أَطفال قِطاع غَزة وشَبابُه: انهِيار قُدرة "الصُّمود على الصُّمود"

في المُقدمة النقديّة لكتابي "أَعماق الذات المُنتفِضة" الذي صدر عام 2003، وَرَدَ ما يَلي:
" إنَّ للصمود ثمنًا يجب أن يُدفَع، وعلى من يَدفع هذا الثمن أن يكون قادرًا على تحمُّل الخسارة والضّرر المترتبين على ذلك. هذا هو الصُّمود على الصُّمود، وهو المَقدِرة على تحمُّل الثمن النفسي والعقلي الباهظ للصّبر والمقدرة على تحمُّل الألم والمعاناة. هذا الصُّمود على الصُّمود هو المِحكّ النهائي لمقدرة الشعب الفلسطيني على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حتى زواله. والواقع أن ما يُثير التعجّب والإعجاب لدى الشعب الفلسطيني... ليس هو صُموده بقدر ما هو صُموده على الصُمود. ليس مقدرته على تحمُّل المعاناة، بل مقدرته على دفع الثمن النّفسي والعقلي لهذا التحمُّل دون أن يصل إلى الإفلاس أو الانهيار". (ص 7-8)
أعتقد أن هذا "الصُّمود على الصُّمود" – هذه المَقدرة على تحمُّل التبعات النفسية والعقلية للصمود – هو الذي تَعمَد القوة المُعتدية إلى ضربه في الصّميم وتَحطيمه إلى الأبد، وهو الذي يبدو أنّه بالفعل يتحطّم ويَنهار لدى أطفال قطاع غزة وشبابه منذ السابع من أكتوبر عام 2023.
لا شكّ أن الأطفال والشباب في قطاع غزة قادرون على الصّمود، وبشكل يدعو إلى الانبهار في معظم الأحيان، فكلّ أولئك الذين كُتِبَت لهم النّجاة مِن الموت تحت القصف والتّجويع ليس لديهم من خيار آخر سوى الصمود طالما هُم على قيد الحياة. إلا أنَّ مقدرة هؤلاء الأطفال والشباب على تحمُّل التبعات النفسيّة والعقلية لهذا الصمود، هي التي نشهد تَحطّمها وانهِيارها باستمرار. إننا نرى التجسيدات الفعليّة لذلك الانهيار حيثما نَظَرنا في ما يتسرَّب إلينا مما يحدث في قطاع غزة عَبر الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، ليس فقط في حالات الانهيار العصبي بالنحيب والصراخ وثَورات الغضب العارم ومحاولات إيذاء الذات، وليس فقط في مَشاهد العَجز والعَوز وإذلال الذات عند استجداء العون في حالات الفقد والأَلم والجوع القاتل، وإنما أيضًا في حالات التظاهر بالقوة والفرح، كما نرى على وجوه جمهور الحاضرين في مهرجانات إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين... فخَلْف مظاهر الفَرَح والقوة نرى ملامح الانكسار، والتوجُّس، والغضب، والنّقمة، والاستياء الشّديد من هذا العالم الذي لا يعرف الرحمة. وأكثَرَ ما يصيب أطفال غزة وشبابها بفقدان التّوازن النفسي، وبالتالي بانهيار المقدرة على تحمُّل تبعات الصمود، هو ما يُدعى "التّحرّر مِن الوهم" (disillusionment)؛ أي الشّعور بأنهم متروكون، وبأن العالم الذي يدَّعي التحضُّر والعقلانية والعدالة الإنسانية هو في حقيقة الأمر ليس كذلك، وإنما هو عالَم مُنافق لا يعرِف العدل ولا الرحمة ولا العقلانية، وهو مستعد للبطش بهم بمنتهى الوحشيّة إذا كان يعتقد أن مصلحته (وأوهامه بالأمن والاستقرار) تَكمن في ذلك.
