عام الكتابة على أجسادنا

هكذا يعبر عام 2023 إلى 2024 لكننا علقنا في غزة في عام تربع في أحشائنا فبعثرها، ودمرت فيه أحلام الآلاف منا، وبات عاما بعنوان الفقدان لآلاف آخرين، وتمركزت مقابر جماعية لا يعرف فيها أحد أحد في مدينة الجراح، البحر بات أحمرا بلون دماء أكثر من 21 ألف شهيد وشهيدة ثلثيهم وأكثر من الأطفال والنساء، عام طعنتنا فيه الحرب وظلت كظل أسود لم تتوقف بينما يعبر العالم إلى عامه الجديد، نحن فقط من بقينا هناك نقف بين بركة الدماء نتلفت نبحث عن أعيننا أيدينا أقدامنا، فحتى قلوب الشهداء وكلياتهم سرقوها في وضح النهار[1]، وأعادوا لنا عظاما ملفوفة في كفن أبيض حينا أزرق حينا أسود حينا فلم يعد متوفرا، علق أهل غزة في عام الفقدان والدمار والتدمير لبيوتهم التي بنوها حجر حجر حملوا رملها رملة رملة، بينما ظل الحرب لازال مشتعلا يقتل ويذبح ويترك جثت الغزيين تتحلل في الطرقات، المفقودين يزدادون يوما بعد يوم آلاف المفقودين المدفونين بين دمار بيوتهم، عام المدفونين تحت الأنقاض، أم عام الفقدان أم عام النزوح والتهجير الأكبر..!

عام استثنائي في غزة حيث كتب آلاف منهم أسماءهم على أجسادهم كي لا يموتوا مجهولي الهوية، أطفال مدوا أذرعهم وتحلقوا حول من يكتب أسماؤهم باللون الأسود، واللون الأزرق ليخط أسماؤهم ثلاثية على كلتا اليدين وبأحرف كبيرة، وكثيرا منهم قد استشهد، وبعضهم شهدت ما تبقى من أجسادهم عن هويتهم، الموت كان بالآلاف يقبع شبح الموت فوق عنق غزة يحصد أطفالا ونساء لا يرحم أحدا، قنابل وصواريخ وأحزمة نارية وتدمير وخراب أحياء ومربعات سكنية مأهولة بالسكان...!

عام توقفنا فيه عن الحلم أو الأمل، بل هو عام الخذلان لغزة وأهل غزة وأطفال غزة، عام يخبئ فيه الأهل أطفالهم من فوهة الدبابات، وضجيج الطائرات المقاتلة في الأجواء، عام لم يبق بيتا غزيا إلا عاش النزوح أو الفقدان أو الدمار...!

عام تميز برائحة الموت والجثث المتحللة، ورائحة الزيت المحترق في مواتير السيارات التي لم تعد تجد بنزينا أو سولارا كي تدور فوضع السائقين زيت عباد الشمس كي يصبح وقودا للسيارات، حياة بأكملها توقفت في غزة، لا مكان آمن لا مكان عاد آمنا، لا مكان لإيواء مليوني لاجئ فلسطيني ونصف المليون، أعداد السكان باتت أقل فهنالك أكثر من 21 ألف شهيد وأكثر من خمسون ألفا مصابون والباقي هم نازحون، نزحوا عدة مرات داخل غزة كل يوم إضافي في الحرب يزيد عدد النازحين، يشتت العائلات ويقطع الأوصال، موت مجاني في غزة والعالم يصفق لرأس السنة ويهنئ بعضه بعضا بعام جديد، عن أي عام جديد يمكن أن نهنئ؟ وعلى ماذا نهنئ ولا زلنا غرقي في بحر من الدماء...! جاء عام جديد ولم نستطع أن نحزن كالبشر، ولا أن نبكي كالبشر، ولا أن نواسي بعضنا بعضا كالبشر، ولا أن ندفن موتانا في طقوس آدمية تسمح بوداع يليق وبقبلة على الجبين لا قبلة بعدها ولا ابتسامة ترتسم...!! 

