رَدُّ الأَطفال بِالكِتابّة: الصَّوت السّياسيّ للطّفل الفِلِسطيني

تَسود في حَقل أدَب الأطفال العالمي، فرضيّة غير معلنة، مَفادها أن الكُتب تُكتب للأطفال، لكن نادرًا ما يكون الأطفال أنفسهم كُتّابَها. لا يعكس هذا الفصل بين المؤلِّف وجمهوره هرميّة إبداعية فقط، بل يكشف كذلك عن بُنىً سلطوّية أوسع، لا سيما في مجتمعات تَعيش تحت الاحتلال أو الصّراع. في فلسطين، بدأ الأطفال بتحدّي هذا التوزيع غير المتوازِن للأدوار الأدبية – لا من خلال مبادرات فرديّة معزولة، بل عَبر منصّات منظّمة ومهنيّة، تَضَع صوتهم في مركز الاهتمام.
تقف في صميم هذا التحوّل الأدبيّ "مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي"، وهي مؤسسة فلسطينية غير ربحيّة أَعادت، منذ نحو ثلاثة عقود، رَسْمَ حدود المُمكن في أدب الأطفال، عبر تحويل الأطفال إلى مؤلِّفين لحكاياتهم الخاصة. لقد نجحت مشاريع المؤسسة، لا سيّما سلستي "كتابي الأول"، و"مذكّرات أطفال البحر"، في تشكيل مدوّنة أدبية فريدة: أدبٌ يكتبه الأطفال للأطفال.
ما بَعد البَراءة: الكِتابة كَفِعل سياسي
أُطلق مشروع كتابي الأول عام 1996 كمختارات سنويّة تضمّ قصصًا كتبها ورسمها أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و16 عامًا من فلسطين التاريخية. ومنذ ذلك الحين، صدر أكثر من أربعين كتابًا في إطار هذا المشروع. غير أن هذه القصص لا تُعدّ مجرّد حكايات طَريفة بكلماتها المبسّطة ورسوماتها الجريئة والبريئة، بل هي نشاط يُعيد تعريف الذات ويشّكل وكالةً ومقاومةً سياسية بحدّ ذاتها.
من المواضيع المتكررة في هذه القصص هو مفهوم "امتلاك السَّرد". فمثلًا، في قصص مثل قصّة نورس (2000)[1]، التي كتبها الطفل نورس كرزم (ثماني سنوات)، تتعمّد تمييع الحدود بين الخيال والسيرة الذاتية. حين يختار نورس أن يُسميّ قصّته باسمه، فإنه لا يروي مجرّد قصة، بل يعلن ملكيّته لتجربته وهويّته. حتى عندما تكون الأحداث متخيَّلة — مثلًا، يكتب نورس عن حياته في حيفا رغم كونه ابن لاجئين من هذه المدينة — تتحوّل الكتابة إلى فِعل استرداد للمكان والذات، وتَخلق سيرة ذاتية متخيّلة ذات مقولة سياسيّة. يكتسب هذا النوع من النشاط دلالة خاصة في السياق الفلسطيني، حيث تُروى تجارب الأطفال غالبًا من خلال عدسة الصدمة والعنف السياسي. فعندما يبني الطفل عالمًا يتجوّل فيه بحرّية، يعبُر فيه الحدود، أو يعيش في بيت أجداده، فإنه لا يتخيّل فحسب، بل يؤكد مجددًا على حقّه في الوجود، في التنقل، وفي بلورة صورة المستقبل — وهي حقوق تم تجريد الطفل الفلسطيني منها بشكل ممنهج.
