لعبة الشطرنج ومنطق الجدوى
في حياتنا الشخصية والأسرية والاجتماعية والسياسية نلعب أدوارا مختلفة وفقًا لظروفنا وأنماط تربيتنا وقناعاتنا، من خلال هذه الأدوار نحاول تحقيق أهدافنا في سياق علاقاتنا مع الآخرين أو صراعاتنا مع خصوم أو أعداء. بالتالي، في هذه المقالة أود تحليل ومقارنة دور لاعب البينج بونج مع دور لاعب الشطرنج، ومقارنة منطق الحقّ أمام منطق الجدوى.
بينج بونج والشطرنج:
مهمة لاعب البينج بونج أن يكون متنبها للضربات التي يتلقاها، ليردّ عليها بضربات مضادة ويحول دون تسجيل نقاط عليه، بل ويسجل لنفسهِ نقاطا نحو الانتصار. المهمة المطلوبة تلقائية وشبه أوتوماتيكية تعتمد على تدريب سابق دون تفكير واتخاذ قرارات مدروسة أثناء اللعب. يتصرف الإنسان في كثير من الأحيان، بمنطق البينج بونج الأوتوماتيكي، معتمدا على التجربة والتدريب السابق في مسيرة حياته، والتي طوّر خلالها ردود وأنماط تعامل تلقائية تميزّه، وأصبحت جزء من شخصيته الخاصة. من بين هذه الأنماط مثلا الرد المتسرع، الهجومي أو العصبي، الانطواء أو الانسحاب أو البكاء، المسايرة والمجاراة، الحوار والتفاهم وغيرها من الأنماط.
الأنماط تلقائية نتعلمها في سياقات الماضي، لكنها تهدف في الحاضر إلى تحقيق هدف ما، مثل رد الإهانة أو استرجاع حق أو تحقيق مكسب ما. أحيانا يكون الرد التلقائي ليس تكرارا لأنماط الماضي، بل تكرارا لأنماط الخصم: فإذا شتمني أشتمه وإذا ضربني أضربه وإذا ساعدني أساعده دون فحص جدوى هذه الردود. كثيرا ما تحقق هذه الردود الهدف المنشود وكثيرا ما تخفق في تحقيق الهدف، بل وتؤتي أحيانا بخسائر. عندها يقوم البعض بإعادة النظر في أدواته ويعدّلها بما يلائم أهدافه، أما البعض الآخر وهم كُثر يواصلون الردود التلقائية وينتقلون من إحباط إلى إحباط ويلعنون الظروف دون مراجعة أدواتهم.
أما لاعب الشطرنج فلا تكون خطواته تلقائية، بل مدروسة معتمدة على ثلاث مهارات في آنٍ واحد:
رصد وقراءة الحقل الذي يلعب به وتقييم إمكانياته وأدواته بالمقارنة مع إمكانيات وأدوات الخصم.
محاولة توقع رد الخصم على كل خطوة ممكنة لاختيار الرد الذي يجعله يواصل تقدمه نحو الهدف أو الانتصار.
تقييم الربح والخسارة على المدى الفوري وعلى المدى البعيد، فيختار أحيانا تكبد خسارة فورية هامشية لأجل تسجيل ربح مؤجل لكنه كبير.
من الناحية البيولوجية تعتمد مهارات البينج بونج في الأساس على الدماغ الحدّي "Limbic System" وعلى جذع الدماغ وهما أقسام بدائية، وهي مشتركة بيننا وبين الحيوانات وتعمل بشكل انعكاسي أو بناء على ترويض مسبق ليس فيه كثير من التفكير. أما مهارات الشطرنج فتعتمد على غشاء الدماغ "Cortex" الذي هو الدماغ الأرقى والذي لا يتمتع به سوى الإنسان، وهكذا يمكنه أن يفكر بشكل رمزي ولغوي ويتخيل البدائل الممكنة ويخطط وغيرها من المهارات الذهنية الراقية. لهذا السبب يمكن تدريب حيوان على إتقان لعبة بينج بونج لكن لا يمكن تدريبه على لعبة شطرنج التي تتطلب تفكيرا راقيا وحسابات معقّدة.