عام أصبحت فيه المدرسة ملجأ لا مقومات فيه غير سبورة الصف الجافة، عام أصبحت فيه المشافي بيوتا للنزوح فاقدة قدرتها على تقديم أي خدمات طبية، عام أصبحت فيه الشوارع والصالات والمقاهي مقابر لدفن الشهداء، وأصبحت البيوت مقابر لأصحابها بعد أن التحموا مع الحجارة والملابس وأصبحوا في مكان لا يمكن أن تصلهم قدرات رجالات الدفاع المدني، عام تغيرت فيه الأحوال وشاب الولدان وكبر الشباب ومات الأطفال قبل أن يحبو على الأرض، بينما الأجنة ماتوا في بطون أمهاتهم اعداما وقتلا بالرصاص، عام الاعتقالات لنساء غزة وتعذيبهن وانتزاعهن من مدارس النزوح ومن بيوتهن، خطفا خطفن، قتلا قتلن، نزعا لحجابهن لم يتركوا شيئا لم يفعلوه في غزة انتقاما لصورة لم يتمكنوا من ترميمها، نهج الإبادة والقتل لم يكن الأول فمنذ 75 عاما وهم ذات القتلة إلا أن هذا العام المنصرم عام القتل والمذابح والجرائم ضد الإنسانية وعام التدمير والابادة الجماعية والاستباحة للدم الفلسطيني بامتياز..!!

عام قهر النساء الغزيات

"طيلة 16 عامًا، أدى الحصار الإسرائيلي غير القانوني إلى تحويل غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم ـ ويتعين على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن للحؤول دون تحويل غزة إلى مقبرة جماعية هائلة."

      أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية

.. هذا الخراب لم يكن يوما على شاطئ بحر غزة. كانت المدينة محاصرة منذ 17 عاما تبتلع حزنها يوما بعد يوم ويجبر على جراحها، غزة امرأة قديسة تمضغ الألم كل يوم وتصنع منه الخبز كي لا يبكي أبناؤها، تنشر حكاياتهم بلغتها ورغم العواصف والرياح التي تقتلع أشجارها إلا أنها كانت وحيدة في ألمها تعاني وحيدة تغلق عليها كل الفرص، يحاول شبابها أن يهاجروا بعيدا عن تقشفها ورغيف خبزها الناشف وأكلة البسارة والعدس وساندويتش الفلفل الأحمر الذي تضع منه القليل كل صباح حتى يخمد صغارها جوعهم، كانت غزة جميلة تقفز إلى مائدتها الأسماك ويجود البحر بأمياله القليلة التي لا تتجاوز الستة أميال للصيد..! حتى البحر محاصرا بشاطئه فالبوارج الحربية الإسرائيلية تصر على التذكير بقذائفها أننا لسنا أحرارا بل هنالك احتلال بغيض ينغص علينا حياتنا وموتنا...!!

هذا الخراب لم يكن بهذا الشكل فليس هنالك شيء باق على حاله، غزة فقدت معطفها فانهارت آلاف البيوت ما بين قتيل وجريح وترك جرحاها ينزفون حتى الموت وحتى موتاها لاحقهم الاحتلال الإسرائيلي وبقروا القبور الجماعية وسرقوا جثامين الشهداء، القتلى يغطون الشوارع والمقابر باتت بديلا للملاعب والساحات والأسواق، البيوت أصبحت مقابر لأصحابها في عهد الاحتلال الإسرائيلي وفي حرب الإبادة الجماعية التي تستمر فيها بكل ما يخالف الشرعة الدولية والقانونية، الكنائس قصفت ومساجد الله دمرت والجامعات تم تفجيرها والمدارس أصبحت مكانا للنزوح والقصف معا، حتى صالات الأفراح باتت مكانا للنزوح وللقصف ..!! المشافي فقدت مفهوم الخدمة الصحية وأصبحت مكانا للجوء النازحين.. 

النازحون يتجولون في كل مكان بعد أن سلبت منهم بيوتهم.. سلب منهم الأمن والأمان، سلبت منهم الخصوصية، لم تعد النساء تبدل ثيابها ولم تعد الفتيات يخلعن حجابهن ولم تعد النساء تمشط شعرهن...! لم تعد أي امرأة قادرة على الوصول للخدمات الصحية والمريضات عليهن أن يتجاهلن مرضهن وعليهن ألا يفكرن في صحتهن ولا في سلامتهن النفسية فعليهن عبء كبير من القهر والمهام التي طرأت بفعل تدمير البنية التحتية لكل ما هو حي بغزة.. فما بين محاولات الحصول على الغذاء والدواء والغاز والوقود فإن أشهر تمضي تراها الغزيات سنوات. لقد هرمنا وأشتعل الرأس شيبا...!! 