نَجِد في متابعة كتابات الأطفال الناتجة عن مشاريع مؤسسة تامر غالبًا تجاوزًا حادًّا لأساليب السّرد التقليدية الخطّية. فكتابات الأطفال هذه تميل إلى اعتماد أشكال سرديّة متقطّعة، وأحيانًا ذات طابع شعري، تُجسّد الانكسار والتفتّت الذي يميّز واقع حياة الكثير من هؤلاء الأطفال أو على الأقل حياة أَقرانِهم. لا يُعدّ هذا الأسلوب خللًا في إدراك الطفولة، بل يُمثّل شكلاً من أشكال المقاومة الأدبية. فالتفكك في السّرد يُصبح مرآة للحياة تحت الاحتلال، حيث نُدرة الاستمرارية وضبابيّة المستقبَل هما القاعدة.
بالإضافة إلى ذلك، لا تأتي الإشارات السياسيّة في هذه النصوص بين السطور أو مغلّفة بالرمز، بل تُقال بصراحة ووضوح، فنجد في هذه القصص إهداءات للشهداء (الوداع يا علي، 2009)،[2] وحكايات عن بيوت مهدّمة (أبي، هل يعود؟، 2005)،[3] وأحلام بالعودة (قصة نورس، 2000).[4] لا تَنتَظر هذه الكتابات تفسيرًا من الكبار، ولا تسعى إلى وسيط يشرحها. إنها تتحدث مباشَرَة، وتُقوّض السرديّة السائدة التي تحصر الطفل الفلسطيني في دور الضحيّة أو المتلقّي السلبيّ لتعاطف العالم. لا يقدِّم الطفل في هذه النصوص اعتذارَه ولا يَطلب التّعاطف معه، هو يصارح القارئ بتجربة حياته كما هي بالضبط.
الكِتابَة في زَمَن الإبادَة
في ظلّ الحرب المستمرة على غزة، تعمّقت هذه الرؤية والتوجّه نحو تمكين الأطفال من التّعبير الذاتي. أحد أبرز هذه المشاريع هو مبادرة مؤسسة تامر الأخيرة مسار العودة إلى البيت، التي أُطلقت خلال حرب الإبادة الجارية، وتتضمن ورشات ولقاءات يشارك فيها أطفال نازحون ومنكوبون ومهجرون، يكتبون ويرسمون تَجاربهم الشخصيّة. لا تزال القصص قَيد الجَمْع، لكن المسوّدات الأولى تكشف عن لغة رمزيّة كثيفة تختزن في آنٍ معًا آثار الصّدمة وبذور الأَمَل.
مبادَرَة بارزة أخرى تُسهم في تقديم صوت أطفال غزة هي مشروع "مليون طائرة ورقية".[5] بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وآذار/مارس 2024، جَمَع هذا المشروع مجموعة مؤثرة من القصائد والشهادات التي كَتبها أطفال من غزة، توثّق مشاعرهم وتجاربهم في خضمّ الحَرب المستمرّة. لا يكتفي الكِتاب الناتج بإثارة الوعي العالمي، بل يَربط بين التّعبير الإبداعي والدّعم العملي، إذ تُخصَّص جميع عائداته لمنظمات تُعنى برعاية أطفال غزة، ليغدو العمل الأدبيّ أيضًا وسيلةً ملموسة للإغاثة.
لا تُعدّ هذه المبادرات الأدبية ظواهرَ مَعزولة، بل تشكّل جزءًا من تيّار فكريّ أَوسَع. باحثات مثل إليزابيث ويسلينغ[6] وكلِمانتين بوفيس[7] وثّقن كيف تُحدث النصوص التي يكتبها الأطفال خَلخلة في تعريفات الأدب التقليدية، وتتحدّى أنساق المعرفة المتمركزة حول الكبار، وتدعو إلى ابتكار أدوات تأويلية جديدة. وفي السياق الفلسطيني، تبدو هذه المسألة أكثر وضوحًا وحدةً: ليس الأطفال مجرَّد مشاركين في الإنتاج الثقافي، بل هم رواة الصفّ الأمامي للواقع السياسيّ.
