لماذا تكتب النساء عن الحرب؟

في كتابها "ليس للحرب وجه أنثوي"، تُفسّر سفيتلانا أليكسييفيتش سبب اختيارها علاقة المرأة بالحرب موضوعا للكتاب، وتورِد في المقدمة: "لقد حدثت آلاف الحروب، قصيرة ومديدة، معروفة ومجهولة. لكن من كتب عنها أكثر، كثيرون كتبوا: رجال كتبوا، رجال عن الرجال؛ وهذا ما أدركته على الفور. كلّ ما نعرفه عن الحرب، نعرفه من خلال "صوت الرجل". نحن جميعًا أسرى تصورات "الرجال" وأحاسيسهم عن الحرب، أسرى كلمات "الرجال". أما النساء فلذْنَ بالصمت".

يأتي حديث أليكسييفيتش السابق ليؤكّد على وجوب كسر استفراد الرجال بالكتابة عن الحرب، وهو الذي استمرّ لعقود طويلة، وساهم في تغييب الصوت النسائي عنها، وإلى قصر إدراكها على ما هو موجود في أذهان وعقليات الرجال.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا الكتابة النسائية عن الحرب؟ وما أهميتها؟ 

وللإجابة عن الأسئلة السابقة، يُمكن العودة إلى ما أوردته أليكسييفيتش في كتابها السابق حولَ إضافات الكتابة النسائية عن الحربّ، وكيفية حضورها في أقلام وحروف النساء، حيثُ تقول: لحرب "النساء" ألوانها الخاصة، وروائحها الخاصة، وأضواءها الخاصة ومساحات مشاعرها المميزة، وكلماتها الخاصة. إنها تخلو من الأبطال، والمآثر القتالية التي لا تُصدّق، وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل وكذلك الأرض، والطيور والأشجار. وكلّ من يعيش معنا على هذا الكوكب. إنهم يتألمون بدون كلمات وهذا أشد وأرهب".

فإذا كان جانب من أهمية الكتابة النسائية عن الحرب قادمًا من كونها تضفي على روايتها بعدًا عاطفيًا وحسيًا مختلفًا، فإنّ جانبًا آخر من تلكَ الأهمية يأتي من كونها تُساعد في استعادة النساء لمجال صناعة المنظومات الرمزية، والمقصود بمجال صناعة المنظومات الرمزية ذلك المجال الذي يُمكّن المرأة من سرد قصتها والتعبير عن نفسها، فاستفراد الرجل بالكتابة عن الحرب وغيرها، وإبعادها عن الكتابة، وإجبارها على الصمت - في حالات كثيرة- هو من أخطر أشكال العنف الرمزي الذي تعرّضت له عبر العصور، لأنّه فتح المجال أمام بقية أشكال العنف المادي والرمزي على الاستمرار في التولّد وحرمها من قدرتها على التصدي لها بالكتابة عنها وتسليط الضوء عليها، وبحسب أم الزين بنشيخة المسكيني في كتابها "صخب المؤنّث: نحو نسوية إبداعية": "ثَمة علاقة ما بين عدم الاعتراف بالنساء وإقصائهن من مجال صناعة المنظومات الرمزية (الفلسفة والعلم والفن) وآليات إخضاعهن إلى الهيمنة الذكورية، وصمتهن الطويل عن أنطولوجيا العنف التاريخي ضدَّهن. إنّ إقصاء النساء من مجال صناعة التاريخ هو الأرضية الأنطولوجية التي شُرعنت على نحو خفيٍّ لاقتراف كل جرائم العنف ضدَّ النساء".

وتبعاً لذلك، يُمكن القول إنّ المرأة عندما تكتب عن الحرب فهيَ تكتبها من وجهة نظر أنثوية، وترويها كما أحست بها وكما أدركتها، وهي تكتبها لتنهي احتكار الذكور لها، فتنتهي حالة وجودها في متن كتب التاريخ دومًا كسردية ذكورية يكتبها الرجال بمنطقهم ووجهة نظرهم.

إنّ المرأة تكتب عن الحرب، لتسلّط الضوء على جوانب معاناتها الخفية فيها، ولتكتب بلا خجل ومواربة عن حاجاتها النسائية الخاصة التي حالت الحرب من حصولها عليها (كما في حالة الفوط الصحية التي حرمت الحرب الإسرائيلية الأخيرة نساء غزة من الحصول عليها)، فالكتابة النسائية عن الحرب هي دومًا كتابة عارية، تروي معاناة النساء فيها بلسان الصدق الواضح والمطلق.

إنّ النساء يكتبنَ عن الحرب كأنهنّ يُعدن كتابة التاريخ، ولا يخجلنَ في نصوصهنّ من الاعتراف بصعوبة المهمة الملقاة على عاتقهنّ، يتساءلنَ عن كيفية كتابة ويلات ومآسي الحرب، أو كما تُعبّر الشاعرة الفلسطينية هند جودة في نصّها "غزة دمٌ على قميص العالَم" وهو الذي كتبته على هامش معايشتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، حيثُ كتبت تقول: "كيفَ نكتب المأساة؟ كيف تمرّ الأيام وتعدّ تحت القصف الجنوني وروائح البارود وأمطار الفوسفور الأبيض؟ بل كيف أستطيع تصوير ما تعيشه غزة وهو أسوأ الكوابيس وأشدها طعناً لمفهوم الإنسانية والحق "البديهي" في الحياة؟"، تسأل الشاعرة أسئلتها وتختصر فيها أسئلة المرأة الكاتبة في أي بقعة من بقاع العالَم، عندما تَجد نفسها أمام ورقة بيضاء وذاكرة مليئة بالوجع والألم، ويكون مطلوبًا منها أن تكتبَ عن حربٍ عاشتها وشهدت ويلاتها! 

إسراء عرفات

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة

شاركونا رأيكن.م