نورٌ يَغمِر عالَمَ التَّعليم

في قَلب فصل دراسي يعجّ بالحياة، يقف المعلمون بحبٍّ وشغف أمام طلابهم، الذين تختلف قدراتهم وتحدّياتهم، لكنّ الأملَ يجمعهم. ولم يكن طريق بعض المعلمين في عالم التعليم عاديًا، بل كان محفوفًا بالتحديات والمواقف التي جَعَلت منهم مُعلمين لا يُدرسّون فقط، بل يُلهمون ويُحدِثون تغييرًا حقيقيًّا في حياة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
وحين قرَّرْت التخصص في تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، واجهتُ نظرات استغراب مِن المُحيط. لماذا لا أختار طريقًا أَسهل؟ لماذا أختار عملًا يتطلّب صبرًا يفوق الوَصف؟ لكني كنت أُؤمن بأن هؤلاء الأطفال يمتلكون قدرات هائلة تنتظر مَن يكتشفها ويُطْلقها إلى النور.
أول يوم لي في الفصل كانَ نقطة تَحوّل. وقَفْت أمام أطفال يتحدّثون لُغات مختلفة – ليس لغات منطوقة، بل لغات الجسد، والتعبيرات، وحتى الصّمت. أدركتُ حينها أن التدريس هنا لا يتعلّق بالمناهج فحسب، بل هو فنّ في التواصل، وفهم الاحتياجات، واستنباط إمكانيّات قد تكون مخبَّأة خلف التحدّيات.
رِحلة الاكتشاف
كلّ طفل أو طفلةٍ في الصف قصةٍ بحدّ ذاته/ا. هذا طفلٌ يعاني من اضطراب طيف التوحّد، وآخر يواجه صعوبات في النطق، وثالث يحتاج إلى دعم أكاديمي مكثَّف. بدلًا من رؤية الصعوبات، رأيت إمكانيات غير محدودة. تعلّمت كيف تُفَك رموز كلّ طالب، كيف تتواصل مع مَن لا يستطيع النُطق، وكيف تُساعد مَن يَشعر بالخوف أو الإحباط.
لم يكن التّعليم بالنسبة لي مجرّد تطبيق مَنهج موحَّد، بل كان رحلة مصمَّمة خصيصًا لكلّ طفل. كنت أجلس ساعاتٍ أضعُ خططًا تربوية فرديّة (IEPs) تتماشى مع احتياجات كلّ طالب. فحين كان طفل يعاني من فرط الحركة يَجِد صعوبة في الجلوس فتراتٍ طويلة، ابتكرتُ طرقًا تعليميّة تعتمد على الحركة واللعب. وحين كان آخر يواجه صعوبة في القراءة، استعنت بالقصص المصوَّرة والوسائط التفاعليّة لجعله يقترب من عالَم الكلمات دون خوف.
التّدريس بالإبداع
لم أكن أرى في التعليم عمليّة تقليديّة تعتمد على الكتب والسبورة فقط، بل كنت أرى أنه يمكن تحويل كلّ تحدٍ إلى فرصة للإبداع. من بين الاستراتيجيات المبتكرة:
التّعليم القائم على اللّعب: حوّلت الرياضيات إلى ألعاب ممتعة، والنطق إلى غِناء، والتواصل إلى تمثيل مَسرحي بسيط.
التكنولوجيا كأداة تمكين: استخدمت التطبيقات والبرامج التفاعلية لمساعدة الأطفال على تطوير مهاراتهم بطرق تُناسبهم.
التعلّم مِن خلال الفنّ: كانت الألوان والرسومات وسيلة قوّية للتعبير عن المشاعر والأفكار لمن لا يستطيعون التّعبير بالكلمات.
بيئة صَفّية دامجة: حيث يَشعُر الجميع بالأمان
أدركتُ أن التعلّم لا يمكن أن يتم دون أن يشعر الطفل بالأمان والانتماء. لذلك، عملت على بناء بيئة صفّية مليئة بالتقبّل والتّشجيع. علّمت طلابي أن الاختلاف ليس ضعفًا، بل هو قوّة تجعل كلّ شخص مميزًا. شجّعت الأطفال على التّعاون، على فَهم بعضهم البعض، وعلى الاحتفال بالإنجازات مهما كانت صغيرة.
الشّراكة مع الأَهل والمُختصّين
لم يكن نَجاح الأطفال مرتبطًا بالمدرسة فقط، بل كان يحتاج إلى تكاتف بين الأسرة، والمعلمين، والمختصّين في مجالات العلاج السلوكي، والنّطق، والعلاج الوظيفي. كنت دائمًا على تواصل مع الأهالي، أشاركهم التطوّرات، أقترح طرقًا لدعم أطفالهم في المنزل، وأستمع لقصصهم وتحدّياتهم.
التحدّيات والانتِصارات: لَحَظات تَصْنَع الفارِق
لم تكن الرّحلة سهلة. كانت هناك أيام مليئة بالإحباط، لحظات شَعَرت فيها أن الجهود قد لا تؤتي ثِمارها. لكني تعلّمت أن التغيير الحقيقي لا يَحدث بين ليلة وضحاها، بل هو سلسلة من اللحظات الصغيرة. أتذكّر اليوم الذي نَطَق فيه أحد طلابي بكلمته الأولى بعد أشهر مِن المحاولات. كيف أن طفلًا كان يَجِد صعوبة في الكتابة استطاع أخيرًا أن يكتب اسمه. وكيف أن طفلة كانت ترفض التفاعل مع زملائها بدأت تُشاركهم اللّعب والحديث. كانت هذه اللحظات هي التي تعطيني الدّافع للاستمرار.
رِسالة شَغَف والتِزام
بالنّسبة لي، ليس العَمَل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة مجرّد مهنة، بل هو رسالة. هو إيمان بأن كلّ طفل يستحقّ فرصة، بأن كلّ تحدٍ يمكن تحويله إلى انتصار، وبأن التّعليم ليس مجرّد نقل معرفة، بل هو تمكين، وإلهام، وصناعة مستقبل أكثر إنسانية وعدلًا.
اليوم، وبعد سنوات من العمل، أواصل رحلتي بشَغَف أكبر. لا أزال أؤمن بأن كلّ طفل يملك نورًا داخليًا، يحتاج فقط إلى من يُساعده على التألّق. وأنا أعرف، في أعماق قلبي، أن هذا النور سيظلّ يضيء، ليس فقط في فصول الدراسة، بل في العالم بأسره.
