"مَناهِج" القَمْع: حالُ الطُلّاب الفِلسطينيين في الجامِعات الإِسرائيليّة في ظِلّ حَرب الإِبادة

شَهِدَت الجامعات الإسرائيلية حَملة غير مسبوقة مِن القمع والملاحَقة السياسية طالَت الطلاب الفلسطينيين منذ بدء حرب الإبادة على غزة في السابع من أوكتوبر. لا تَقتصر هذه الحملة، التي تتخذ طابعًا منهجيًا ومكثفًا، على التّضييق الأكاديمي ولجان الطاعة، بل تمتد إلى محاولات صريحة لشَيْطنة أيّ صَوت فلسطيني ناقدٍ أَو مُعارض للحرب، أو حتى مجرّد متضامن يعبّر عن حُزنه إزاء المجازر اليوميّة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني. لقد تم تحويل طلاب إلى الاعتقال والتحقيقات الشرطية والأكاديمية، حيث مارست الجامعات، في كثير من الحالات، دورَ الشرطة، وبدأت تحقّق مع طُلابها حول معتقداتهم وأفكارهم ومنشوراتهم، مُعاقِبةً إياهم بالفصل أو التهديد به.

جاء هذا التّصعيد الخطير مدفوعًا بخطاب شَعبوي وتَحريضي فاشيّ، يربط بشكل فجّ بين أيّ نشاط طلابي وطني وبين "الإرهاب". هذا الخِطاب، الذي بدأ قبل الحرب، بَلَغَ ذروته خلالها، ليُترجم لاحقًا إلى اعتقالات، ولجان طاعَة، وجلسات طارئة في الكنيست تحرّض على الطلاب العرب وتستهدفهم بشكل مباشر. وأخيرًا في سلسلة قوانين شُرطيّة تستهدف الطلاب والحراك الطلابيّ.

الحَرَكة الطلابيّة أمام اختبار صَعب

وضَعت هذه المُعطَيات الحركة الطلابية الفلسطينية الفاعلة داخل الجامعات الإسرائيلية أمام تحدّيات هائِلة وأسئلة مصيرية حول مفهوم العمل الطلابي في هذه الجامعات. فمنذ عقود، شكّلت الحركات الطلابية الفلسطينية محورًا سياسيًا وثقافيًا مهمًا، منبثقةً من التيارات الوطنية والسياسية في الداخل الفلسطيني، ولعبت أدوارًا بارزة في محطات تاريخية مثل يوم الأرض وهبة أكتوبر. كما امتد تأثيرها خارج أسوار الجامعات إلى المجال السياسي والمجتَمعي الأوسع.

وعلى الرغم مِن أنّ هذه الحَرَكات طالما عانَت مِن حَمَلات ملاحَقة مستمرة، فإن الحملة الأخيرة كانت الأشدّ، حيث انعكست بشَكل مباشر على أدائها، وأدت إلى تراجع نشاطها أمام تَصاعد القبضة الأمنيّة الإسرائيلية، لا سيما مِن إدارات الجامعات نفسها.

يتمثّل أحد أبرز مظاهر هذا التصعيد الحالي في استهداف الطلاب الفلسطينيين تحت غطاء قانوني فَضفاض. في الفترة الأخيرة، سُنّت سلسلة قوانين وتمّ تمريرها بالقراءتين التمهيديّة والأولى، لاستهداف النشاط الطلابي الفلسطيني وتَسويغ الاستهداف تحت ذريعة "دَعم الإرهاب". بالتوازي مع ذلك، تم اعتقال العديد من الطلاب واستدعاء آخرين إلى لجان الطاعة لمجرّد تعبيرهم عن مواقف سياسيّة لا تتماشى مع الإجماع الصهيوني.

وَصَل الأَمر إلى حدّ اعتبار استخدام مصطلحات مثل "شهداء" تحريضًا على الإرهاب داخل أروقة الكنيست وخارجها، في محاولة واضحة لترهيب الطُلاب ومنعهم من التّعبير عن آرائهم والتفاعل مع قضايا شعبهم. لا تهدف هذه السِياسات فقط إلى قمع الحِراك الطلابي، بل إلى إعادة تشكيل وعي المجتمع العربيّ والأقلية الفلسطينية التي تعيش داخل دولة إسرائيل، وشريحة الشباب والطلاب بشكلٍ خاص، ودفعهم إلى التّفكير الفَرداني الذي يقتصر على الوظيفة والعمل، دون اكتراث بما يجري من جرائم وويلات بحقّ أبناء شعبهم.

لم يقتصر التصعيد على الجانب القانوني والأمني، بل أصبح الخطاب الإعلامي الإسرائيلي شريكًا فاعلًا في هذه الحملة التحريضيّة. فقد تم تَصوير الطُلاب الفلسطينيين على أنهم "طابور خامس" داخل الجامعات، في محاولة لربطهم بـ "الإرهاب" عَبر خطاب شعبوي يسعى إلى إسكات أيّ صوت طلابي وطني.

لا يهدف هذا التحريض، الذي تبنّاه سياسيون وإعلاميون على حدّ سواء، فقط إلى تشويه صورة الطُلاب الفلسطينيين والحركات الطلابية الوطنيّة، بل يسعى إلى شرعنة ملاحقتهم وتجريدهم من أيّ حماية قانونية أو أكاديمية. في هذا السياق، تماهَت إدارات الجامعات مع هذه الموجة التحريضيّة، متخلّية عن الحدّ الأدنى من الحِياد الأكاديمي. وبدلًا من حماية حرية التّعبير وضمان بيئة تعليمية ديمقراطية، أصبحت هذه المؤسسات جزءًا من مَنظومة القمع، عبر فرض عقوبات تأديبيّة قاسية على الطلاب الفلسطينيين، ومنح الشرطة حريّة كاملة للتدخّل في الفعاليات السياسية داخل الجامعات.