الطفلات أصبحن بالغات لا يجدن قطعة قطنية صحية ليسترن بها نزيفا شهريا ينال منهن، يمكثن في الخيمة أو المدرسة لا يملكن مواد صحية للعناية بأنفسهن في فترة الحيض الشهرية، بعضهن قطعن بعض الملابس ليجعلن منها فوطا غير صحية مطلقا، وبعضهن اعتكفن أماكنهن في حرج شديد بينما كل العائلة تحاول أو تبحث في الصيدليات عنها، وبعضهن اضطررن لاستخدام حبوب لمنع الدورة الشهرية متغاضيات عما قد يسبب لهن من ارباك مرضي، وبعضهن تدنت سلامتهن النفسية لمواقف لا يحسدن عليه...!

قهر النساء الغزيات خراب ما بعده خراب خراب في الروح وخراب للمستقبل خراب لا يفعله غير احتلال غاشم لا يعرف أخلاقا ولا يعرف أعراف دولية.. مجبرات على ألا يمشطن شعورهن في الحرب أكثر من ثمانين يوما بحجابهن وملابسهن كاملة فقدن الأمان والأمن والخصوصية، فقدن البيت والملجأ والستر، نامت الكثيرات منهن في الشوارع وبين أزقة البيوت وفي الخيام التي لا تستر عورة ولا تقي من برد، جاعت الآلاف منهن وامتنعن عن تناول شيئا يستر جوعهن لأن هنالك أطفال وكبار في السن يظللن ضعفهم ويقدمن كل ما يمكنهن من حماية واحتضان عائلاتهن، ومن فقد أما فكأنما فقد الحياة وأصبح وحيدا يتيما...!! عام الجوع والعطش والقهر والخذلان والخوف والقلق ...!! 

إحدى الطفلات الغزيات روت أنها وجدت نفسها في شاحنة مفتوحة بين عشرات الرجال العراة جميعهم معصوبي الأعين تصغي لغضب مكبوت وأنين البعض من جراح لليلة سابقة ما بين ضرب بأعقاب البنادق وأيدي تكاد تكون ممزقة بفعل القيود على المعصمين والملتفة خلف الظهر، رائحة الدم تفوح في الشاحنة ولا يشفع لها فزعها لتتمكن من النطق أو البكاء، تجد نفسها في مكان أسيرة بلا أب أو ام أو بيت أو غطاء هي بلا شيء إلا القهر والحزن والضياع فقد غدت معتقلة بعد أن سارت بهم الشاحنات وصولا للمعتقل، وهناك ذاقت أبشع أنواع العذاب والإهانة انتقاما لكل ما هو غزة..!، وهذا وفقا لما نشر في وسائل الإعلام ومؤسسات حقوقية من بينها  المرصد الأورومتوسطي لحقوق الانسان الذي استعرض أحداث مماثلة .[2]

في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل دقيقة ما بعد السابع من أكتوبر حملت القتل والجراح والوجع لكل غزي وغزية، ليس وجعا جديدا فهي أرض محتلة جوا وبرا وبحرا وما دام الاحتلال الإسرائيلي يجثم على قلوبنا وصدورنا فسيبقى الوجع باقيا، لكنها أشهر ثلاثة في العام المنصرم إنما غيرت وجه غزة الجميلة وقطعت بعض خصلات شعرها وفقأت عينا وسرقت يدا لكنها ستغسل وجهها ذات صباح جديد في بحرها وستعيد لشعرها بريقه وتعيد لأبنائها وبناتها الحياة من جديد فمهما تجبر الاحتلال الإسرائيلي ومهما استمر بجرائم الحرب التي تندى لها جبين الإنسانية سيشرق فجر الحرية بدءا من غزة وانتهاء بها فهي أم البدايات وأم النهايات.. 


[1] وفقًا لما جاء من المكتب الاعلامي الحكومي في غزة، كما ورد في تقرير صحيفة "اليوم السابع" بتاريخ 28/12/23.

[2]https://paltodaytv.com/post/157823/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%85%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B7%D9%8A-%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%BA%D8%B2%D8%A9

(استخدام الصور بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م