القرارات القضائية التي لم تنشر كي لا تقرأ هي أهم قضايا العام
جرت العادة لدى المحاكم في البلاد تلخيص السنة القضائيّة بعرض أبرز قرارات المحاكم المبدئية للعام المنصرم. تنشر المحكمة العليا الإسرائيلية أبرز قراراتها على موقعها الإلكترونيّ وعادة ما يتم نشر قرارات بالقضايا الدستورية التي أقرت بها المحكمة بالعام المنصرم أو تلك التي أشغلت الرأي العام الإسرائيلي وطبعًا القرارات التي أقرت فيها سابقة قانونية جديدة. ومن الطبيعي أن تحاول المحكمة بواسطة قائمتها السنويّة المفاخرة بنشاطها وقراراتها المفصّلة الممتدة أحيانًا عبر مئات الصفحات دون أي علاقة لنتيجة القضية. ولا أنكر أننا كحقوقيين نشعر للوهلة الأولى بالسعادة لمجرد ذكر قرار لنا ضمن هذه القائمة وكأن الشهادة أو الإشادة لعملنا تأتي من مجرد ذكر قرار لقضية خضناها ضمن القائمة حتى إن كنا الطرف الخاسر للقضية.
إلا أن مراكمة العمل أمام المحاكم الإسرائيليّة والهيئات القضائيّة تجعلنا ننظر إلى قائمة "المفاخرة" بنوع من التهكّم والسخرية إما لأن نتيجة التقاضي في أغلب الأحيان هي خسارة الملتمسين أو لإدراكنا بأن "المخفي أعظم". والمخفي بقرارات المحاكم يتجلّى بصور متعددة أولها بالقرارات التي لم تكتب والتي أجبر فيها الملتمس عادة محو إلتماسه لعدم قناعة المحكمة بشرعية مطلبه ولعدم رغبتها التدخل بأداء السلطات. تندرج هنا مثلًا كل القضايا التي تصل المحكمة العليا ضد أوامر المحاكم العسكرية بالمناطق الفلسطينية المحتلة والتي تصادق على قرارات تمديد الاعتقال الإداري للمعتقلين الفلسطينيين.
يحق للمعتقل الفلسطينني التوجه للمحكمة العليا الإسرائيليّة ضد قرار محكمة الاحتلال العسكرية المصادقة على أمر اعتقاله الإداري. تنظر المحكمة العليا بهذه الالتماسات بهيئة مكونة من ثلاثة قضاة. مشهد وسيرورة الجلسات بمثل هذه القضايا معروف مسبقًا. يدخل الطرفان أولاً امام المحكمة ليقدموا طعوناتهم الشفوية. ومن المفروض أن يبدأ الملتمس عادة بعرض ادعائاته أمام المحكمة إلا أنه بالكثير من الأحيان يأتي رئيس هيئة القضاة ويختزل أقوال محامي الدفاع بجملة "محامي الملتمس يكرر ما جاء في الالتماس" دون أن ينبس محامي المعتقل ببنت شفة. بعدها يلتفت القضاة إلى النيابة العامة مطالبين الانكشاف إلى المواد والبينات السرية وهو ما يرمز لمحامي المعتقل بأنه آن الأوان أن تترك لنا – نحن المحكمة والمخابرات – الساحة كي نختلي ببعض لتداول البيّات السرية التي يحرم موكلك من الاطلاع عليها ونحرمه نحن من حريته ومن الإجراءات العادلة بسببها. وما يثير السخرية بمثل هذه الإجراءات هو طلب موافقة محامي المعتقل على انكشاف المحكمة للبيّات السرية في الوقت الذي لا توجد أمام المحامي عدة خيارات سوا الموافقة على مضض علمًا أنه رفضه السماح للمحكمة الخلو بمندوبي المخابرات كاف من ناحية قانونية لرفض التماسه بناء على فرضية قانونية تقول إن أداء السلطات عادة سليم إلا إذا أثبت الملتمس عكس ذلك. لذا لا يجد الملتمس عبر محاميه إلا خيارًا واحدًا وهو السماح للمحكمة الإطلاع على المواد السرية فهو بمثابة مرغمًا أخاك لا موافق عن قناعة مهنية وذاتية. (لن أخوض الآن بتحفظاتي من انصياعنا وتماهينا كحقوقيين مع هذه المنظومة ولكل حادث حديث.)