هذا التحرر الموجِع مِن الوَهم هو الذي يتحوَّل مع مرور الوقت وازدياد المعاناة إلى شعور بالقهر المُطلق، والذي لا يمكن التغلُّب عليه إلا بواحد من أمرين؛ إما الانسحاق والانسحاب الكلّي من الواقع بأكمله من خلال اللجوء المَرَضي إلى اللاإنتماء واللامبالاة وبَتْر العلاقات مع القضايا الجماعية الكبرى، وإما التحوُّل إلى آلات انتقامية للقتل والدمار والفَتك بالذات وبالآخر. وغنيٌّ عن البيان أنه كلّما ازدادت المعاناة وازداد القهر ووجَع "التحرّر من الوهم"، ازداد اللجوء إلى الحلّ الثاني على حساب الأول. إلا أنَّ ضيق الأفق ومحدودية الرؤيا لدى أصحاب القرار في الجهة المُعتَدِية والعالم الذي يدعمها، يجعلانهم غير قادرين على رؤية هذه الحقيقة وغير مدركين حقيقةَ أنَّ ما يفعلونه على المدى البعيد هو الإنتاج السريع لقنابل موقوتة سوف تُقلق العالم وتَذهب بأمنه واستقراره في وقت لاحق.
حتى لو إفترضنا أنَّ المقاومة في غزة انتصَرَت، فإنَّ الثمن الذي دفعه أهل غزة لهذا النّصر كان باهظًا جدًا، ويبدو أن العالم كلّه سيدفع ثمنًا باهظًا جدًا لهذا الثمن. وإِلاّ فما الذي ينتظره العالم من طفل بريء قتلتَ أهله وهدمتَ بيته وحوَّلتَ أصدقاءَه ومعارفه إلى أشلاء وجعلتَ من عالمه ركامًا ومن وجوده أطلالًا ومن حياته سِلسلة من الأوجاع والحَسَرات والعثرات؟! وماذا يتوقّع "العالَم الحرّ" من خلال تأييده هذه الحملة من الإبادة الجماعية في غزة؟ هل أصبح العالم أفضلَ بعد هذه الحملة؟! هل أصبح العالم مكانًا أكثر أمنًا واستقرارًا وملاءمة لعيش الإنسان؟! أوليس مِن الغباء وضيق أُفق التفكير، ومن الانغماس في تَأليه الذات، أن يعتقد أيٌّ كان بذلك؟
مِن السَّهل إعادة بناء غزة، ولكن ليس من السَّهل على الإطلاق إعادة بناء الإنسان فيها. ولذا فإنَّ إعادة بناء الإنسان في غزة هي التحدّي الأكبر الذي يواجه كلّ من يريد إعادة بِناء غزة وإعادة بِناء العالم في حقبة ما بعد غزة. هذا هو بالذات ما يجب أن نَصبو إليه ونستهدفه كأخصائيين. فالأطفال والشباب في قطاع غزة لا يحتاجون إلى الدّعم على الصُّمود بقدر ما يحتاجون إلى الدعم على تحمُّل التبعات النفسية والعقلية الخطيرة المترتّبة على الصمود في عالم تخلَّى عنهم بمنتهى الصّفاقة وتَرَكهم لُقمة سائغة بين أشداق الوحوش. وفي سبيل ذلك فإنه لشرط أساسي أن يكون الأخصائيون قادرين على الارتقاء بأنفسهم فوق كلّ الانتماءات الأيديولوجية الضيِّقة والسياسات العنصرية المُغرضة، فيكرِّسون مجهوداتهم لِرَدم الخَراب ووقف الانهيار وإعادة بناء الإنسان الإيجابي السّليم.
وفي ضوء ما يَحدث الآن في قطاع غزة، فإنه لا يسعنا سوى أن نضيف أن أسوأ ما في الأمر في هذا السياق هو هذا الشعور العميق بأنه "قد سَبَق السّيفُ العذل"، وبأن أصحاب القرار في العالم يسعون بمنتهى الغباء نحو تدمير الذات وسَحب البساط من تحت أقدام البشرية. لكن، وعلى الرغم من ذلك، يبقى هناك بصيص من الأمل مُنبثق من النزعة الجوهرية المتأصِّلة لدى أطفال غزة وشبابها إلى السُّموِّ على الذات، وإلى الاستماتة في الخَلق والإبداع من أجل بناء عالم أفضل.

د. مصلح كناعنة
باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية