غزة: ما بين مناخ الحرب وحرب المناخ
حاولت الكتابة طوال الأسابيع الماضية عن المناخ في ظل الحرب وأخفقت. فوسط المشاهد القاتمة للموت والدمار، بدى لي الحديث عن أي شيء آخر باهتًا. ثمّ أنني كنت أخشى، ككثيرين، التعبير الحرّ في مناخ أضحت فيه مقولة "أنا ضد الحرب" جرمًا قد يعاقب عليه القانون. وقد بدت كتابة أي نص يتعلّق بالحرب كالسير في حقل من الألغام؛ قد يباغتك في كل زاوية لغم-كلمة. فكان علينا إخضاع أي نص لرقابة ذاتية عالية تضمنت المفاضلة بين الكلمات وتفسير المفهوم ضمنًا لتجنب التأويلات المُغرضة من قبل الأجهزة الأمنية، ممّا جعل النصوص منقوصة، هزيلة، مرتعشة، منحنية ومعتذرة.
خلال تلك الفترة، تصادفت بعض الأحداث التي دفعتني أحيانًا إلى الكتابة عن التداعيات البيئية والمناخية للحرب على غزة، إلا أن جميعها لم تكتمل ولم ترَ النور أبدًا. وكان من جملة ما وصلني، كتاب موقع من قبل أعضاء فيما يسمى "الحركة البيئية الإسرائيلية" موجّه إلى غريتا ثونبرغ، المعروفة كأيقونة النضال المناخي، على خلفية دعمها لغزة والمطالبة بوقف الحرب. وقد تمّ تداول هذا الكتاب على نطاق واسع بهدف جمع أكبر عدد من التواقيع. وكان الشعور بخيبة الأمل، ممزوج ببعض الغضب، هو الشعور الطاغي لدي! هذا الشعور لم يتأت من جراء ما جاء في الرسالة، إنما إزاء ما سقط منها.
وكان كتاب "الحركة البيئية الإسرائيلية" قد تضمن سردًا للهجوم المأساوي الذي حدث في السابع من أكتوبر في جنوبي البلاد مطالبًا الناشطة البيئية غريتا ثونبرغ بالتراجع عن دعمها لغزة. وللمفارقة، وتحت غطاء خطاب العدالة المناخية، اختارت الحركة البيئية الإسرائيلية أن تتجاهل تمامًا "الفيل في الغرفة"، أي الحرب.
توضع المؤسسات الحقوقية وما يُسمى بحراس البوابات على المحك في أوقات الحروب والأزمات، خارج "مناطق الراحة"، حيث تصبح ممارسة أدوارهم التقليدية أكثر تحديًا. إلا أنه خلال الحرب الحالية، تخلّت معظم هذه المؤسسات عن أدوارها وامتثلت بشكل تام، للخطاب الإسرائيلي المهيمن الذي أملته العسكرة كواقع مادي والعسكرة كإطار فكري. على الرغم من أن إسرائيل عملت دومًا على احتكار الخطاب، لكن بعد السابع من أكتوبر أصبحت الحرب على هيمنة الخطاب أكثر شمولية، سفورًا وشراسة. فبينما شهدنا في الماضي بعض المحاولات لتجريم السردية المغايرة، كسردية النكبة مثلا، إلا أنها بقيت في طور المحاولات الفردية العينية. بعد السابع من أكتوبر، أضحى تجريم الخطاب المغاير أكثر شمولية، كما بدأت شيطنة كل من يغرد خارج سرب المؤسسة الإسرائيلية سهلة في ظل ابتداع الثنائيات المطلقة للخير والشر، والحق والباطل. كما وامتثلت الآن المؤسسة الإسرائيلية، على كافة أجهزتها وقطاعاتها، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، إلى هذا الخطاب.
تجندت الحركة البيئية الإسرائيلية أيضًا في الحرب على هيمنة الخطاب. وإذ كان في هول الفاجعة في السابع من أكتوبر ما قد يُفسر هذا، لكن ليس هنالك ثمة تبرير لتقزيم "الفيل" لا بل محوه من السجل المناخي والبيئي. المصداقية تحتّم عليها أن تعترف بالثمن البيئي والمناخي المرافق للحرب على غزة بالقدر الذي يتيح لها، في أقلها، أن تحفظ ماء وجهها. هذا وقد كُتب وسيكتب الكثير عن الكارثة البيئية والصحية التي حلّت في قطاع من جراء هذه الحرب، كما وتطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي يوميًا بشهادات ميدانية حيّة تُجسد بعضًا من ملامح هذه الكارثة. تُجهز آلة الحرب الإسرائيلية على البشر والحجر، لتتصدر الجثث المتراكمة والمتحللة المشهد في أقسى تجلياته. ثم تلال النفايات الصلبة الناتجة عن الدمار والنفايات الطبية الخطرة غير المُعالجة. ثم ما ينجم عن المقذوفات، المتفجرات وغيرها من أساليب الدمار من تلوث للهواء، التربة، المياه الجوفية والمسطحات المائية. ثم تدمير مساحات شاسعة من الأراضي على ما فيها من حياة برية وتنوع بيولوجي غني تميّزت به فلسطين. وفيما يتعلّق بالتأثيرات المناخية الأبعد أمدًا، للحرب والعمليات العسكرية في غزة، دور في تشكُّل الاحتباس الحراري من خلال ما يرافق هذه العمليات من انبعاثات لغازات الكربون وما يكافئها. ليس ثمة جدل اليوم حول الثمن المناخي المنوط بالعمليات العسكرية، فيُقدّر أنها مسؤولة عمّا يعادل 5.5% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية. وعلى سبيل المثال، بين الأعوام 2001 و- 2018، تمّ انبعاث 440 مليون طن من الغازات المكافئة لثاني أكسيد الكربون نتيجة للعمليات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة في أفغانستان، باكستان، العراق وسوريا. وأدى غزو العراق من قبل الولايات المتحدة إلى إنتاج ما يقارب 250 مليون طن من الغازات المكافئة لثاني أكسيد الكربون.
تُقاس المتانة المناخية للشعوب ليس فقط من خلال مدى تعرضها لعوامل خطر مناخية ومدى حساسيتها إزاءها، إنما أيّضًا بقدرتها على التكيّف، الصمود والتعافي من الأزمات المناخية. وأتى تدمير البنية التحتية المدنية في غزة بما في ذلك في قطاع الطاقة، المياه والصرف الصحي، ليُضعف مقومات الصمود المناخي لدى الغزيين ويتركهم "عُزّل" و"عراة" في مهب الحرب وفي مهب الظواهر المناخية.
وتوّلد الشعور ببعض من الخيبة إزاء تجاهل الحركة البيئية الإسرائيلية لهذه الحقائق الصارخة، إلا أنه لم يكن مستهجنًا أن تقوم البعثة الرسمية الإسرائيلية بكتم وإخفات صوت قنابل الحرب في سياق أثرها على البيئة والمناخ في قمة المناخ الأخيرة (مؤتمر الأطراف الثامن وعشرين) الذي عُقد في دبي في الشهر المنصرم. ركزت البعثة الإسرائيلية، المفاخرة بكونها "أمة الستارت أب"، على مساهمة إسرائيل في تكنولوجيا المناخ بينما رفض ممثلوها، على هامش المؤتمر، الربط بين الحرب وأزمة المناخ. لا ضير لا بل أنه ثمة حاجة للابتكار التكنولوجي لمجابهة تغيرات المناخ والتخفيف من حدتها، بيد أنه يجب العودة دائمًا إلى المربع الأول: العدالة المناخية.
"العدالة المناخية" هي مصطلح حديث العهد يقوم على تأطير أزمة المناخ ضمن السياق البنيوي الأوسع؛ السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والأخلاقي. في تعريف مفرط في التبسيط، يمكن القول إن مبدأ "العدالة المناخية" يقضي بالاعتراف بالمسؤولية المتغايرة للدول المختلفة عن أزمة المناخ وآثاره غير المتناسبة على المجموعات الضعيفة.
نحن نقطن في هذه الرقعة الساخنة من العالم، حيث يحمل مصطلح "نقطة ساخنة" دلالات مناخية وسياسية: الجغرافيّة من حيث موقع البلاد والسياسية من حيث تاريخ الحروب؛ لذا، أكثر ما يلزمنا الآن هو بلورة خطاب العدالة المناخية المتقاطع حتمًا مع خطاب المسؤولية التاريخية، العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
تصوير: معتز عزايزة.