منطق البينج بونج ومنطق الشطرنج يتقاطعا مع منطق "الحق" ومنطق "الجدوى". ففي كل مأزق يستطيع كل طرف أن يذهب إلى "منطق الحق" بمعنى أن يسعى بكل الوسائل لاسترداد حقه دون فحص جدوى كل وسيلة. أما "منطق الجدوى" فيدعوه إلى التروي وفحص جدوى كل وسيلة ليختار ما هو مجدي ويتحاشى تكبد المزيد من الخسائر. فمثلًا إذا تعرض شخص ما إلى سطو مسلح فمن حقّه طبعا أن يدافع عن نفسه بعنف لكن في معظم الأحيان يكون هذا العنف غير مجد، بل وخطر لأنه لم يحسب حسابات الجدوى.
الحقيقة هي أننا في سياق حياتنا نحتاج إلى منطق البينج بونج كي لا نفكر كل مرة من جديد في مآزق متشابهة وتتكرر، ونحتاج حتما إلى منطق الشطرنج في المآزق الجديدة في الحاضر التي تتطلب رصد الحقل الذي نعمل فيه وتقييم إمكانياتنا بالمقارنة مع إمكانية الخصم، ونحاول توقع رد فعله وتقييم الربح الفوري أمام الربح المؤجل.
تطبيق البينج بونج والشطرنج في الحياة:
لنبدأ بمثال في إطار علاقات العمل، لنفترض أن إحدى المعلمات تصرفت في جلسةٍ بعصبية وبشكل مهين تجاه مديرها. إذا رد المدير بعصبية مضادة، كلاعب بينج بونج وبحسب منطق الحق، فهناك احتمال أن ترتدع المعلمة وتهدأ أو تعتذر لكن هذا غير مضمون ويتعلق بشخصية المعلمة. في هذه الحالة لا بدّ للمدير أن يلجأ إلى منطق الشطرنج والجدوى ويتنبه إلى شخصية المعلمة ويتوقع ردها ويرصد ويقرأ الحقل المدرسي ويحاول توقع رد الطاقم لكل خطوة يتخذها، ويقيّم حسابات الربح والخسارة القريبة والبعيدة وبعدها يقرّر كيف يتصرف. فإذا توقع أن هذه المعلمة ستنجح بتجنيد الطاقم ضدّه فيما لو ردّ إليها الإهانة فعليهِ أن يتروى ويهدئ من روعه وروعها ويحاول فهم ما يزعجها ويحاورها ليصلا إلى حل منصف (طبعا يمكن للمثال أن يكون مقلوبا بحيث أن يكون بين مديرة وأستاذ والخ).
تطبيق البينج بونج والشطرنج في السياسة، لنأخذ تصرف الأطراف المختلفة في الحرب الدائرة اليوم ونفحص المنطق الذي يصف سلوك كل طرف نحو هدفه:
أهداف حماس
هدف قريب المدى وهو فكّ الحصار على القطاع، وهدف بعيد المدى وهو التحرير (تحرير فلسطين أو جزء منها، الأراضي المحتلّة عام 1967) وعليه نسأل فيما إذا كان هجوم 7 أكتوبر يخدم هذان الهدفان. إذا حاولنا الإجابة على هذا السؤال في البعد القريب فيبدو أن حماس اعتمدت منطق الحق وليس منطق الجدوى أو منطق الشطرنج لأن ميزان الربح والخسارة حتى الآن لا يدلّ على اقتراب حماس من فك الحصار أو التحرير. يمكننا تقييم الجدوى بشكل كمي:
1200 قتيل إسرائيلي أمام نحو 25000 قتيل فلسطيني (هذا حتى منتصف ديسمبر 2023).
5000 جريح إسرائيلي أمام أكثر من 55000 جريح فلسطيني.
عشرات آلاف المهجرين الإسرائيليين أمام مليوني مهجر فلسطيني.
عشرات من البيوت الإسرائيلية المتضررة أمام تدمير معظم بيوت غزة.
تحرير عشرات المخطوفين الإسرائيليين مقابل تحرير ثلاثة أضعاف سجناء فلسطينيين، وفي المقابل قامت إسرائيل باعتقال مئات وربما آلاف الفلسطينيين في الضفة وغزة والداخل منذ 7 أكتوبر كما وبإمكانها إعادة اعتقال الفلسطينيين الذين حررتهم في صفقات التبادل.
ويمكن قياس الجدوى بمعايير سياسية:
على صعيد مكانة القضية الفلسطينية أعادت الحرب الجارية القضية الفلسطينية إلى وعي العالم، وجعلت قوى كثيرة تتضامن مع الشعب الفلسطيني.
على صعيد مكانة حماس، استطاعت تعزيز قوتها حاليا في صفوف الشعب الفلسطيني لكنها جعلت كثير من الغزيين، الذين تُركوا في العراء ودفعوا ثمنا باهظا دون أي حماية أو رعاية من حماس، وهم الآن في موقع معارض لسلطةٍ تحكمها حماس.