على الرغم من هذا الواقع القَمعي، تواصل الحركات الطلابية الفلسطينية نشاطها، وإن كان ذلك في ظروف بالغة الصعوبة ووسط تهديدات مستمرة. فقد شَهِدت السنوات الأخيرة محاولات جادّة لاستعادة الدّور الطلابي، عبر فعاليات وطنية تهدف إلى إحياء الذاكرة الجماعيّة ومواجهة محاولات طَمس الهويّة الفلسطينية. لكنّ هذه الجهود قوبِلت بتحريض مكثَّف من أعضاء الكنيست ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وصل إلى حدّ التهديد الشّخصي للطلاب.

إلا أنّ هذا العام، بشكل خاص، شَهِد تراجعًا ملحوظًا للحراك الطلابي، حيث اصطدم بِجِدار مِن الملاحَقَة والقَمع المُمَنهج، مما دفعه إلى تبنيّ توجّهات دفاعيّة أكثر من كونه حراكًا مبادِرًا. في ظلّ واقع سياسي إسرائيلي يَنْظر إلى أيّ حراك ضد الحرب على أنه "خَطَر يجب القَضاء عليه"، باتت مساحة العمل الطلابي تتقلّص، وأصبح الحفاظ على الوُجود بحدّ ذاته إنجازًا.

النّهوض والتحدّي: ضرورة ملحّة

تُشكّل هذه المرحلة اختبارًا مصيريًا للحركات الطلابية الفلسطينية. فالاستهداف المَنهجي، والاتّهام العشوائي بالإرهاب من خلال مقترحات القوانين المجنونة، والملاحَقَة القانونية والسياسية والأكاديمية، كلّها أدوات تهدف إلى تفكيك الحِراك الطّلابي وإفراغه من مضمونه السياسي والوطني. في المقابل، فإن استمرار هذا الحِراك وتمسّكه بمساحاته داخل الجامعات وخارجها يَعكس إصرارًا على الدفاع عن الهوية الوطنية والوجود الطلابيّ العربيّ والوطني في واقع عنصري ورفضًا للخضوع لسياسات الترهيب.

ما يَجري في الجامعات الإسرائيلية اليوم ليس مجرّد ملاحقة طلابية، بل هو جزء من حملة أوسع تستهدف الفلسطينيين في الداخل والصوت الداعم للقضية الفلسطينيّة في كلّ مكان. إلا أن الداخل الفلسطيني يواجه هذه الملاحقة بشكل مختلف، حيث تسعى إسرائيل إلى كَسْر أيّ شكل من أشكال التَنظيم السياسي والعمل الوطني داخل الجامعات، كجزء مِن مشروعها الأَشمَل لِطَمس الهوية الفلسطينية.

ولعلّ انتخابات نقابة جامعة حيفا مثال واضح على واقع العنصريّة المكشوفَة في إسرائيل وجامِعاتها، فَبَعد أن خاض الطلاب العرب الانتخابات في قائمة وحدويّة تحت اسم "الكرمل" جَمَعت ووحَّدت كافّة الطلاب وأعطتهم دافعًا للتنظم الطلابيّ والسياسيّ وتحقيق مطالبهم، فإن النقابة والقائمين على العملية الانتخابية زيّفوا الانتخابات والتفّوا على النتيجة لمنع العرب من ممارسة دورهم المؤثر والمركزي في جامعة غالبيتها من الطلاب العرب.

رغم ذلك، يبقى الحراك الطلابيّ أحد آخر معاقل الصوت الوطني الفلسطيني داخل المجتمع العربيّ في الداخل، على الرغم من كلّ محاولات القمع والتضييق. وما لم يتم العمل على إستراتيجية واضحة لمواجهة هذا القمع عبر عمل جماعي منظَّم ومُمأسس، فإن خطر إسكات هذا الصوت سيظل قائمًا، مع ما يَحمِله ذلك من تَداعيات خطيرة على مستقبل العمل الوطني الفلسطيني داخل "الخط الأخضر".

أخيرًا، من الواجب إعادة الاعتبار للعمل مع الشباب والطلاب، وتنشئة جيل قياديّ رياديّ يتحدّى هذه الممارسات القمعيّة والواقع الصعب الذي نعيشه، وهذا يحتاج إلى مسؤولية وعمل متراكِم من كافة الحركات الطلابيّة والشبابية والمؤسسات الحزبيّة وجمعيات المجتمع المَدني الفاعِلة، فتشويه الوعي كان أشد التحدّيات أمامَنا على مدار عقود، ويعود ليكون أشد وطأةً في واقع صعب يعيشه شعبنا الفلسطيني بشكل عام، ومُجتمعنا بشكل خاص في واقع الجريمة والقمع، ولا بدّ فيه من أن نكون على قدرٍ من الثقة والقوة والمسؤولية للتعامل مَعَه والتغلّب عليه والحفاظ على حركة طلابيّة وطنيّة فاعلة.

يوسف طه

طالب ماجستير في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة تل ابيب، ناشط سياسي ومستشار إعلامي

رأيك يهمنا