النساء في غزّة - الاستثنائيّة البيضاء لدى نسويات "العالم المتحضّر"
"لا زلنا بخير".. "ما زلنا أحياء".. "كمان يوم قصف بس وبعدنا عايشين".. "ان كان لنا نصيب منرجع نشوفكم".. كانت هذه الرسائل تردنا من الصديقات في غزة. بشكل يومي في الشهر الأول للحرب. شيئًا فشيئًا بدأت وتيرة هذه الرسائل تتضاءل، أصبحت تصلنا مرة كل يومين أو ثلاثة أيام، فمرّة في الأسبوع في الأسبوعين.. فأقل وأقل وأقل..
ومع توالي القصف والدمار، وتوالي انقطاع التيار الكهربائي وسقوط شبكات الإنترنت أخذت هذه الرسائل بالتلاشي.. وانقطع الاتصال.. حالها حال جميع الأهل في غزّة، نساء، أطفال، رجال، وشيوخ.
تُرى شهيدات هُنّ أم جريحات؟ أسيرات؟ نازحات أم أجساد باردة تحت أنقاض مساكنهنّ أو تحت ركام مراكز إيواء لجأن إليها ظنًا منهنّ أن القانون الدولي الإنساني يسري على أهل غزّة!!
ترى هل نجحن بتهدئة روع أطفالهن؟ هل طمأنَّهُم أن هناك قواعد للحرب ومحظورات تنص عليها اتفاقيات جنيف؟ هل أخبرنهم أن الحماية من آثار الأعمال الحربية تقتضي عدم جعل المدنيين هدفًا للهجوم وتمنع الاستعمار من تجويع المدنيين واستخدامهم دروعًا بشريّة؟ هل وضعنَهم تحت عباءاتهنّ وقلن لهم: "لا بأس أحبتي أنتم في ظل رعايتنا فإن أحكام القانون الدولي الإنساني تكفل "معاملة النساء بكل الاعتبار الواجب لجنسهنّ"؟؟
وإن كان الحديث في هذه السطور يتطرق لواقع النساء في الحرب إلا أنه جزء من المشهد فحسب، ولا تكتمل الصورة دون التطرق لمعاناة كافة قطاعات شعبنا شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساء، الذين يرزحون، أسوة بالنساء، تحت آلات البطش والدمار وتحت أنقاض منازلهم التي سوّيت وإيّاهم بالأرض.
هذه هي الحرب العاشرة على غزة (من 2005 وحتى 2023) تكشف مرة أخرى زيف العالم المتحضّر، وعمق التخاذل والتآمر العربي والدولي على شعبنا الفلسطيني، هذه المرّة عبر البثّ الحيّ والمباشر، ولكن هيهات لكل من فقد البصيرة أن يرى وهيهات لفاقد الإنسانية أن يحرّك قيد أنملة! وهيهات للعالق في البشرة البيضاء أن يدرك أن هناك ألوانًا أخرى للبشر..
في القرن الـ21 وأمام مرأى ومسمع العالم برمّته، وبينما كانت الحرب في شهرها الأول بعد، مئات النساء ولدن أطفالهن يوميًا دون ماء ومسكّنات. خضعن للعمليات القيصرية دون تخدير، ولدن أطفالهن أو أجهضن أجنّتهن في البيوت لأنهن غير قادرات على الوصول للمستشفيات بسبب القصف المستمر المستعر.. كان ذلك قبل أن تتوقف مستشفيات غزّة عن الخدمة بالكامل لتجد النساء أنفسهنّ ينجبن أو يجهضن في الخيام الباردة أو على قارعة طرقات النزوح.
ليس غريبًا "أنّ فلسطين تُزال من الأرحام"، كيف لا وفي الحروب الاستعمارية يُنظَر للنساء كحاملات لرمزيات الهوية الثقافية والإثنية ومُنجبات للأجيال القادمة. اجتثاثهنّ شرط حتميّ لصورة النصر الكاملة.
ولكن ما يستصرخ الوقوف عنده واستخلاص المغازي هو ترنّح المؤسسات والمنظمات النسويّة المحليّة والدوليّة والعالمية على حبل عار، أقلّه إنسانيّة انتقائية اللّون وجلّه نفاق مهول وتعامٍ سافر.. ينادي بحريّة المرأة وحقها في المساواة والحياة الكريمة وحقها في اختيار مسار حياتها وحقها في التعليم والتعبير والتنقل، المؤسسات التي تخضع جُلّ إمكاناتها في تشجيع النساء ليضعن أنفسهن وأحلامهن في رأس سلّم الأولويات.. فيما تتخذ جانب الحياد (في أحسن الأحوال) من قتل آلاف النساء في غزة؟ أي حياة كريمة لأسيرات يقبعن في غرف التحقيق المُذلّة والزنازين العفنة في ظروف قاهرة؟ أين هنّ من استغاثة نساء تتم تعريتها ويتعرضّن للاعتداءات الجنسية؟
ترى، بعد أن تنتهي الحرب وينجلي غبارها، هل ستعود أولئك المُناصرات النسويات الغائبات و\أو المحايدات للظهور مرّة أخرى؟ هل سيتراكضن لتشجيع من تسنى لهنّ البقاء على قيد الحياة من النساء الغزيّات، أن ينتفضن على ظلم ذوي القربى؟
نعم، لقد حقّقت النسوية الغربية في نضالاتها تقدمًا كبيرًا على صعيد العدالة والمساواة بين الجنسين. لكنها لا تزال رهينة خدعة اقنعت نفسها بها وأطلقت عليها مصطلح "الاستثنائية البيضاء" التي تدّعي أنها غير معنية بفوقية البيض والتمييز العرقي والطبقي، وبأنها ليست ككل البيض، كيف لا وحدود نضالها يقف عند حدود مصالح دولها التوسعيّة الاستعماريّة فوق جثث الشعوب!!
لست بصدد نقد النسوية الغربية بينما يُباد أهلنا في غزّة، ولكن أمام معركة كيّ الوعي وتشويه الحقائق وتحميل الضحايا وزر اغتيالهم، لا بدّ من التحذير من الديمقراطيات الغربية بأنواعها وأشكالها وألوانها البرّاقة ومصادرها، ومن مغبّة الانضواء تحت لوائها والنطق بلسانها واعتمادها مرجعًا لنسويتنا وحراكاتنا وحليفًا في نضالاتنا. فيما نحن، صاحبات البشرات الملوّنة نسقط في حقول من الألغام إذا ما قمنا باستيراد هذه النسوية دون فهم سلبياتها وثغراتها ونقاط ضعفها واغترابها عن واقع مجتمعنا وشعبنا الرازح تحت الاستعمار. قد يكون لاتساق النسوية الغربية في الصراع بين الجنسين ما يبرّره، ولكن نحن في مكان آخر.
نحن شعب يسعى للتحرّر من نير استعمار، لا مفاضلة لدينا بين الوطني والنسويّ، بينما تحالف النسوية الغربيّة مع المهمشات واللاجئات والملونات لا يتعدى كونه تحالفًا شكليًا، يطبب على إنسانيّتها ويغذّي تفوّق الغرب الأبيض على كل آخر.
لا خلاص لنا إلا باجتثاث الاحتلالين. وإلا سنستفيق وإذ بنا بيادق سياسيّة تبرّر الحرب وتقدم بلادنا على طبق من ذهب للإمبريالية الغربية.