وعلى صعيد الرأي العام الإسرائيلي، فقد قوّض هجوم 7 أكتوبر فكرة الجيش الذي لا يقهر ووضع نتنياهو واليمين الإسرائيلي والقوى الأمنية في قفص الاتهام، لكن هذا الهجوم دفع بالرأي العام الإسرائيلي نحو التطرف والعنصرية وانكفائه في عقل الملاحقة و"البارنويا" واللاسامية وبالتالي تبرير أي عدوان تقوم فيه إسرائيل معتبرة إياه دفاع من أجل البقاء.
ميزان الربح والخسارة كما يبدو حتى الآن لا يدلّ على جدوى هجوم 7 أكتوبر في تقريب حماس من هدف فك الحصار أو هدف التحرير، بل يدل على خسائر بشرية ومادية باهظة جدًا. الانتصار الواقعي الذي تصبو إليه حماس الآن هو وقف الحرب والمحافظة على نفسها، وهكذا يكون قد جرّ الصراع نحو تدمير قطاع غزة بدل فك الحصار عنها. أما تقييم الجدوى في المدى البعيد وغير المنظور ومدى الاقتراب أو الابتعاد عن تحقيق الأهداف فيبقى متروكا للمستقبل.
إسرائيل
يبدو أن رد الفعل الإسرائيلي جاء بمنطق البينج بونج والانتقام الوحشي دون حسابات الجدوى. هي لم تنجح حتى الآن ويبدو أنها لن تنجح في تحقيق الأهداف التي وضعتها للحرب (القضاء على حماس وإعادة كل المختطفين سالمين) وما فعلته هو مجرد انتقام وتدمير غزة وتهجير سكانها. إسرائيل تدفع ثمنا سياسيا باهظا اليوم في العالم بعد كشف ممارساتها الوحشية، وتتكبد خسائر عسكرية بالجنود والعتاد وخسائر مادية تصل إلى مليارات الدولارات، وها هي في ورطة كبيرة أمام إعادة توطين المهجرين وحماية حدودها في الشمال والجنوب والشرق. طبعا الأحداث جارية وما سيأتي به المستقبل غير المنظور يبقى مجهولا.
إسرائيل طوال الوقت تتصرف بعنجهية القوة ولا تنظر للمدى البعيد الذي لا يضمن لهذه القوة أن تسيطر إلى الأبد. وهكذا نرى أن معظم سياساتها تفشل أمام الواقع: فشلت في سياسة التجهيل والعدمية القومية للمواطنين الفلسطينيين، فشلت في القضاء على القضية الفلسطينية، وفشلت في تحقيق السلام والأمن لمواطنيها مما يجعل إسرائيل الأكثر خطرًا على اليهود في العالم. ما نجحت به إسرائيل هو مواصلة القمع والعدوان وارتكاب الجرائم.
المواطنون العرب
يبدو أن القيادات العربية والجمهور العربي في إسرائيل كان الطرف الوحيد الذي تصرف بعقلية الشطرنج وامتنع عن عقلية البينج بونج وهكذا كانت ردوده محسوبة معتمدة على تقييم واقعي للحقل الذي يعيش فيه ولتوازن القوى والإمكانيات الممكنة وتلك غير الممكنة أو الخطرة. كان يمكن للجمهور العربي أن ينطلق من منطق الحق وأن ينتفض ويهب تضامنا مع غزة ومنددًا بالهجوم على غزة، إلا أنه قرأ الحقل بشكل واقعي وقيّم توازن القوى والعواقب الممكنة وبالتالي اختار بحكمة ضبط النفس دون إخفاء موقفه الإنساني والقومي.
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ بدايته جرى غالبا وفق منطق البينج بونج ومنطق الحق مما كبّد الناس والمنطقة أثمانا باهظة. مع هذا كانت بعض القرارات التي تأسست على منطق الشطرنج معظمها قام بها ممثلو المواطنين العرب في الداخل: قبول قرار التقسيم من قبل بعض القوى السياسية سنة 1947، قبول المواطنة الإسرائيلية، النضال ضد الحكم العسكري، إعلان يوم الأرض سنة 1976، تنظيم النضال السياسي في الأحزاب العربية وغيرها من القرارات. وأخيرًا ليتنا نغلّب منطق الشطرنج في دوائر حياتنا الشخصية والاجتماعية والسياسية.