يكاد العام 2022 ينتهي وغزة ما زالت تحترق...! لم تكف عن الاحتراق حتى أشهر العام الأخيرة، فاجعة أليمة أودت بحياة 21 روحا من عائلة أبو ريا في مخيم جباليا من نساء وأطفال ورجال.. أثناء اجتماع العائلة لتحتفل بعيد ميلاد أحد أطفالها، اشتعل الحريق لتحترق أجساد الأمهات الأبناء وأطفالهم.. لم ينجُ أحد ولا توجد إصابات كلهم ماتوا...!!

الجد والأب والأمهات والإخوة والزوجات والأبناء والأحفاد كلهم ماتوا في ساعة احتراق واحدة، وتحول الفرح والاحتفال إلى حزن وقهر وفاجعة لا توصف، إنه بيت في الدور الثالث من عمارة سكنية في مخيم جباليا شمال غزة، النار استعرت والتهمت الكبار أولا، أما الصغار فقد وجدت بقاياهم بينما هم في أحضان أمهاتهم المحترقات الملتصقات ببقايا الأثاث الذي بات فحما أسود كحياة الغزيين.

أصوات الضحايا وهم يحترقون يصرخون بطلب النجدة بعد أن غلقت عليهم الأبواب، بينما الشبابيك التي تسلحت بالحديد الفولاذي حماية للأطفال من السقوط أصبحت سجنا منعتهم من الهروب أو حتى التفكير بالقفز من الدور الثالث فرارا من لهيب جحيم انفتح بلا رحمة عليهم ..!! الجيران الملتاعون الذين لم ينجوا بعد من هول الصدمة والأصوات التي دفنت عظامها في قبور بعضها مشترك لاستحالة التفرقة بين الجثت المتفحمة، الوجع والمصاب أكبر من الاحتمال، لكني رغم سكرة الألم والقهر واللوعة على من احترقوا فإنني سأقترب أكثر مما نعيشه في غزة المحاصرة المقهورة التي لم يعد أحد يدرك أنها تموت ببطء وأننا جميعا نحترق بشكل أو بآخر

أول هذه الحرائق.. قتلة يحزنون!

وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس الذي ارتكب الجرائم ضد الفلسطينيين أعرب عن حزنه للكارثة الكبيرة التي حدثت في غزة...!! من الذي يحاصر غزة منذ 16 عاما؟؟ ومن الذي يمنع دخول المعدات والآليات اللازمة للدفاع المدني في غزة؟؟!

الدفاع المدني في غزة يفتقر لكل شيء المعدات اللازمة والأجهزة والسيارات ويعيش في حالة حصار إسرائيلية منذ عام 2006 ولم يتم خلالها -وحتى الآن -السماح بإدخال أية مركبات إطفاء جديدة أو معدات حديثة بل إن عجزا يزداد عاما بعد عام في معدات واجبة ولازمة ( مركبات الإطفاء، سلالم الإطفاء بأمتار كبيرة، فرشات الهواء والكمبريسر (ضاغط الهواء) وأجهزة التنفس الشخصية وفلاتر الكمامات، ملابس الوقاية من لهيب النيران، بالإضافة إلى معدات الحماية الشخصية اللازمة للتعامل مع "السموم" الناجمة عن الحرق وتحلل الجثث...الخ) حيث إن ما هو متوفر قديم واستنفد في التعامل مع حالات المنخفضات الجوية التي تؤدي إلى أوضاع كارثية في بنية تحتية مهترئة في قطاع غزة، ناهيك عن العدوانات الإسرائيلية المتتابعة التي سيطرت فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي جوا وبرا وبحرا وأنهكت كل قطاعات الحياة في قطاع غزة، وليس أفضل حالا القطاع الصحي ومنع إدخال الأجهزة الطبية اللازمة خاصة لمريضات السرطان في قطاع غزة ... مليونان و300 ألف مواطن ومواطنة في قطاع غزة بحاجة ماسة للحد الأدنى من الخدمات الإنسانية التي يقدمها الدفاع المدني، ويأتي غانتس ليواسينا في مصائبنا وكأن لدولة الاحتلال الإسرائيلي قلبا أو إحساسا بالآخر الفلسطيني.!!

ثاني هذه الحرائق.. مولدات كهربائية!