الفَجَوات الجندرية والجغرافية
تكشف الدراسة الأولية لمشاريع مؤسسة تامر عن طبقات إضافية من التّعقيد. فعدد النّصوص المُرسَلَة لمسابقة "كتابي الأول" يَفوق بكثير عدد الأماكن المُتاحَة للنشر، إذ تتلقّى المؤسسة مئات المشاركات سنويًا. في بعض السنوات، جاءت غالبية المشاركات من قطاع غزة، خصوصًا خلال فترات التّصعيد العسكري. ففي عام 2014 مثلًا، قُدّمت 144 مخطوطة، وكان نصفها تقريبًا من غزة، على الرغم من عزل القطاع ودماره.[8]
ويَبرُز أيضًا تفاوتٌ جِندَريّ مَلحوظ في المُعطَيات، حيث أن الغالبيّة السّاحقة من المشاركين في إرسال نصوص لمسابقة "كتابي الأول" هنّ فتيات. قد يعكس ذلك أعرافًا اجتماعية تُتيح للفتيات مجالًا أوسع للتعبير العاطفي، أو ربما يُشير إلى تثبيط ممنهج لانخراط الفتيان في أنشطة أدبيّة وتأمليّة. ولكن أياً كانت الأسباب، فإن هذه الأنماط تستحق دراسةً أعمق، إذ لا تعكس فقط مسألة التمثيل وإتاحة الوصول، بل تكشف عن البُنى الاجتماعية التي تُحدّد من يُسمَح له بالكلام، وكيف، وأيّ نوعٍ من المقاومة ينخرط تحت أيّ قالب جندري.
الأَطفالُ يَكتُبون المُستقبَل
تَعني قراءة هذه النصوص التي يكتبها أطفال فلسطين الدّخولَ إلى عالم يتجاور فيه اللعب مع القهر، والأمل مع الألم، والحُلم مع السّياسة، دون اعتذار أو تلطيف. قيمتها لا تَكمُن في موهبة أدبية مبكّرة، بل في تحدّيها فكرةَ أن على الأطفال أن يصمتوا في وجه كَلام الكِبار، أو حتى يتعلّموا أُسس الخِطاب السّياسي "الصّحيح". في زمن تُكمّم فيه أفواه جماعيّة ويُمحى فيه وجود جَماعات بأكملها، تشكّل هذه القصص فِعلَ بَقاء ونشاطٍ صارخ في وجه العُنف المُمَنهَج. إنها أرشيف لنمط من الطفولة في فلسطين — لكنها أيضًا أرشيف لقدرة متخيّلة على الحريّة، في واقع يُصرّ في كلّ تفاصيله على القَيد.
ليسَ هذا الأدبُ مَهربًا مِن الحرب. إنّه نهجٌ مِن مناهج المقاوَمة.
[1] كرزم، ن. (2000). قصة نورس. في كتابي الأول: قصص من كتابات الأطفال 2000. رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
[2] عوض، ل. ط. (2009). "الوداع يا علي"، في كتابي الأول: قصص من كتابات الأطفال 2009. رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
[3] أحمد، م. ع. (2005). "أبي، هل يعود؟"، في كتابي الأول: قصص من كتابات الأطفال 2005. رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
[4] كرزم، ن. (2000). قصة نورس. في كتابي الأول: قصص من كتابات الأطفال 2000. رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
[5] A Million Kites. (2024). A million kites: Poems and testimonies from Gaza’s children. A Million Kites Project. https://www.amillionkites.com
[6] Wesseling, E. (2019). Researching child authors: Which questions (not to) ask. Humanities, 8(2), 87.
[7] Beauvais, C. (2019). Is There a Text in this Child? Childness and the child-authored text. Children's Literature in Education, 50(1), 60-75.
[8] مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي. (2014). التقرير السنوي لعام 2014.
الصورة: من مبادرة "مخيم اللقاء" في القطاع، للناشط الغزي سعيد قديح.

د. لؤي وتد
باحث وناقد متخصص في أدب الأطفال والسياسة الثقافية، يركز في أبحاثه على الأدب الفلسطيني وتمثيلات الطفولة في سياقات استعمارية.