لم ننج بأرواحنا ونحن في حالة انتظار مرعبة، نصلي لانتهاء الحرب ونجاة غزة وأهلها، غزة تستحق الحياة والحرية"
لم ننج بعد وحال الكنائس كحال غزة
وعن عائلتها وعائلة زوجها الباقين تحت القصف وحرب الإبادة المستمرة على غزة تقول بسمة: "بالتأكيد الآن أشعر بخوف شديد على عائلتي وأهلي وأهل زوجي خاصة بعد قنص سيدتين مسيحيتين في ساحة مجمع دير اللاتين وأصبحت أكثر خوفا ورهبة من هول ما يحدث في غزة بعد خروجنا".
"ففي نهاية العام المنصرم كانت السيدة ناهدة أنطون تمشي ببطء من مبنى كنيسة العائلة المقدسة متوجهة إلى مجمع الرعية الموجود في حرم دير اللاتين، الذي يقع شرق مدينة غزة، عندما أطلق عليها قناص إسرائيلي رصاصة صوبها نحو قلبها لتسقط والدماء تتناثر من حولها، ورأت ما حدث ابنتها سمر التي هرعت لتركض بسرعة لإنقاذ أمها، لم تفكر للحظة أن ذات الجندى الإسرائيلي ينتظرها ليقنصها برصاصاته الغادرة لتقع بجوار أمها ناهدة وتقتلا على الفور بينما ضحكات الجندي الإسرائيلي تعلو كأنه مشهد من لعبة القناص نفذها ونال من السيدتين الفلسطينيتين وفي قلب الكنيسة..! صوت الرصاص وصرخات السيدتين جعل النازحين يركضون في محاولة لإنقاذهن وجاهد الشباب ليشكلوا درعا لحماية بعضهم البعض لكن القناص كان يقتل كل ما يتحرك وواصل امعانه في استهداف النازحين في قلب الكنيسة، وأصاب عشر آخرين بعد أن استشهدت كلتا السيدتين.! ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد نالت القذائف الإسرائيلية من كنيسة دير اللاتين واشتعلت النيران، وتسببت الانفجارات بانهيار سقف راهبات الأم تريزا، والخراب الذي طال أماكن لجوء النازحين فلا كنيسة ولا مسجد ولا جامعة ولا مشفى لها أي حرمة أو حماية حقوقية دولية."
حال المسيحيين في غزة كما حال المسلمين نساء وأطفال ورجال لا تفرق آلة القتل الإسرائيلي بين مسلم ومسيحي، كما لا تفرق بين كنيسة ومسجد فكلاهما مستهدف، كل ما هو فلسطيني في قطاع غزة من بشره وحجره وشجره هو هدف للجيش الإسرائيلي الذي يصر على قتل كل مقومات الحياة في غزة، ولو تمكن لألقى برأيي بكل أهل غزة إلى البحر فهو عدو لا يردعه أي قانون أو أخلاق عن الاستمرار في جرائمه اللاإنسانية، فلم يتوانى عن النيل من أقدم كنائس هذه الأرض وأعرقها، ولم يتوانى عن هدم التاريخ والعلم والثقافة فلا عذراء تشفع ولا معبد أثري يريده أن يبقى..!! لكن أهل غزة بمسلميها ومسيحيها ولدوا من رحم المعاناة وسيشهد التاريخ أنهم الأحق بالحياة، سيزول الاحتلال وسيبقى أهل غزة رافعي الرؤوس رغم الثمن الباهظ الذي دفعوه من دماء أطفالهم وعائلاتهم لكنهم الحقيقة الوحيدة في عالم ملئ بالزيف والنفاق.
كنيسة القديس برفيريوس
هي كنيسة أرثوذكسية شرقية في حي الزيتون بمدينة غزة وهي أقدم كنيسة في المدينة، سميت الكنيسة نسبة إلى القديس برفيريوس الذي دفن فيها، قبر القديس موجود في الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة.
يعود تاريخ البناء الأصلي لكنيسة القديس برفيريوس إلى عام 420 م فوق معبد وثني خشبي يعود لحقبة سابقة، تُظهر السجلات من القرن الخامس عشر أن تكريس الكنيسة كان أيضًا بمثابة شهادة للسيدة العذراء، وتم ترميم الكنيسة في 1856 وتعتبر الكنيسة الأصلية ثالث أقدم كنيسة في العالم. يقف بجوارها مسجد "كاتب ولاية" الذي أنشئ في 735 هـ (ما يقارب 1334-1335 م).