وبعد سماع المخابرات بجلسة مغلقة دون مثول المعتقل أو ممثله ترفض المحكمة الإلتماس عادة معللة ذلك بقناعتها بخطورة المعتقل ولزوم استمرار اعتقاله الإداري بناء على ما جاء بالمواد السرية.
ويستدل من بحث أجرته قبل سنوات الباحثة الإسرائيلية د. شيري كيربس، والتي عملت في المحكمة العليا كمساعدة لرئيسة المحكمة العليا آنذاك دوريت بينيش، أنه من بين 322 قرارًا للمحكمة العليا اللإسرائليّة بقضايا الاعتقال الإداري امتد 13 قرارًا فقط إلى نحو 3 صفحات فيما باقي القرارات لم تتعد الصفحة وبضع الأسطر. كما أشركت القرّاء بأن معدل الوقت الذي يستغرفه تداول وسماع قضية أسير إداري هو 20 دقيقة دون أي علاقة للفترة الزمنية التي يمضيها المعتقل بالإعتقال الإداري.
لا تختلف الصورة بالمحكمة العليا اليوم. بحث بسيط أجريته (بكبسة زر) بموقع المحكمة العليا أظهر أمامي عشرات من قرارات المحكمة التي استصدرت هذا العام (2022) تكرر فيها مشهد رفض الالتماس بقرار مقتضب يخلو من أي لغة حقوقية دستورية على الرغم من أن الحديث عن أسوء نوع اعتقال وأقسى إجراء ممكن اتخاذه بحق المعتقلين مسلوبي الحرية لشهور وسنوات دون محاكمة فعلية، ودون بينات مكشوفة ولا فترة حكم محددة مسبقًا وفقًا لقرار مدين.
لن يدرج أي قرار من قرارات المحكمة العليا المعيبة بالاعتقالات الإدارية ضمن قائمة "المفاخرة" لأنها باهتة وقصيرة لم يبذل فيها أي اجتهاد او نشاط قضائي خاص. هذه القرارات التي تسلب من الفلسطيني حريته الدستورية لن تدرّس بالجامعات ولا الكليّات الأكاديميّة الحقوقيّة. فالقرارات ضحلة جافة ولا تأتي بأي تحديث دستوري يستطيع المحاضر الأكاديمي من خلاله إثارة نقاش مع طلابه . وهكذا نربي أجيالًا من الحقوقيين على بناء تصور وتقييم للمحكمة العليا استنادًا لما تقوم هي بنشره كقرارات تمثيليّة لأدائها فيما يكمن أداؤها الحقيقي برأيي بالقرارات القصيرة غير المعللة أو "المتعوب عليها" نصًا من قبل طواقم القضاة.
قضايا الاعتقالات الإدارية لا تختلف طبعًا عن قضايا دستورية حقوقية عديدة لم نسمع عنها إما لتداولها بجلسات مغلقة مثل منع المعتقلين لقاء محاميهم وتمديد اعتقالات معتقل اشتكى التعذيب امام المحكمة وإما لإلزام الملتمسين سحب التماسهم لتجنب قرارات سيئة بحقهم تتمثل برفض الالتماس. لن تتطرق قائمة "المفاخرة" لأحمد مناصرة الشاب الذي حرم من حقه المطالبة بالإفراج المبكر ولن تشرك أحدًا برفض الإطلاق عن الأسير ناصر أبو حميد الذي صارع الموت أمام هيئاتها المتنكرة لوضعه الصحي إلى أن نهش السرطان آخر أنفاسه.
قد يكون التحدي الأكبر مع نهاية سنة 2023 أن نتعمد نشر قائمة قرارات بديلة للمحكمة العليا وباقي الهيئات القضائية الإسرائيليّة نعرض فيها الوجه الخفي للقضاء الإسرائيليّ الذي لم ينشرعنه كي لا يقرأ وكي لا يؤرشف في سجلات التأريخ القضائي الإسرائيلي.