تعود بداية أزمة الكهرباء الحالية في قطاع غزة إلى منتصف عام 2006، حين قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة بتاريخ 28 يونيو 2006 مما أدى إلى توقفها عن العمل بشكل كامل، ومنذ ذلك الوقت أصبح القطاع يعاني بشكل مستمر من عجز كبير في الطاقة الكهربائية، وظلت المحطة في حالة توقف جراء ذلك القصف حتى أصلحت جزئيا في العام 2009 من هنا بدأت تبرز فكرة مولدات كهربائية لإنتاج وتوليد الكهرباء، مولدات كهربائية هي في الواقع قنابل موقوتة بفعل الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، من أعقد الأزمات التي يواجهها قطاع غزة وأكثرها تأثيرا على حياة سكانه، فقد تحولت "الكهرباء" إلى إحدى أدوات حصار سكان قطاع غزة ومعاقبتهم وفرض المزيد من الضغوط عليهم سلما وحربا. كما أن هنالك جملة من الأسباب التي بالنتيجة تجعل حياة الغزي جحيما مطلقا، فلا مساحات للاختيار الحر لهذه المولدات من عدمها، مولدات كهربائية وأخرى تعمل على السولار، ويكفي صوتها والضجيج الذي تصدره، وبعضها تنتج عوادم سامة تلوث الهواء وتزيد من تلوث البيئة وإيلام المرضى والعجائز وحتى الأطفال، لكن مرة أخرى استمرار الحياة باستمرار انقطاع التيار الكهربائي في هذا الزمن المتقدم بات أمرا غير منطقي لكنه ما زال يحدث في غزة، وليس أسوأ حالا ممن لا يملك قوت يومه فيعتمد على إضاءة الشموع التي أيضا كانت سببا في قتل أطفال وعائلات فلسطينية قبل عدة أعوام..!!

ثالث هذه الحرائق: موت مجاني غرقا في سواحل الغربة

حرائق تتجدد وتزداد يوما بعد يوم هي حرائق ملتهبة مستعرة رغم برودة المياه الدولية حيث غرق وما زال يغرق أبناء غزة على السواحل اليونانية والتركية، 5 شبان من جيراني في مدينة رفح توفوا في يوم واحد حين غرق المركب الذي كان يقلهم وعشرات المهاجرين ذهبوا في طرقات مجهولة بين الغابات سالت الدماء من أقدامهم، سرقهم بعض اللصوص وسماسرة الموت، وبعضهم نكلت بهم عصابات ومافيات تتقصد مثل هؤلاء الشبان الذي حلموا أن يكون حلمهم خارج أسوار الموت المجاني والحصار الخانق في غزة، ركبوا الموت لأجل الحياة إلا أن عشرات من الشبان الفلسطينيين من غزة لم ينجوا. كان هذا عام الموت المجاني غرقا، وحسرة عائلاتهم لا يمكن وصفها، ففقدان أبنائهم وهم في طريقهم للحياة ألم لا يندمل مدى الحياة وحريق سيبقى مشتعلا في أفئدتهم للأبد ..!!

رابع هذه الحرائق: عنف مركب لا سلم ولا حرب لا حياة ولا موت

كثيرون في دراسات وتقارير دولية تحدثوا عن غزة غير الآمنة للسكن، وغير الصالحة للعيش الأعوام الحالية أو القادمة، فما الذي يعانيه أكثر من مليوني إنسان في غزة، لا تكفي مفردات القهر والظلم والعجز التي يمكن توصيفها يكفي أن تبقى على هذه البقعة وأنت تحترق في كل لحظة حياة، فما الذي ننتظره لأجل أن نحيا كما البشر بينما الحرائق ما زالت تحترق في شبابنا وشيبنا، ما معنى الحياة التي لا هي حرب ولا سلم، لا حياة ولا موت إنها حرائق مستمرة مشتعلة فيبدو الغزي كإنسان تحيط به النيران من كل اتجاه، وهو يبتسم للموت بينما تنعكس النيران في قلبه وأنفاسه حتى رمقه الأخير..!

إن الألم الذي أصابنا في نهاية عام حزين لأهل غزة إنما يجعلنا لا نتمكن من الابتسام لأجل الحياة التي لم يعد لها معنى في خضم هذا الموت المجاني لأبنائنا وبناتنا بينما مستقبلهم يحترق أمامنا نحن الأمهات والآباء المكلومون بصمت ولم يعد بإمكاننا الادعاء أن حريقا لم ينشب بعد في قلوبنا، فالحريق ما زال مشتعلا في أفئدتنا...!


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م